أعادت سلسلة الإعفاءات الحكومية لعشرات قيادات الإدارة الأهلية السودانية على خلفية مساندتها قوات قوات “الدعم السريع” للأذهان، القرار التاريخي للرئيس السابق جعفر النميري بحل وإلغاء نظام الإدارات والنظام الأهلي برمته في البلاد في مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعد أن خلفت المواقف المتباينة للإدارات الأهلية تجاه الصراع الدائر في السودان ظروفاً مشابهة لتلك التي تسببت في حلها، كما أثارت من جديد جدلاً وتساؤلات حول جدوى ومستقبل ومصير النظام الأهلي القبلي بالبلاد الذي مزقته الحرب ودفعت به إلى حافة الزوال والتهديد بالحل والإلغاء.

 

سلسلة إعفاءات

وشهدت الفترة القليلة الماضية سلسلة إعفاءات متتالية لعشرات من قيادات الإدارات الأهلية في جنوب وغرب وشمال دارفور، شملت إعفاء أكثر من 77 من سلاطين ونظار وعمد من قبائل الترجم والداجو والمسيرية والهبانية والبنى هلبا والفلاتة (تلس) والتعايشة والمساليت والرزيقات وشرتاوية وشطاية، من المتهمين بموالاة “الدعم السريع” بولاية جنوب دارفور.

وجاء في حيثيات القرار “أن المعنيين خالفوا قانون الإدارة الأهلية بحشدهم المستنفرين من أبناء قبائلهم، وتحريضهم على تقويض مؤسسات الدولة، وتدمير العاصمة الاتحادية وولايات شمال ووسط وغرب دارفور والجزيرة وسنار والنيل الأبيض، كما تسببوا في هلاك عشرات الآلاف من أبناء قبائلهم التي تقع تحت إدارتهم”. ولم يكتف والي جنوب دارفور المكلف بشير مرسال حسب الله بإعفاء القيادات الأهلية، بل وجه الأجهزة المختصة بفتح بلاغات في مواجهة المعنيين وتقديمهم للعدالة، مطالباً مجالس شورى القبائل بالترتيب والتنسيق لاختيار البدلاء وفقاً لقانون الإدارة الأهلية الذي يصدر من وزارة الحكم الاتحادي بعد تحرير المناطق المشار إليها.

الهزة الأعنف

في السياق اعتبر سيد حبيب الله أمين تنسيقية قبيلة الحوازمة أن الإدارة الأهلية تعرضت خلال هذه الحرب لهزة هي الأعنف التي تعصف بها في تاريخها الطويل، تفوق تلك التي صاحبت حلها وإلغاءها كرد فعل من الرئيس السابق جعفر النميري على دعمها الطائفية المتمثلة في حزبي “الأمة” و”الاتحادي الديمقراطي” وقتذاك. وتوقع حبيب الله “أن تتخذ الدولة إجراءات عدة بعد أن تنتهي هذه الحرب أهمها: حل الإدارة الأهلية القائمة، وإصدار قانون جديد تشكل على أساسه الإدارة الجديدة وفق معايير محددة على رأسها المستوى التعليمي والقبول والأرض”. وتابع “تضرر جميع السودانيين من هذه الحرب التي تدور رحاها الآن، لكن رجال الإدارة الأهلية كانوا الأكثر تضرراً من انعكاساتها بسبب الدور الذي لعبوه في عمليات التجنيد والاستنفار في صفوف ميليشيات ’الدعم السريع‘، بعد أن استغل قائدها غفلة الحكومة التي كانت قائمة وإهمالها الإدارة الأهلية، واجتذب عدداً كبيراً من القيادات القبلية لتعلن دعمها الصريح لقوات “الدعم السريع”، مما أوقعها تحت طائلة القانون واعتبرت في حالة حرب مع الدولة”.

وكشف أمين التنسيقية عن أن قانوناً جديداً لتنظيم الإدارة الأهلية سيوضع لتحديد اختصاصاتها ومهماتها وحدود صلاحيات رجالها وقادتها، كما يضع اشتراطات وضوابط صارمة لاختيارهم وفق معايير محددة تبدأ من الشيخ والعمدة، أسفل السلم إلى الشرتاي والمك والملك وصولاً إلى الأمير.

 

هل تتلاشى الإدارة الأهلية؟

من جانبه رأى سيد أبو آمنة الأمين العام السياسي للمجلس الأعلى للبجا “أنه وبعد هذه الحرب الطاحنة لن تكون هناك إدارة أهلية وستتلاشى”، مبيناً أن الحرب هي في حقيقتها أحد تجليات الصراع الداخلي الناجم عن الظلم والإقصاء في السودان، لذلك ستظل تبتلع الجماعات القبلية الواحدة تلو الأخرى تمهيداً لنشوء دولة فيدرالية تدير فيها كل جماعة سكانية إقليمها من دون الحاجة إلى من يديرها لصالح المركز، وإلا فان البديل سيكون تفكيك السودان”، وأضاف أبو آمنة “أن الإدارة الأهلية ظلت تتأثر وتؤثر بصورة مباشرة مع الواقع السياسي لجهة أن السودان من الدول التي تعرف في العلوم السياسية بمجتمعات ’الموزايكو‘، وهي المجتمعات التقليدية ذات المزيج المتنوع من الثقافات والأعراق واللغات والأديان، إذ يحتفظ كل مكون من هذه المكونات بهويته وثقافته الخاصة داخل إطار التنوع العام، لكن يظل الولاء والانتماء الحقيقي فيها لوشائج الدم والقرابة والأواصر أكثر من أي شيء مركزي سواء كان حزباً أم فكرة أم طرحاً”.

الاستقطاب القبلي

وتابع الأمين العام السياسي للمجلس الأعلى للبجا “تتفاعل الإدارة الأهلية في مثل تلك المجتمعات بالأحداث الكبيرة مثل الحروب، ويحتدم الصراع السياسي المركزي لاستقطاب رؤوس القبائل، وبمجرد انضمام الناظر تعتبر كل القبيلة من أنصار الحزب المعني من دون الحاجة إلى إقناع جميع أفرادها، مما كان له الدور الأكبر في عمليات الاستقطاب التي تمت للقبائل من طرفي الحرب الراهنة”، ورأى أيضاً أن المركز ربما يستطيع استقطاب بعض القادة أو الأشخاص في تلك المجتمعات لمصالح لا تكاد تتجاوزهم كأفراد، “لكن في النهاية يظل ولاء القبيلة أو الجماعة السكانية لمجموعاتها وحقوقها وسلطتها على أرضها التاريخية، إذ إن جميع أحزاب السودان السياسية وحركاته المسلحة هي بالأصل قبائل وأواصر دم واحدة تتدثر بلافتات سياسية كغطاء خادع”، ولفت إلى أن جذور نشأة الإدارة الأهلية تعود لرغبة الاستعمار في خدمة أغراضه السياسية من خلالها، “وكان وقتها مضطراً إلى الاعتماد على قواعد المكونات الاجتماعية ذات السيادة على الأرض، التي تمثل الشعوب السودانية الأصيلة التي رفضت سيطرة مركزية الاستعمار، باستثناء بعض النظارات والإمارات والعموديات الجديدة التي أنشأها نظام الرئيس السابق عمر البشير، التي هي إما من مكونات حديثة قادمة من الخارج أو إمارات فرعية داخل المكونات الكبيرة بغرض تفكيكيها”.

فرصة الحرب!

وأشار أبو آمنة إلى أن “المظالم السياسية التاريخية الكامنة، مقروءة مع ما أتاحته الحرب للمجتمعات التقليدية للانعتاق من القبضة المركزية وظهور مساحات تمكنها من التحرك السياسي نحو مطالبها، تعتبر فرصة لشعوب كبيرة حصرها المركز لنحو 70 عاماً داخل إدارة منزوعة الصلاحيات، مما يدفعها إلى التحرك السياسي نحو هذا الطرف أو ذاك”، وقال أيضاً “الواقع اليوم أن السلطات باتت ضعيفة ومفككة، كون فترات الثورات والانقلابات والحروب تضعف الأحزاب لكن تبقى قوة الجماعات السكانية، ويتنامى دور الإدارة الأهلية الذي هو في الحقيقة دور شعوبها وناشطيها ومطالب الجماعات التاريخية، مما يجعل الفعل السياسي الأكبر للقبائل بعد الجيوش، لذلك يمكن السؤال أيضاً: هل ستتمكن الجماعات السكانية غير المنصهرة في الإدارة الأهلية من تغيير النظام بما تملك من ميليشيات بواجهات سياسية؟”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العودة الخطأ     

من جانبه اعتبر القيادي الأهلي بإدارة عمودية الرزيقات العمدة عبدالله البشر ضعينه “أن التراجع عن قرار حل الإدارة الأهلية الذي اتخذه الرئيس الأسبق جعفر النميري من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها السلطات المركزية، لأن عودتها رسخت لدى المجتمعات المحلية صورة ذهنية بأن وجود رجل الإدارة الأهلية ضرورة حتمية، لأنه لو قدر لذلك القرار أن يستمر حتى اليوم لتمكنت تلك المجتمعات من تجاوز الطريقة التقليدية للإدارة”، وأقر البشر بأن الإدارات الأهلية التي اتخذت مواقف داعمة (للتمرد) ارتكبت خطأ جسيماً لأن الأصل والأفضل لها كان الابتعاد من العمل السياسي والاكتفاء بالعمل الأهلي”، ورأى القيادي الأهلي أن القرارات التي اتخذتها بعض ولايات دارفور بحل الإدارات الأهلية وإعفاء قياداتها القبلية، قد تكون خطوة مختلف عليها، لكنها بكل تأكيد ستسهم في إضعاف دور وشخصية رجل الإدارة الأهلية أمام مجتمعه.

إعادة تقييم

على نحو متصل رجح الباحث في مجال فض النزاعات يوسف علي نورين أن تتجه السلطات في ظل الظروف التي أفرزتها الحرب الحالية نحو إعادة تقييم واسع لدور النظام الأهلي وإداراته القبلية، “وربما تتخذ إجراءات بإعادة شاملة لهيكلتها أو حتى حلها، بخاصة بعد انخراطها المستمر في الصراعات الداخلية وعجزها في الحفاظ على النسيج الاجتماعي وتحولها إلى جزء من الصراع نتيجة مسيرة تسييسها الطويلة”، واعتبر نورين أن الإدارات الأهلية في السودان شكلت حتى الماضي القريب، جزءاً أساسياً من الهيكل الاجتماعي التقليدي، “لكنها ظلت تواجه تحديات وتغييرات ملاحظة في الفترات التالية للحروب والنزاعات، مما يجعل مصيرها بعد هذه الحرب يتوقف على مدى قدرتها على التكيف مع المتغيرات السياسية والاجتماعية، والقيام بدور إيجابي ومحايد في صنع السلام والاستقرار بالبلاد”، وتابع “تاريخياً شهد السودان محاولات لتفكيك الهياكل التقليدية للنظام الأهلي، أبرزها قرار حلها وإلغائها نهائياً خلال عهد الرئيس السابق جعفر النميري، وسعى إلى إبداله بنظام إداري أكثر حداثة وارتباطاً بالمركز، على أساس أنه كان يعزز الانقسامات القبلية والطائفية، ويتعارض مع رؤية الدولة القومية الموحدة”.

فراغ واستقطاب

وأوضح الباحث في مجال فض النزاعات أن الفراغ الإداري الذي تسبب فيه هذا الإلغاء في المناطق الريفية “دفع الحكومات اللاحقة إلى إعادة النظر في القرار، ثم عادت بالإدارة الأهلية، بصورة جزئية، في حقبة الديمقراطية الثالثة، لكن تلك العودة جعلت القبائل وإداراتها عرضة للاستقطاب الحاد بين الحزبين التاريخيين المتنافسين (الأمة والاتحادي) حتى بلغ بهما الأمر إلى درجة تسليح كل منهما للقبائل المؤيدة له، مما تسبب في نشوب نزاعات عنيفة عمقت الصراعات الدامية التي ما يزال يعيشها إقليم دارفور حتى الآن”، ورأى نورين أن كثيراً من مناطق السودان ما زالت أقرب إلى المجتمعات الانتقالية التي تحكمها الأعراف والقبيلة عبر الإدارة الأهلية، “لذلك فمن الحكمة أن تتعهد السلطات مثل تلك المناطق بالتنمية العادلة ثم تترك للتطور الطبيعي للمجتمع أن يلعب دوره في التخلص من نظمه التقليدية القديمة لتنحسر بصورة تدريجية وتلقائية، مثلما حدث في عدد من المناطق الحضرية بالسودان”.

تاريخ وتطور

تاريخياً يرجع دور الإدارة الأهلية في السودان إلى فترة سلطنات الفونج ودارفور وتقلي والمسبعات، لكن الإدارة البريطانية المستعمرة عمدت بين عامي 1937 و1942 إلى تقنين عملها، ومنحت قادتها في المجتمعات المحلية سلطات إدارية وشبه قضائية. وفي عام 1970 ألغى النميري نظام الإدارات الأهلية باعتبارها امتداداً لسياسات الاستعمار ووسيلة حكم تجاوزها الزمن، لكن الحكومة الديمقراطية الحزبية برئاسة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي أعادتها مرة أخرى، لأسباب تتعلق بضمان الولاء السياسي.

وسعياً من نظام عمر البشير إلى ضمان ولاء زعماء القبائل لحزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً، وسع صلاحيات وسلطات الإدارة الأهلية، مما فاقم من الصراعات والاستقطاب السياسي وسط المكونات والقيادات القبلية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية