قبيل الذكرى الثالثة للغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في الـ24 من فبراير (شباط)، سلكت الحرب منعطفاً دراماتيكياً وغير متوقع. فقد فاجأت الولايات المتحدة الجميع بتراجعها عن دعم كييف، وسحبت مساعداتها لها بعدما كانت قد تعهدت الوقوف إلى جانبها “مهما تطلب الأمر”.
في المقابل، تعيش دول أوروبا حالاً من الذعر، بينما يتصاعد التوتر الذي ظهر إلى العلن بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب.
أما الزعيم الروسي فلاديمير بوتين فيبدو أنه بات صاحب اليد الطولى في هذه المرحلة. ورغم أن ترمب قد لا يكون السبب الرئيس في المأزق الراهن الذي تعيشه أوكرانيا، فإنه قد أضاف إليه معضلة أكبر وأشد تعقيداً بالنسبة إلى كييف.
وفي عودة بالذاكرة إلى المرحلة التي نشبت فيها الحرب في الساعات الأولى من صباح الـ24 من فبراير عام 2022، صُدم العالم حينها بالنبأ، لكنه لم يكن متفاجئاً تماماً بوقوعها. فقد أسهمت على الأقل تحذيرات مسبقة من الهجوم الروسي، في تشكيل جبهةٍ غربية موحدة ضد موسكو.
ومع تراجع آمال الكرملين في تحقيق نصر سريع على أوكرانيا، وتعاظم ثقة كييف بنفسها، ازداد التماسك الغربي. وجاء التعبير عن هذا التحول في المشاعر على لسان جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، في التاسع من أبريل (نيسان) من ذلك العام، عندما قال إن روسيا يجب أن تُهزم في ساحة المعركة.
كما سبق ذلك بأسبوعين، تصريحٌ للرئيس الأميركي آنذاك جو بايدن قال فيه إن بوتين “لا يمكنه البقاء في السلطة”. وبحلول سبتمبر (أيلول) من عام 2022، بعدما استعادت القوات الأوكرانية مساحات واسعة في منطقة خاركيف، أعلنت رئيسة “المفوضية الأوروبية” أورسولا فون دير لاين، أن “الاقتصاد الروسي في حالٍ يُرثى لها”، حتى إنها ذهبت إلى القول إن موسكو تعيد استخدام رقائق ماكينات جلي الصحون في صواريخها.
وفي أوج نشوة الانتصارات، أصدر الرئيس زيلينسكي في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول)، قراراً رسمياً يحظر إجراء أي مفاوضات مع الزعيم الروسي، مؤكداً أن السبيل الوحيد لإنهاء الحرب هو: هزيمة فلاديمير بوتين.
وبدا أن الخطة الأولية لزعيم الكرملين قد فشلت بالفعل. فقد اضطُرت القوات الروسية إلى التراجع من خاركيف والتخلي عن موطئ قدمٍ استراتيجي لها على الضفة اليمنى لنهر دنيبر في مدينة خيرسون الساحلية الجنوبية. وفي الـ21 من سبتمبر (أيلول) 2022، وجد بوتين نفسه مضطراً لإعلان التعبئة الجزئية في روسيا، وذلك لأول مرةً منذ الحرب العالمية الثانية، في محاولةٍ لتعويض النقص في عديد قواته المحترفة.
لكن كيف انقلبت الأمور؟ مع انطواء سنة ثالثة من الحرب، تلاشى الشعور الغربي السابق بالانتصار. ففي الـ13 من يناير (كانون الثاني) الماضي، حذر الأمين العام لـ”حلف شمال الأطلسي” (ناتو)، مارك روته، من أن “ما تنتجه روسيا عسكرياً في ثلاثة أشهر، يعادل ما تنتجه دول الحلف مجتمعةً خلال سنة كاملة، بدءاً من لوس أنجليس وصولاً إلى أنقرة”. وهو تصريح يتناقض بشكل صارخ مع التفاؤل الذي كانت قد عبرت عنه السيدة فون دير لاين في عام 2022، عندما أعلنت أن “الاقتصاد الروسي هو في وضع يُرثى له”.
وعلى رغم أن إدارة الرئيس الأميركي بايدن سارعت في أيامها الأخيرة إلى إرسال مزيدٍ من شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا، وتشديد العقوبات على موسكو، فإن ذلك لم يكن كافياً لإخفاء حقيقةٍ واضحة مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد قادرةً على تحمل تمويل أوكرانيا بالمستوى ذاته الذي واظبت عليه خلال الأعوام الثلاثة الأولى. والآن، أي رئيس أميركي سيجد صعوبة كبيرة في تمرير مشروع قانونٍ آخر عبر الكونغرس لتمويل أوكرانيا.
يُضاف إلى ذلك أن دونالد ترمب لا يشبه غيره من رؤساء الولايات المتحدة. ففي الشهر الأول من دخوله البيت الأبيض، قام بتغيير موقف بلاده من أوكرانيا بشكلٍ دراماتيكي ومفاجئ.
إلا أن المشكلة الجوهرية كانت قائمة منذ البداية، وهي: كيف يتعامل الغرب مع حربٍ لا تستطيع أوكرانيا الانتصار فيها، بينما تميل الكفة تدريجياً لمصلحة روسيا؟ فمنذ فشل الهجوم المضاد الذي طال انتظاره في صيف عام 2023، بات من الواضح أن النصر العسكري أصبح بعيد المنال بالنسبة إلى أوكرانيا. لذا، فإن المضي في تقديم الدعم العسكري على النحو الراهن، لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد النزاع، وليس تغيير مسار الحرب.
من وجهة نظر ترمب، هذه الحرب هي حرب سلفه جو بايدن التي خسرها. وعلى المستوى السياسي، من الأسهل بكثير على السيد الجديد للبيت الأبيض أن يدفع في اتجاه السلام مقارنة بنظرائه الأوروبيين، خصوصاً أنه خاض حملته الانتخابية للعودة إلى كرسي الرئاسة على أساس مناهضة الحرب، وألقى باللوم على بايدن في استمرارها، زاعماً أنها لم تكن لتحدث أبداً لو كان هو في البيت الأبيض. وأكد ترمب حرصه على إيجاد حل سريع لهذا المأزق، والمضي قدماً. وفي حال لم ينجح، يمكنه ببساطة غسل يديه من الأمر وترك الأوروبيين يتحملون التبعات.
من الواضح أن أوروبا في حيرةٍ من أمرها، في شأن المضي قدماً. فهي من جهة لا يمكنها قبول الهزيمة، ومن جهة أخرى لا تستطيع أن تتجاهل حقيقة أن أوكرانيا لن تستطيع الفوز بالحرب من دون دعم الولايات المتحدة. ويتجلى مدى اليأس الذي تشعر به دول القارة في “الاجتماعات الطارئة” التي دعا إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث جرت مناقشات مسهبة لسيناريوهات مفترضة، وبصراحة غير محتملة إلى حد كبير، تتعلق بنشر قوات أوروبية في أوكرانيا.
وفي أعقاب محادثات روسية مع الولايات المتحدة استضافتها المملكة العربية السعودية، أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف موقف بلاده بالقول: “إن وجود قواتٍ لـ’حلف شمال الأطلسي‘ في أوكرانيا، تحت أي علمٍ أجنبي، سواءٌ كان الاتحاد الأوروبي أو أي علمٍ وطني آخر، هو أمرٌ غير مقبول”. والأوروبيون ببساطة ليسوا في وضع يسمح لهم بفرض شروط على الكرملين.
في الذكرى السنوية الثالثة للغزو الروسي لأوكرانيا، يمكن القول إن أقصى ما يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفعله هو الإعلان عن حزمةٍ جديدة من العقوبات على موسكو، وستكون هذه المرة الحزمة الرقم 16. لكن مع التحول في موقف الولايات المتحدة في شأن أهداف الحرب، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الاستراتيجية الأوروبية في هذا الصراع في حالٍ يُرثى لها.
من الواضح هنا أن موسكو ليست تحت أي ضغطٍ للتسرع في إبرام صفقة مع كييف لا تروق لها. والشروط الروسية التي باتت واضحة تتضمن: اعترافاً رسمياً من أوكرانياً بأن المناطق الأربع التي ضمتها موسكو في سبتمبر (أيلول) عام 2022، بما فيها شبه جزيرة القرم، باتت الآن جزءاً من روسيا، وانسحاب القوات الأوكرانية المتبقية من تلك المناطق. كما يتعين على كييف التعهد باعتماد حيادٍ دائم، وفرض قيودٍ على قواتها العسكرية، إلى جانب الاعتراف بالحقوق اللغوية الروسية في أوكرانيا وإقرارها، وحظر الأحزاب اليمينية المتطرفة.
هذه الشروط هي طبعاً غير مقبولة على الإطلاق بالنسبة إلى كييف. فرغم عدم وجود مخرج لأوكرانيا يحفظ لها ماء الوجه، فإنها ليست في وضع يائس إلى حد يدفعها لقبول مثل هذه الصفقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هنا، فإن الطريقة الوحيدة لفرض مثل هذه الشروط على العاصمة الأوكرانية، تكون على أثر انهيار عسكري كامل للقوات الأوكرانية، وهو ما يبدو غير مرجح في الوقت الراهن، أو تضافر ضغوط من دول الغرب لفرض الشروط الروسية غير المستساغة. لكن هناك انقساماً في الغرب حول هذه المسألة، بحيث يصر الأوروبيون على أن أوكرانيا يجب أن تواصل القتال حتى تتمكن من التفاوض “من موقع قوة”.
إلا أنه من غير المنطقي توقُع أن تكون أوكرانيا في وضعٍ أقوى بحلول الوقت نفسه من السنة المقبلة. ففي أعقاب ذروة الثقة لديها التي سادت في أوائل عام 2023، عندما أعلن فولوديمير زيلينسكي أن “عام 2023 سيكون عام انتصارنا!”، تراجع موقف كييف ليزداد ضعفاً مع مرور الوقت، ومع حلول كل ذكرى سنوية للغزو. وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه الآن، فقد تحتاج روسيا حتى نهاية السنة الجارية للسيطرة على بقية إقليم دونباس الشرقي. وفي حال عدم حدوث ذلك، فإن نهاية الحرب ستظل غير مرجحة على أي حال.
لهذه الأسباب، ليس هناك ما يضمن أن المحادثات بين الولايات المتحدة وروسيا ستؤدي إلى حلٍ للنزاع. وهذا يعني للأسف أن المعارك الأشد دموية في الحرب لم تأت بعد، حيث يسعى الجيش الروسي إلى تعظيم تفوقه العسكري.
وفي سياق تأكيدات جوزيب بوريل، فإن نتيجة الحرب في أوكرانيا لا تزال على الأرجح رهناً بالحسم في ساحة المعركة.
ألكسندر تيتوف هو محاضر في التاريخ الأوروبي الحديث في “جامعة كوينز بلفاست” Queen’s University Belafst. هذا المقال أعيد نشره من موقع “ذا كونفرسايشن” The Conversation الإخباري، بموجب رخصة “المشاع الإبداعي” Creative Commons. لقراءة النص الأصلي يُرجى النقر هنا
نقلاً عن : اندبندنت عربية