اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية أثار عاصفة من المناقشات حول من الأفضل بالنسبة إلى روسيا، مرة أخرى هناك إغراء للنظر إلى المرشح الجمهوري دونالد ترمب باعتباره سياسياً أكثر قبولاً لموسكو، لأنه لا يستبعد التوصل إلى “صفقة” مع روسيا. تفكيره منصرف لعقد الصفقات، إنه يردد شعارات حول تعزيز المصالح الوطنية لبلاده، لكنه مستعد نظرياً لتبادل المنافع والمصالح. الصفقات تعقد بكل بساطة حين تتقاطع وتتوازى الفوائد والمصالح، حقيقة أن أي جمهوري يتحدث من موقع قوة لا تزعج سوى عدد قليل من المسؤولين في الكرملين، وفي طليعتهم الرئيس – الملك فلاديمير بوتين. المواطنون في سبع الأرض، في روسيا، اعتادوا على هذا منذ فترة طويلة، وهم مستعدون لسياسة القوة، لكن أولئك الذين يتوقعون “صفقات” مع الولايات المتحدة في عهد ترمب الجديد، أو في الأقل علاقة بناءة بروح الواقعية، أقلية بسيطة لا تتجاوز نسبتها ربع المواطنين.

سخرية بوتين الغامضة!

حين سئل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اسم المرشح المفضل لديه في الانتخابات الرئاسية الأميركية جاءت إجابته، في المنتدى الشرقي الذي عقد في سبتمبر (أيلول) الماضي، ساخرة بحنكة ومثيرة للاهتمام والفضول في الوقت نفسه.

وهو أجاب قائلاً “لقد قلت بالفعل: إن المرشح المفضل لدينا، إذا جاز التعبير، هو الرئيس الحالي السيد بايدن، لكن تمت إزالته من السباق، وهو أوصى بأن يدعم جميع أنصاره السيدة هاريس، لذلك سنعمل بوصيته وسنفعل الشيء نفسه، هذا أولاً، وثانياً إنها تضحك (هاريس) بصورة صريحة ومعدة لدرجة أن هذا يشير إلى أنها في حالة جيدة. والمستر ترمب فرض كثيراً من القيود والعقوبات ضد روسيا، التي لم يفرضها أي رئيس من قبل”، وقال بوتين: “ربما ستمتنع (هاريس) عن القيام بأفعال من هذا النوع”.

وتبين أن مجاملة فلاديمير بوتين لكامالا هاريس كانت بمثابة لغز ماكر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهم لا يعرفون كيفية الخروج منه.

هذا التصريح غير المتوقع للرئيس الروسي حول دعمه ترشيح كامالا هاريس لمنصب الرئيس الأميركي فاجأ الجميع، ليس في روسيا وحسب، بل وفي أميركا أيضاً. ولطالما كان ينظر إلى الزعيم الروسي على أنه أكثر ودية تجاه المرشح الجمهوري دونالد ترمب، لكن هل تغير ذلك أم أن بوتين يلعب لعبة ماكرة؟

وتعليقاً على كلام بوتين حول دعم ترشيح كامالا هاريس في السباق الرئاسي، قال ترمب في نيويورك إنه لا يفهم ما إذا كان ينبغي أن يكون سعيداً بهذا التطور للأحداث أم لا، وأضاف “اليوم دعم بوتين كامالا هاريس كمرشحة للرئاسة، لا أعرف ماذا أقول عن هذا، هل يجب أن أعتبر ذلك إهانة؟ أم أنه كان يساعدني بهذه الطريقة؟”.

في غضون ذلك اعتبر مستشار البيت الأبيض جون كيربي أنه من وجهة نظر واشنطن يتعين على الجانب الروسي الامتناع عن أي تصريحات في شأن السباق الرئاسي الأميركي، وأكد أن مثل هذه التصريحات لبوتين غير لائقة ولا تؤدي إلا إلى زيادة التوتر في العلاقات الثنائية.

وأضاف “الأشخاص الوحيدون الذين يجب أن يحددوا من الرئيس القادم للولايات المتحدة هم الشعب الأميركي، وسنكون ممتنين للغاية إذا توقف السيد بوتين، أولاً عن الحديث عن انتخاباتنا، وثانياً توقف عن التدخل”.

ونقلت وسائل إعلام أميركية عن كيربي قوله “لا ينبغي للرئيس بوتين أن يتحدث عن انتخاباتنا، ولا ينبغي له أن يدعم أي شخص بطريقة أو بأخرى”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وسارع السكرتير الصحافي لرئيس الدولة الروسية دميتري بيسكوف، تعليقاً على كلماته، إلى القول إن الوضع السياسي في الولايات المتحدة ليس من أولويات الحكومة الروسية. وأشار إلى أنه في الوقت نفسه، تعد روسيا ورئيسها جزءاً لا يتجزأ من الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة.

وقال بيسكوف مازحاً إنه بعد كلمات بوتين، يجب على الجميع أن يقعوا في حب ضحكة هاريس. ودعا الغرب نفسه إلى أن يحاول أن يفك شيفرة لهجة خطاب الزعيم الروسي، وقال “عندما يسأل بوتين عن الشؤون الدولية، يعلق عليها. أما بالنسبة إلى اللهجة، فربما ينبغي على المهتمين بهذا الأمر في الخارج أن يحاولوا بالفعل فهم ذلك، دعونا لا نحرمهم من هذه الفرصة”.

وقالت مراسلة شبكة “سي أن أن” في موسكو كلير سيباستيان، “أعتقد أننا بحاجة إلى الانتباه إلى لغة جسد بوتين، وابتسامته عندما يدلي بمثل هذه التعليقات، وكذلك ضحك الجمهور. أعتقد أن هذه هي الطريقة التي فسروا بها الأمر – التصيد بصورة أساسية. لا يفوت فلاديمير بوتين أبداً فرصة للسخرية وإلقاء ظلال سخريته المرة على الولايات المتحدة، وبخاصة على العمليات الديمقراطية في بلدنا”.

لغة الجسد وحركات الروح الروسية، تحاول أميركا كلها فك اللغز الغامض. في البداية لم يفهم دونالد ترمب كيفية الرد على كلمات بوتين، ثم شعر بالإهانة “لقد دعم كامالا! لقد شعرت بالإهانة الشديدة من هذا. أتساءل لماذا دعم كامالا؟ إنه لاعب شطرنج، هل يجب أن أنزعج من هذا ربما تم ذلك بابتسامة”.

ويقول الصحافي الأميركي غريغ غاتفيلد “لا أريد أن أزعجك بالطبع، لكن روسيا ليست هي التي تدمر إيماننا ببلدنا، بل حكومتنا هي التي تخبرنا أن ترمب لا يمكن أن يكون رئيساً لأن موسكو تفضل كامالا، نحن أنفسنا نضر بدولتنا. هل روسيا هي التي غطت على خرف بايدن أربع سنوات؟ هل روسيا هي التي قامت بالانقلاب حتى اكتشف مرض جو؟ هل روسيا هي التي رفعت مستوى الديمقراطي الوحيد على وجه الأرض الذي جعلك تفتقد بايدن؟”.

لكنك لن تشعر بالملل من بايدن، بعد عودته من الإجازة، وقيامه بتصرفات تجعلك تفكر لساعات طويلة: هل يمكن لهذا أن يصدر عن رجل طبيعي بكامل قواه العقلية؟

وقال المستشار السابق لبيل كلينتون دوج شوين إن “الاقتصاد، هو الاقتصاد لأسباب مفهومة”، وتابع “بقدر ما يريد بايدن أن يكون نشطاً، أنا متأكد من أن حملة هاريس ستقتصر على ولايتين أو ثلاث ولايات مثل بنسلفانيا أو ميشيغان، ما تريده كامالا هاريس هو أن تنفصل عن نفسها وتهرب من سجل إدارة بايدن – هاريس في الانتخابات الرئاسية”.

لا يمكنك الهرب من نفسك، وفي ميشيغان لم يكن بايدن بجانب هاريس، وتبين أن الخطاب أمام نقابة المعلمين كان غريباً تماماً. فجأة تحدثت ابنة أستاذ الاقتصاد في بيركلي من فوق المسرح بالطريقة التي تتحدث بها السيدات المتوحشات من الأحياء السوداء في برونكس أو جنوب شيكاغو.

اتضح أن دونالد ترمب لم يكن مخطئاً عندما اتهم منافسته بالتظاهر بأنها امرأة أميركية من أصل أفريقي فقط، فمن السهل فهم الفرق حتى من دون معرفة اللغة الإنجليزية. في ديترويت تتحدث هاريس مثل مغني الراب الأسود، وفي بيتسبرغ تتحدث بصوت عادي ومن دون لهجة.

بقيت هاريس لوقت متأخر في بيتسبرغ، جنباً إلى جنب مع الحاشية، استؤجر فندق “أومني ويليام بن” بأكمله تقريباً، وحول إلى مقر رئيس للتحضير للمناظرة التي خاضتها مع ترمب. أفضل المستشارين الذين عملوا مع هيلاري كلينتون وجو بايدن كانوا مشغولين هناك بتلقينها أصول الخطابة والبروتوكول.

حتى إن أحدهم انتحل شخصية ترمب، بحسب ما ذكرت شبكة “أن بي سي”، وقالت إن “مساعد هيلاري كلينتون السابق فيليب رينز لعب دور ترمب في بروفة المناظرة، كان يرتدي للجلسات البدلة البحرية المميزة للرئيس السابق وربطة عنق حمراء”. واستعداداً لذلك درست تفاصيل سيرته الذاتية في الردود، واستعدت أيضاً لاحتمال أن يدلي ترمب بتعليقات مسيئة عنها، فهل لبوتين علاقة من قريب أو بعيد بهذا المستوى من المناظرات والحملات الانتخابية الفالتة من عقالها؟

تنافس محموم!

لم يتبق سوى أيام قليلة حتى التصويت النهائي، في السابق كان هذا يعني أن الأميركيين سيعرفون في غضون تلك الأيام العديدة من سيصبح رئيسهم المقبل، لكن ليس هذا العام. فالفجوة بين المرشحين ضئيلة للغاية. أجرت شبكة “سي أن أن” استطلاعات جديدة للرأي وقال مذيع الشبكة التلفزيونية مايكل سميركونيش “في ست ولايات متأرجحة يظهر أن أياً من المرشحين لا يتمتع بقصب السباق”.

وفي هذه الأثناء، بدأت العملية الانتخابية. وبدأ إرسال بطاقات الاقتراع الأولى إلى الناخبين في الخارج، والتوقعات بإعلان فوز ترمب المبكر في الانتخابات الأميركية تضع نتائج الاقتراع على كف عفريت.

ويعتقد القائمون على الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي الأميركي من الحزب الجمهوري دونالد ترمب، أنه يستطيع إعلان نفسه فائزاً في الانتخابات قبل الموعد المحدد.

وذكرت شبكة “أن بي سي نيوز” نقلاً عن ممثلي مقر الحملة قولهم “تكهن الجميع بأن الرئيس السابق قد يكون مستعداً لتكرار انتخابات 2020 والإعلان سريعاً فوزه ليلة الانتخابات، عندما لا يكون ذلك معروفاً بصورة موثوق بها بعد”.

في الوقت نفسه أضاف محاورو القناة أن ترمب واثق “100 في المئة” من فوزه المفترض، وجاء على لسان ترمب نفسه، إذ اعتبر مرشح الرئاسة الأميركية عن الحزب الجمهوري يوم الـ23 من أكتوبر، أن منافسته عن الحزب الديمقراطي كامالا هاريس تتهمه بالفاشية بسبب خسارتها السباق الانتخابي.

 

وكتب ترمب في شبكة “تروث سوشيال” للتواصل الاجتماعي التي يمتلكها “ترى كامالا هاريس أنها تخسر بصورة ملاحظة، لذلك تقوم حالياً بتشديد لهجتها أكثر فأكثر، وذهبت إلى حد مناداتي بأدولف هتلر وأي شيء آخر”.

وفي وقت سابق ردت هاريس إيجابياً على سؤل قناة “سي أن أن”، عما إذا كانت تعتبر ترمب فاشياً.

وكان ترمب قدم شكوى إلى لجنة الانتخابات الفيدرالية المستقلة ضد حزب العمال البريطاني، متهماً إياها بـ”رعاية الحملة الانتخابية بصورة غير قانونية” للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس والتدخل في تقدمها. بدوره قال رئيس حزب العمال رئيس الوزراء البريطاني الحالي كير ستارمر، إن أعضاء حزبه “عملوا متطوعين في أوقات فراغهم”.

والجمهوريون هم الأكثر شكوى من احتمال التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، وقد سقطت بذور الفضيحة الأولى بالفعل على أرض الانتخابات في ولاية كارولينا الشمالية، التي تقع على رأس قائمة الولايات المتأرجحة، حيث ترسل بطاقات الاقتراع الغيابي.

وبعد ذلك هناك انقسام، ضباط الشرطة العاديون موالون لترمب. في مواجهة المدعية العامة السابقة كامالا هاريس، التي تصفه بأنه ليس أقل من مجرم مدان، ومعها نظام العدالة الليبرالي في مانهاتن.

وبالفعل في الـ18 من سبتمبر (أيلول)، كان بإمكان القاضي خوان ميرشان، الذي تمكنت ابنته من العمل ضمن فريق هاريس، أن يرسل الجمهوري ترمب إلى السجن لمدة أربع سنوات في قضية دفع أموال لممثلة إباحية، لكنه غير رأيه في اللحظة الأخيرة. مع هذا التصنيف والحرية، لا يزال أفضل من السجن، إذ يمكن أن يزيد التصنيف أكثر.

“هنا كان وضعاً فريداً – الشخص الذي على وشك الحكم عليه مرشح لمنصب الرئيس من حزب الرئيس”. كان القاضي ميرشان يوازن بين المصالح المتنافسة. يمكنه الانتظار. لن يذهب الحكم إلى أي مكان، وسيظل سيف العقوبات موجهاً إلى ترمب حتى بعد الانتخابات.

روسيا تراقب كل ذلك بدقة، وتعرف أن أية مراهنة على ترمب خاسرة سلفاً، فضلاً عن أن لا طائل منها، فهو يوم كان متهماً بالحصول على دعم روسي في ولايته الرئاسية الأولى لم يبد أي تعاطف معها، بل قام بفرض عقوبات قاسية عليها، بينما كان بإمكانه استخدام “الفيتو” الرئاسي ضد قرار الكونغرس بهذا الخصوص، أو وضع هذا القرار في أدراج البيت الأبيض.

ترمب يعطي روسيا من طرف اللسان حلاوة!

فوز ترمب في انتخابات عام 2016 قوبل بالتصفيق في موسكو، في ذلك الوقت كانت العلاقات الروسية – الأميركية تضررت بصورة خطرة بسبب التناقضات المتراكمة، وفي مقدمها القضية الأوكرانية، ثم بدا أن الوضع لا يزال قابلاً للعكس. قبل عام ونصف عام من فوز ترمب الانتخابي آنذاك، دخلت اتفاقات مينسك في شأن الصراع في دونباس حيز التنفيذ، وبقيت بقايا أنظمة الحد من الأسلحة. وهدد ترمب بـ”تجفيف المستنقع” للتخلص من هيمنة بيروقراطيي الدولة العميقة، وحل المشكلات المتراكمة في السياسة الخارجية والداخلية بضربة واحدة. كما بدا ناخبو ترمب الافتراضيين متقاربين في الروح – عمال مجتهدون من المناطق النائية الأميركية، ووطنيون في بلادهم، وأفراد أسر أقوياء، على عكس السكان العالميين والمجزأين في المدن الكبرى، الذين يعيشون إلى حد كبير في اقتصاد افتراضي وقطاع الخدمات. لقد حذر الأميركيون العالمون ببواطن الأمور والدبلوماسيون الروس ذوو الخبرة في ذلك الوقت من أنه لا ينبغي للمرء أن يعلق آمالاً كبيرة، ومن غير المرجح أن تؤدي شعبوية ترمب إلى عكس الاتجاهات الأمنية الموضوعية، وتبين في ما بعد أنهم كانوا على حق.

عكس الأمر التنفيذي الذي أصدره ترمب تحت الرقم 13883 لعام 2019 الإرادة السياسية لفرض عقوبات رداً على قضية ما يعرف بمحاولة اغتيال العميل المزدوج سرغي سكريبال في بريطانيا. ومع ذلك طبقت إدارة ترمب العقوبات بصورة مقتصدة خوفاً من الإضرار بالمستثمرين الأميركيين في روسيا. انتقد محامو وزارة الخارجية بشدة المبادرات المتطرفة لأعضاء الكونغرس في صورة “عقوبات صارمة” ومشروع قانون داسكا. وفي الوقت نفسه كان ترمب مؤيداً نشطاً للعقوبات ضد مشاريع خطوط أنابيب الغاز الروسية، وخصوصاً “نورد ستريم 2”.

وفي محاولة للضغط على الروس لإخراجهم من سوق الغاز الأوروبية، دعم قانون “بييسا” لعام 2019، ثم تعديلاته عام 2020. وتعرضت شركات التوريد الأوروبية، وبخاصة شركة “أول سايس” السويسرية، التي قامت بتأجير سفن مد الأنابيب، للترهيب الشديد بسبب التهديد بالعقوبات. وفي نهاية المطاف قام الروس بتعديل سفنهم للبناء، لكن بناء “نورد ستريم 2” تأخر. خلاصة القول هي إن ترمب أظهر استعداده لفرض العقوبات بصورة حاسمة حيثما يراها مناسبة وضرورية كتاجر أكثر منه سياسياً أو قائداً. وبصورة عامة، لم تؤد التحركات والدعوات نحو الحوار مع روسيا إلى أية نتائج عملية واضحة.

إضافة إلى ذلك تبين أن ترمب معارض نشط لنظام الحد من الأسلحة، خلال فترة رئاسته وعلى رغم الفضائح استمرت الآلة السياسية الأميركية في العمل بسلاسة. لم تمنعها الانقسامات الاجتماعية العميقة في المجتمع الأميركي، كما أشار الباحث الأميركي آرون فيلدافسكي في عام 1966، يوجد في الولايات المتحدة تقليدياً “رئيسان”، أحدهما في السياسة الخارجية والآخر في السياسة الداخلية، وهذا يعني أن الانقسامات الاجتماعية الداخلية لا تؤثر بالضرورة في السياسة الخارجية، التي تسير كالمعتاد.

إمبريالية أميركية موحدة خارجياً!

تعكس المعركة بين الديمقراطيين والجمهوريين إلى حد كبير عمليات وخلافات داخلية، مثل موضوع الهجرة والضرائب والضمان الصحي (أوباما كير) لكن في السياسة الخارجية، على رغم وجود الاختلافات فإنها ليست عميقة إلى حد كبير. علاوة على ذلك، شكل منذ فترة طويلة إجماع بين الأحزاب في ما يتعلق بروسيا.

ومن اللافت للنظر أنه بعد مغادرة ترمب للرئاسة، ظلت سياسة جو بايدن تجاه موسكو متوازنة إلى حد ما حتى نهاية عام 2021، وتجنب بايدن فرض عقوبات قاسية على مشاريع خطوط الأنابيب الروسية، واتخذ خطوة نحو ألمانيا والاتحاد الأوروبي. وفي اللحظة الأخيرة أعطى الضوء الأخضر من الجانب الأميركي لتمديد معاهدة ستارت، وفي عام 2021 وقع بايدن على الأمر التنفيذي رقم 14024، الذي أصبح في ما بعد الآلية القانونية الرئيسة لفرض عقوبات على روسيا، لكن قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا استخدم هذا الأمر بصورة محدودة.

وبدأ الوضع يتغير على خلفية تدهور العلاقات بين البلدين في شأن قضايا الأمن الأوروبي والقضية الأوكرانية، أي إن الأمر تحدده عوامل بنيوية داخل الدولة العميقة، وليس دور الرئيس الأميركي. ولو كان ترمب مكان بايدن في نهاية عام 2021، لكانت سياسته تجاه روسيا ذات طبيعة مماثلة. بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كانت واشنطن ستطلق العنان لـ”تسونامي من العقوبات” ضد روسيا، بغض النظر عمن يشغل المكتب البيضاوي.

 

إن فوز ترمب المحتمل في انتخابات عام 2024 لن يغير كثيراً بالنسبة إلى روسيا، إذ يعرف ترمب بأنه معارض للحد من الأسلحة، لكن تآكلها استمر في عهد بايدن، ويمكن لكل من دونالد ترمب وكامالا هاريس دق المسمار الأخير فيها. سيقوم ترمب بالضغط بصورة أكثر فاعلية من أجل تعزيز غزو موارد الطاقة الأميركية للسوق الأوروبية، بخاصة أن سياسة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا لن تسهم إلا في مثل هذا المسار.

إن تهديد ترمب الهزلي بإلزام حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين بدفع تكاليف الأمن لن يكسر تضامن “الناتو”، مثل هذه التهديدات لم يكن من الممكن أن تقوضها حتى في الولاية الأولى لترمب، واليوم على خلفية أزمة العلاقات مع روسيا، لن تؤدي إلى تغييرات. بخاصة أن الحلفاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي يسارعون من تلقاء أنفسهم إلى زيادة الإنفاق العسكري، بحجة الخوف من اجتياح روسي للقارة العجوز.

العقدة الأوكرانية!

لن يتمكن ترمب من فك العقدة الأوكرانية ما لم تكن الظروف الموضوعية جاهزة لحل الصراع، بما في ذلك، على سبيل المثال، استنفاد قدرات الموارد اللازمة لشن الصراع أو تحقيق انتصار حاسم لروسيا. وأخيراً من غير المرجح أن تؤدي عودة ترمب للسلطة إلى زعزعة استقرار النظام السياسي الأميركي، وإذا تفاقمت الانقسامات الداخلية فيه، فمن غير المرجح أن تؤثر في السياسة الخارجية. خلاصة القول هي أن نتائج الانتخابات الأميركية بالنسبة إلى روسيا ذات أهمية ثانوية بحتة أو حتى من الدرجة الثالثة. ومن السابق لأوانه اعتبارها عاملاً مهماً في علاقات روسيا مع الولايات المتحدة والغرب الجماعي، ومع ذلك تبقى مسألة اسم الرئيس الذي يتربع على عرش المكتب البيضاوي في البيت الأبيض مهمة للكرملين، لأنه يبني تكتيكاته واستراتيجية التعامل معه بناء على معلوماته الاستخبارية عنه وعن نزعاته وصفاته وميوله وأصوله وتطلعاته!

الكرملين يفضل هاريس!

منظر الكرملين المقرب من بوتين، الفيلسوف ألكسندر دوغين، يعتبر أن الانتخابات الرئاسية الأميركية “واعدة جداً” بالنسبة إلى روسيا، ولا جدوى من التدخل فيها. على رغم أن الاتحاد الروسي سيدعم نائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس، بحسب ما كتب على قناته في “تيليغرام” أخيراً.

وأضاف “إذا فاز ترمب، فسيتصرف هذه المرة بصورة مختلفة عن ذي قبل، ولن تتاح له فرصة أخرى لإحياء أفكاره. ولديه أفكار، إذ إنه يريد تغيير كل شيء في السياسة الخارجية والداخلية للولايات المتحدة. والآن لن يهتم بالمستنقع، سيحرقها بالنابالم فحسب، فهو في جوهره سيؤسس للفكرة الوطنية ضد العولمة، بل وربما يطرح السؤال الهيغلي المذهل حول الملكية الدستورية. وإلا فكيف نجعل أميركا عظيمة مرة أخرى إن لم يكن بإعلان الملكية؟ ونعم من المرجح أن يرفع ترمب العقوبات عن روسيا، ويحاول تفكيك تحالفنا مع الصين”.

وقيم دوغين بصورة هزلية الوعود الأخيرة للمرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترمب، برفع العقوبات عن روسيا إذا فاز في الانتخابات.

ومع ذلك يرى الفيلسوف أنه من الأكثر ربحية أن تدعم روسيا الاتحادية منافسة ترمب كامالا هاريس، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مازحاً في وقت سابق. “فبعد كل شيء، ستدمر أميركا بالتأكيد”، وأوضح أن هذا بالطبع سيكون أكثر نفعاً وموثوقية لروسيا وحلفائها.

بصورة عامة، وفقاً لدوغين، ستكون روسيا راضية عن كلا السيناريوهين – “كل من النظام الملكي الأميركي القوي العظيم، القائم على القيم التقليدية، ونظام الليبراليين المنحطين القائم على التخلي عن قيم الآباء المؤسسين ورواد الفضاء القدامى في المدار، بسبب النفعية التجارية ودعوة المهاجرين غير الشرعيين إلى سرقة المتاجر وقتل البيض”.

اختتم الفيلسوف الروسي “إنها انتخابات واعدة للغاية بالنسبة إلى روسيا، لذلك لا فائدة من التدخل فيها، لماذا؟”.

ففي مهرجاناته وحملاته الانتخابية، وعد ترمب بأنه يريد تقليل عدد العقوبات ضد روسيا قدر الإمكان. وأشار إلى أنه يعتبر فرض عقوبات على دول مثل روسيا خطراً على الدولار، لأنه بسبب الصراعات التي تدخل فيها الولايات المتحدة، يفقد المركز المهيمن للعملة الأميركية.

وبعد ذلك شكك نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف في كلام ترمب هذا، ووصف رجل الأعمال الأميركي الذي تحول لممارسة السياسة بأنه براغماتي وغير مستعد لبدء ثورة في الولايات المتحدة والوقوف ضد الخط المناهض لروسيا، أما هاريس فوصفها ميدفيديف بأنها عديمة الخبرة وغبية.

الرياح وأشرعة هاريس!

الكرملين يضحك في سره، هذا هو الوضع الحقيقي داخل أروقة ودهاليز القصر الرئاسي الروسي الموروث من عصر القياصرة. فعلى مدى الأسبوعين الماضيين، أصبح المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترمب أكثر عصبية ومزاجية من المعتاد. السبب الرئيس هو استطلاعات الرأي الجديدة التي تظهر أن رياح الانتخابات تهب بحسب ما تشتهي أشرعة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس.

فهي تتقدم على ترمب في أربع من سبع ولايات متأرجحة رئيسة، وهي الولايات ذاتها التي ستقرر من سيصبح رئيس الولايات المتحدة المقبل، وتتقدم هاريس على ترمب بأربع نقاط مئوية في بنسلفانيا وميشيغان وويسكونسن، وبخمس نقاط مئوية في أريزونا. إذا أخذنا جميع الولايات ككل، فإن هاريس تتقدم على ترمب بنقطتين مئويتين في الأقل بحسب ما تظهر نتائج الاستطلاعات ذات السمعة الطيبة.

وأهم القضايا بالنسبة إلى الناخبين هي الاقتصاد والرعاية الصحية والهجرة والإجهاض والجريمة، وبينما تخسر هاريس في ما يتعلق بالهجرة، فإنها تتقدم في كل القضايا الأخرى.

عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، فإن هاريس محظوظة للغاية: فالأساسات الأميركية جيدة للغاية، انخفض التضخم إلى 2.9 في المئة في يوليو (تموز) وأغسطس (آب) الماضيين، وهو ما يضمن أن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيخفض سعر الفائدة الرئيس في المستقبل القريب، وربما قبل موعد الانتخابات. وهذا يعني أنه ستخفض أيضاً معدلات الرهن العقاري، مما سيجذب مشتري المنازل. إضافة إلى ذلك، فإن البطالة منخفضة (نحو أربعة في المئة)، والأجور ترتفع بصورة عامة، ونما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.8 في المئة في الربع الثاني.

 

ومن أجل استغلال الزخم الاقتصادي، أعلنت هاريس خططاً تحظى بشعبية لدى الناخبين لخفض أسعار الأدوية والرعاية الصحية، وكذلك المواد الغذائية والعقارات.

وفي المقابل يتضمن برنامج ترمب الاقتصادي زيادة حادة في رسوم الاستيراد (بنسبة 60 في المئة) على كل السلع الصينية وبنسبة 10 في المئة على الواردات من دول أخرى، ووفقاً لتوقعات “دويتشه بنك” فإن مثل هذه السياسة التعريفية الجذرية ستؤدي إلى زيادة التضخم في الولايات المتحدة ما بين 1.4 و1.7 في المئة. وليس من المستغرب أن يثق الناخبون الأميركيون، وفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” في أوائل أغسطس، بهاريس أكثر من ترمب في ما يتعلق بمسألة من يستطيع إدارة الاقتصاد بصورة أكثر فاعلية.

لكن موضوع الإجهاض هو الأكثر عرضة للخطر بالنسبة إلى ترمب، على مدى السنوات الـ30 الماضية، كانت نسبة النساء اللاتي يدلين بأصواتهن في الولايات المتحدة تتجاوز دائماً نسبة الرجال. ومن المتوقع أن يتسع هذا الفارق هذا العام لسببين: أولاً انتماء المرشحة الرئاسية هاريس للجنس اللطيف، وثانياً أصبحت قضية حقوق المرأة في الإجهاض أكثر إلحاحاً في الانتخابات المنتظرة من أي وقت مضى، وذلك لأن المحكمة العليا في عام 2022، بفضل ثلاثة قضاة رشحهم ترمب، ألغت قانوناً فيدرالياً يسمح بالإجهاض في جميع الولايات، المشكلة بالنسبة إلى ترمب هي أن موقفه المتشدد لا يحظى بشعبية كبيرة بين النساء.

إذا كان ترمب في حالة تأهب قبل بضعة أشهر عندما قاتل ضد “جو النعسان”، فسيضطر الآن إلى القتال في مواجهة امرأة نشطة تصغره بـ20 عاماً وتدافع عن البرامج السياسية التي تحظى بشعبية كبيرة بين الناخبين.

وما يزيد الطين بلة أن ترمب يهاجم نفسه بنشاط خلال الحملة الانتخابية. على سبيل المثال، فقد صدقيته في أوائل أغسطس عندما ادعى أن هاريس “أخيراً فقط – فجأة! – أصبحت ذات بشرة داكنة من أجل الحصول على منفعة سياسية من هذه الحيلة”، لكن من المعروف أن والد هاريس أميركي من أصل أفريقي، وعرفت على هذا النحو منذ الطفولة، شعر عدد من الناخبين بالغضب من تصريحات وتصرفات ترمب الغريبة.

على هذه الخلفية، حذره مستشاروه باستمرار من الخوض في أمور شخصية أكثر من اللازم في هجماته اللفظية على هاريس. من الآن فصاعداً لا تصفها بأنها “غبية” و”مجنونة” و”سيئة”، فالوقاحة تنفر الناخبين المترددين الذين يحتاج ترمب بشدة إلى أصواتهم للفوز. كما يحثه المستشارون على عدم المبالغة في أسطورة “الانتخابات المسروقة” عام 2020، لأن ذلك سيثير غضب الناخبين بصورة كبيرة، لكن ترمب يتجاهل هذه التحذيرات.

كلما زادت شعبية هاريس اضطر ترمب إلى ابتكار قصص حول كيف أن الحشود الضخمة من المؤيدين في مسيراتها “مزيفة”، كما أن استطلاعات الرأي “كاذبة”، ووسائل الإعلام التي تغطي خطابات حملة هاريس الانتخابية تنشر “أخباراً ملفقة”، تبدو ديماغوجية ترمب مثيرة للشفقة في عيون عديد من الأميركيين.

ماذا يعني فوز هاريس للكرملين؟

بغض النظر، هاريس هي المفضلة لدى الكرملين وبوتين شخصياً في الوقت الراهن، وإذا فازت في الانتخابات، فماذا يعني ذلك بالنسبة إلى روسيا؟

من المحتمل جداً أنه في حال فوز هاريس، سيزعم ترمب وأنصاره مرة أخرى أن “الانتخابات سرقت” وستندلع اضطرابات جماعية – أكثر خطورة بكثير مما كانت عليه في يناير (كانون الثاني) 2021. يعتقد عديد من علماء السياسة والسياسيين الروس أن مثل هذا الانقسام الحاد في المجتمع الأميركي سيكون مفيداً للغاية لموسكو، ويقولون إنه كلما تورطت الولايات المتحدة في الفوضى والخلاف الداخلي، قلت القوة والموارد التي يتمتع بها البيت الأبيض في مواجهة روسيا.

علاوة على ذلك فإن اهتمام هاريس بأوكرانيا قليل وثانوي إلى حد ما، فهي لم تزر أوكرانيا قط، على عكس بايدن وأعضاء حكومته، وكذلك عدد من أعضاء الكونغرس، إضافة إلى ذلك فإن العلاقة بين هاريس والرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي باردة جداً على رغم أنهما التقيا ست مرات.

 

إضافة إلى ذلك ليس لدى هاريس، على عكس ترمب، أية “خطة سلام” لحل الصراع في أوكرانيا. وهذا يعني أنها على الأرجح ستواصل، بسبب الجمود، خط سياسة بايدن الخارجية في الاتجاه الأوكراني – على وجه التحديد، محاولة إجبار الكرملين على السلام من خلال المساعدة العسكرية لأوكرانيا والعقوبات ضد روسيا.

لكن هناك عامل واحد مهم للكرملين يأخذه في الاعتبار ويعول عليه، فإذا أصبحت هاريس رئيسة، فستنفق، كما وعدت، مبالغ هائلة من المال على البرامج الاجتماعية السخية في الولايات المتحدة. وإذا كان عليها أن تختار بين زيادة الإنفاق على الخدمات الاجتماعية أو الدفاع، فإن أولويتها ستكون الأولى بالتأكيد. وهذا يعني أنه ستترك أموال أقل لدعم كييف، وربما لن يكون لديها وقت لأوكرانيا على الإطلاق. 

عالم السياسة الروسي أرتيوم كوسوروكوف، أوضح لماذا يفضل الكرملين مرشحة الحزب الديمقراطي على المرشح الجمهوري الذي لا يتوانى عن مجاملة بوتين وروسيا؟ وقال من المريح أكثر بالنسبة إلى روسيا أن تصبح كامالا هاريس رئيسة للولايات المتحدة بدلاً من دونالد ترمب.

وأضاف “من الغريب أن هاريس هي الأفضل بالنسبة إلينا، وكما أشار فلاديمير بوتين بالفعل، فإنها ستصبح أضعف رئيس منذ بدء المنافسة الندية بين روسيا وأميركا”.

وهذا العالم السياسي واثق من أن كامالا هاريس، بصفتها رئيسة للبيت الأبيض، ستواصل سياسة الديمقراطيين المتمثلة في الوعود الفارغة.

تتحدث نائبة رئيس الولايات المتحدة الحالي أيضاً عن تعزيز القيادة الأميركية، في حين تظهر استطلاعات الرأي العكس، فحتى في أوروبا تتدهور صورة “العم سام”، ولم يعد بوسع الولايات المتحدة أن تكون نموذجاً لمجتمع مستقر ومزدهر.

وفي المناظرة بين هاريس وترمب، أولى كلا المرشحين اهتماماً كبيراً لموضوع الصراع في أوكرانيا. وأشار الخبير إلى أن الصراع الأوكراني له بالفعل منطقه الداخلي الخاص، وأن نظام فلاديمير زيلينسكي يقاتل عن الغرب ويقود البلاد إلى التدمير الذاتي.

وأوضح كوسوروكوف، عالم السياسة في جامعة موسكو الحكومية، بأنه “إذا قمت بإزالة أنواع مختلفة من التكهنات الإعلامية، فمن الغريب أن كامالا هاريس أكثر ربحية للكرملين ولروسيا من ترمب. إن ترمب يؤيد حماية وتعزيز المصالح الوطنية الأميركية وإحياء الصناعة الأميركية، وتعزيز المجمع الصناعي العسكري الأميركي. سيسعى إلى تحقيق أهداف وغايات موضوعية وقابلة للتحقيق، بينما كامالا هاريس يمكنها مواصلة هذه السياسة النيوليبرالية بمهاجمة خصومها الجيوسياسيين”.

وأوضح أن هذا مفيد لروسيا، لأن الولايات المتحدة ستنفق موارد هائلة على تعزيز نفوذها ووجودها في أوكرانيا وتايوان ومناطق أخرى من العالم.

وهناك فائدة أخرى تتمثل في أن الديمقراطيين، على نحو غريب بما فيه الكفاية، حذرون للغاية في شأن قضايا الردع النووي. قام بايدن في وقت واحد بتمديد معاهدة “ستارت-3″، وتتحدث كامالا هاريس أيضاً بصورة إيجابية عن معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى ومعاهدة “ستارت 3”. وقال العالم السياسي إن الديمقراطيين، على رغم سياستهم العامة غير الكافية، يتوصلون بسرعة كبيرة إلى إبرام اتفاقات مع روسيا في شأن هذه القضايا الحساسة الحادة.

وأشار كوسوروكوف إلى أن ترمب كان يدعو إلى الانسحاب من الاتفاقات المذكورة أعلاه، بفضل هاريس ستجهد الولايات المتحدة نفسها وتدفع اقتصادها إلى مزيد من الديون، وتضخ في المجمع الصناعي العسكري أموالاً غير مغطاة وغير مدعومة بأي شيء، وتجهد حلفاءها بالقوة، وتحافظ على الوحدة داخل الناتو.

وأشار الخبير إلى أن “السمة المهمة هي أن روسيا لا تتدخل في الانتخابات، كامالا هاريس مثل هيلاري كلينتون، تقول باستمرار إننا تدخلنا ونتدخل. ومع ذلك لا يوجد دليل، ومن خلال تصوير روسيا وهي تتدخل في الانتخابات، وبزعم أنها تهاجم أوكرانيا، فإنهم يحافظون على جمهور الناخبين، ويركزون انتباههم على هذه الاتهامات الأسطورية في الأساس، لكن هذه المزاعم لم تعد تعمل بفاعلية”.

بوتين النموذج المثالي!

يتندر المواطنون الروس بالقول: ربما يكون الرئيس فلاديمير بوتين بمثابة المقياس الرئيس للملاءمة المهنية لقادة كلا الحزبين السياسيين الأميركيين الرئيسين الذين يتنافسون للوصول إلى البيت الأبيض، ويطلق الرئيس الأميركي السابق الجمهوري دونالد ترمب على الرئيس الروسي لقب أستاذ السياسة العالمية، ويؤكد أن منافسته الديمقراطية كامالا هاريس ببساطة غير قادرة على اللعب على هذا المستوى. 

ومع ذلك يوبخ ترمب نفسه لأنه طيب القلب ومتسامح بصورة مفرطة مع الزعيم الروسي، ووفقاً له حتى عندما كان بايدن نائباً لرئيس الولايات المتحدة لم ينظر بجرأة في عيون بوتين قط، بل قال أيضاً بصورة مباشرة في الوقت نفسه إنه من المفترض أنه لم ير الروح وراء تلك العيون، صحيح أنه من المعروف عن بايدن أنه في مثل هذه الذكريات العامة عن ماضيه البطولي سيكذب – سيكذب بثمن بخس.

وجهان لعملة واحدة!

بطريقة أو بأخرى، يكاد يكون من المؤكد أن أحد هؤلاء المرشحين، ترمب أو هاريس، سيتولى صياغة سياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا على مدى السنوات الأربع المقبلة. وسألني أخيراً أصدقائي الروس الكثر: أي منهما أفضل أن يتربع على عرش المكتب البيضاوي في البيت الأبيض بالنسبة إلى الكرملين؟

في البداية ضحكت ثم فكرت، وأدركت أنني لا أعرف إجابة واضحة لهذا السؤال، وسرعان ما أصبح واضحاً أن الآخرين لا يعرفون أيضاً: حتى أولئك الذين بدا أنه من المفترض أن يفعلوا ذلك بسبب مسؤولياتهم ومعلوماتهم الاستخبارية.

 

أسر لي أحد كبار الدبلوماسيين الروس ممازحاً: “سنحتفل أياً كان الفائز”، وعندما سألته عن السبب، أجاب بالسخرية الحزينة نفسها: “ليس هناك فرق، لكن ذلك سيكون سبباً لرفع الكؤوس وشرب نخب الفائز بغض النظر عن اسمه وجنسه!”.

وهذا هو بالضبط ما يفكر به الروس، التنقيب عن مناسبة لرفع الكؤوس وتجرع مزيد من الفودكا، لقد ذكرت مرة أخرى أن الفجل ليس أحلى من البطاطا، لكن ما زلت لا أفهم سبب الفرح في هذا. اعتقدت أنهم ربما كانوا يقصدون أن “الأسوأ لأميركا هو الأفضل لموسكو”.

الأخروية الديمقراطية

الواقع أن سياسة أميركا ألحقت الضرر بصورة البلاد لفترة طويلة أكثر مما يستطيع أي شخص آخر أن يلحق بها الضرر، منذ فوز ترمب المثير في انتخابات عام 2016، بدأ هناك وضع أساس “حرب أهلية” أيديولوجية ومعلوماتية تدور رحاها في الخارج، وتشن المعارضة الديمقراطية ووسائل الإعلام القريبة منها حصاراً متواصلاً على البيت الأبيض الجمهوري.

وحاول المحاصرون مرتين بالفعل (عقب نتائج التحقيق الذي أجراه المستشار الخاص روبرت مولر، الذي كان يبحث عن آثار لتواطؤ ترمب مع روسيا، وأثناء عزل الرئيس للبحث عن أدلة مساومة ضد بايدن في أوكرانيا) من دون جدوى، والآن ينظرون إلى التصويت العام المقبل للناخبين الأميركيين باعتباره موقفهم الأخير والحاسم.

يجري تصوير المنافسة بين ترمب وهاريس على أنها صراع بين قوى “النور” و”الظلام”، أي إنه يرسم صورة لم تعد تذكرنا بالصراع السياسي بين برامج انتخابية فحسب، بل بالمعركة الأخروية بين الخير والشر. وعلى رغم محاولة تأطير ذلك بالدعوات التقليدية للوحدة الوطنية، إلا أن ذلك يبدو غير مناسب إلى حد ما: ففي مثل هذه الحالات يقاتلون حتى الموت.

بالمناسبة، لم يفاجئ هذا أحداً: لقد عرفت منذ فترة طويلة أن الليبراليين، مقارنة بالمحافظين، أكثر ضيقاً وعناداً من الناحية الأيديولوجية. ببساطة لأنهم يعتقدون أنهم لا يعتمدون على الإيمان، بل على المعرفة “العلمية”. ومن الواضح أن كل هذا، في سياق ما قبل الانتخابات، لا يبشر بالخير بالنسبة إلى أميركا. ويقدر الخبراء مقدماً ما يمكن أن يحدث إذا رفض الجانب الخاسر الاعتراف بالهزيمة بعد نتائج التصويت. كلا المعسكرين يستعد بالفعل لذلك، من خلال توظيف جيوش كاملة من المحامين، على سبيل المثال.

أما كيف تمكنت أميركا الهادئة والمزدهرة والواثقة من نفسها من الوصول إلى هذا الدرك فهو سؤال مفتوح، وبطبيعة الحال كانت جائحة “كوفيد-19” هي الضربة القوية التي تلقتها وأفقدتها كثيراً من احترامها المعتاد لذاتها، فإذا كانت أغنى دولة في العالم غير مستعدة لمواجهتها بصورة واضحة ومخزية، وبطبيعة الحال فإن الأزمة الناجمة عن “الطاعون السياسي” الحديث تهز ثقة أميركا بنفسها أيضاً وثقة حلفائها بها.

لكن من حيث المبدأ ظهرت أعراض المشكلات في وقت أبكر بكثير، في واقع الأمر كان انتخاب ترمب القومي والشعبوي والتطوعي رئيساً للبلاد بمثابة إشارة قوية على أن الشعب الأميركي (نصفه في الأقل) غير راض عن مسار حياته وينتظر التغيير.

أميركا على مفترق طرق

في مؤتمر الحزب الديمقراطي الذي تبنى ترشيح هاريس بدلاً من بايدن، لم يذكر للمرة الأولى تقريباً في تاريخ الولايات المتحدة مفهوم “الحلم الأميركي” على الإطلاق. وقال رئيس “إيمومو راس” الأكاديمي ألكسندر دينكين، في مناقشة: “في الواقع، لم يعد هذا الحلم موجوداً”.

وبالمناسبة يحاول ترمب دائماً الإيحاء بأنه وحده من يدافع الآن عن “الحلم الأميركي” من الفوضى الشاملة والجنون، ربما كان هناك “تدخل” مرة أخرى، تلميحاً إلى دور موسكو المحتمل في الانتخابات.

 

يجمع علماء السياسة الروس سواء من الموالين للكرملين أم الحياديين، أنه في الواقع ليست هناك حاجة إلى تدخل بلادهم في الانتخابات الأميركية. وأجمع المشاركون في مناقشة جمعت نخبة الدراسات الأميركية – الروسية على أن الانتخابات المقبلة لن تكون قادرة على تمهيد طريق جديد للمستقبل بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وشددوا على أن المهم أن تنتهي الدورة الانتخابية “المصيرية” الحقيقية في عام 2024 على سلام.

إيجاد الحلول للمشكلات والتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة الآن، لا بد أن يبحث عنه جيل جديد من القادة الأميركيين.

مستقبل العلاقات بين موسكو وواشنطن!

إن موضوع تحسين العلاقات الروسية – الأميركية أو في الأقل استقرارها في السنوات الأخيرة لم يفقد أهميته، على رغم حال الجمود تقريباً. لقد ظل التفاعل بين موسكو وواشنطن يتدهور بصورة مطردة منذ رئاسة باراك أوباما، ولم يغير التحول من الديمقراطي إلى الجمهوري ترمب الوضع، بل على العكس من ذلك كان هناك مزيد من العقوبات نفسها، كما أن وصول الديمقراطي بايدن إلى السلطة لاحقاً لم يحسن العلاقات أيضاً.

ومع ذلك لا يزال لدى المرشحين الرئاسيين الحاليين في الولايات المتحدة توجهات مختلفة تجاه روسيا، ووعدت هاريس بمواصلة نهج بايدن الذي فتح الطريق أمام عقوبات واسعة النطاق ضد موسكو بسبب عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا وزيادة الدعم العسكري والمالي لكييف إلى جانب حلفائها في الناتو، ويعتزم ترمب إنهاء الصراع الأوكراني على المدى القصير، ولمح إلى رفع الإجراءات التقييدية ضد روسيا.

ديمتري سوسلوف، نائب مدير مركز الدراسات الأوروبية والدولية الشاملة في المدرسة العليا للاقتصاد بجامعة الأبحاث الوطنية في موسكو، قال إنه إذا فازت هاريس فإن فريق السياسة الخارجية الخاص بها سيتكون من ممثلين عن “حزب الدولة العميق” و”التيار الديمقراطي”.

وقال “على وجه الخصوص سيقومون بتعيين ميشيل فلورنوي، التي كانت واحدة من أكبر الصقور في إدارة باراك أوباما (أقنعت الرئيس بالبدء في التدخل في ليبيا)، في وزارة الدفاع الأميركية، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الحالي ويليام بيرنز من المتوقع أن يحل محل وزير الخارجية، وقد يصبح دوردون فيل مستشاراً للأمن القومي لهاريس، وهو من أشد المؤيدين لتوسع الناتو شرقاً.

وتابع سوسلوف أنه من المرجح أن تبحث إدارة هاريس عن طرق لإنهاء الصراع في أوكرانيا، لكن من غير المرجح أن توافق على شروط روسيا أو حتى عن أي شيء قريب منها.

أما ترمب فسيحاول إنهاء الأزمة الأوكرانية في أقرب وقت ممكن من أجل تحرير الأموال والقوات لمحاربة الصين، ولا ينبغي لنا أيضاً أن تتوقع منه الموافقة على الشروط التي قد تكون مقبولة إلى الحد الأدنى بالنسبة إلى روسيا.

وأضاف الخبير أن إدارة ترمب قد تلجأ إلى الابتزاز وبعض الخطوات التصعيدية، عندما ترفض موسكو الخيارات التي تقترحها واشنطن لحل الصراع.

 

بدوره قال كبير الباحثين في معهد الولايات المتحدة وكندا فلاديمير فاسيلييف إن هاريس، على عكس ترمب، ليست شخصاً كاريزمياً، وهي سياسية ضعيفة بصورة عامة، تماماً مثل بايدن، الذي خرج من السباق.

وأضاف “هاريس ليست سياسية مستقلة على الإطلاق، إنها دمية وليست مهتمة بالسياسة الخارجية على الإطلاق. وإذا  فازت في الانتخابات، فستستمر على خط بايدن. هاريس ليس من النوع السياسي الذي يمكنه تغيير شيء ما”، وخلص الخبير إلى أنها لم تسهم ولم تأت بأي شيء خاص بها منذ دخولها السباق الانتخابي.

من وجهة نظر ديمتري سوسلوف من المدرسة العليا للاقتصاد بجامعة الأبحاث الوطنية، في الواقع لا يعد أي من الخيارات هو الأفضل بالنسبة إلى روسيا، فكلاهما من أسوأ الخيارات. ووفقاً له، هناك أخطار جدية مرتبطة بهاريس وترمب.

وفي عهد ترمب سيصبح خطر التصعيد والمواجهة العسكرية أكبر، وإذا انتخبت هاريس فإن إيجاد حل ما سيصبح أقل احتمالاً، ولن ترفع أية إدارة العقوبات عن روسيا ولن توافق على التقارب مع موسكو.

الميزة الرئيسة التي يتمتع بها ترمب بالنسبة إلى روسيا هي إضعاف علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها، بما في ذلك أوروبا. وخلص الخبير إلى أنه في عهد هاريس، على العكس من ذلك، سيكون هناك توحيد، وهو أمر سلبي بالنسبة إلى موسكو.

ووفقاً لفلاديمير فاسيليف من معهد الولايات المتحدة وكندا، بصورة عامة، يمكن اعتبار ترمب خياراً أكثر إيجابية، بما في ذلك بسبب آرائه المحافظة.

ويختم قائلاً “ترمب يعتقد أن الحرب الباردة يجب أن تنتهي، إنه ضد النظر إلى روسيا من منظور الماضي. هذه ليست دولة شيوعية أو يسارية، فروسيا دولة رأسمالية، مما يعني أن رأس المال الواحد يجب أن ينسجم مع الآخر، وهذا هو موقف ترمب. هاريس يسارية حقيقية، إنها تنظر إلى روسيا بصورة سيئة للغاية، وهي تعتبرها دولة رأسمالية متوحشة، لذلك فهي مستعدة لمحاربتها بسبب هذا. وهذا يعني، من الناحية الأيديولوجية، أننا نختلف معها تماماً”.

يقول الروس إن في كل هزل أو مزاح هناك غمز مضمر من الجد الغامض، لذلك فإن مزاح بوتين عن دعمه لهاريس فيه كثير من الإشارات الجادة والإيحاء المبطن.

نقلاً عن : اندبندنت عربية