أفضل ما في الحروب هو نهايتها، ووراء نهاية كل حرب هناك بداية لحرب من نوع آخر، حرب مع الزمن لإعادة الترميم وبناء ما هدم، ولعل نهاية الحرب في سوريا كانت واحدة من أهم الزلازل السياسية التي هزت الإقليم نهاية 2024، ومع هذه النهاية بدأت التحديات الكبرى واحدة تلو الأخرى تواجه حكام سوريا الجدد.
ليس صحيحاً على الإطلاق أن سوريا دولة فقيرة، بل يمكن القول إنها واحدة من أغنى دول الشرق الأوسط إذا ما نظرنا بتمعن إلى الثروات التي تتمتع بها البلاد، بعيداً من الحرب التي شنها نظام البعث ضد شعبه فدمرت البشر والحجر.
يعبر من سوريا عدد من الأنهار، أهمها وأكبرها نهر الفرات الذي يعد ثاني أكبر نهر بالوطن العربي بعد النيل، وكذلك يمر بها أنهر دجلة والخابور والعاصي وبردى وغيرها، وعلى ضفاف هذه الأنهار مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة القابلة للزراعة التي من شأنها في حال زرعت أن تكفي جميع سكان سوريا من كل ما يحتاجون إليه من القمح والقطن والخضار والفواكه ومنتوجات الأرض، علماً أن سوريا ما تزال حتى اليوم تصدر المنتجات الزراعية إلى مختلف الدول العربية.
في شمال جنوب سوريا تمتد صحراء واسعة “بادية الشام” تبدأ من مدينة تدمر بريف حمص وتجتاز الحدود العراقية، وبقدر ما فوق هذه الصحراء من رمال وتراب يوجد تحتها نفط وغاز من شأنه أن يحقق اكتفاء ذاتياً للبلاد في حال استثمر وسيطرت الحكومة على كامل الجغرافيا السورية.
وبعيداً من الثروات الباطنية، فإن سوريا بلد سياحي بامتياز، تتوفر فيه معالم تعود لآلاف السنين، ومناظر طبيعية خلابة، كل هذه الثروات تشير إلى غنى فريد تتمتع به البلد التي مزقتها الحرب، ويبحث اليوم أبناؤها عن مستقبل يليق ببلد عربي بحجم سوريا، واليوم بعد إعلان بدء إنتاج الغاز في بئر جديد بريف حمص تطرح كثير من الأسئلة من قبيل هل حقاً يمكن لسوريا أن تحقق اكتفاء ذاتياً من الطاقة؟ وهل ينعم أهلها بعودة كاملة للكهرباء؟ وهل تصبح سوريا بلداً مصدراً للنفط والغاز؟ هذه الأسئلة وغيرها تحاول “اندبندنت عربية” أن تجيب عنها في هذا التقرير مع عدد من الباحثين والمختصين.
“تياس 5″… ضوء في النفق
في الـ20 فبراير من (شباط) الجاري، أعلن وزير النفط السوري غياث دياب، بدء الإنتاج من بئر “تياس 5” للغاز في ريف حمص، بطاقة تبلغ 130 ألف متر مكعب يومياً، مشيراً إلى ربط إنتاج البئر الجديدة بالشبكة الغازية، بهدف دعم محطات توليد الطاقة الكهربائية، وفق ما أفادت به وكالة الأنباء السورية (سانا).
في عام 2010 كانت سوريا تنتج يومياً 30 مليون متر مكعب من الغاز، وبسبب الحرب انخفض هذا الرقم إلى 10 ملايين متر مكعب يومياً، بالمقابل تحتاج البلاد إلى تشغيل محطات الكهرباء كافة إلى 18 مليون متر مكعب يومياً، ولذلك كان النظام المخلوع يعتمد على الاستيراد لتأمين 95 في المئة من احتياجات البلاد النفطية، وكانت إيران المورد الأساس للنفط على رغم العقوبات الغربية المفروضة على النظامين الإيراني والسوري، وبحسب الأرقام الرسمية كانت سوريا تستورد شهرياً نحو 5 ملايين برميل.
وعلى رغم النفط الإيراني إلا أن البلاد تعاني عجزاً بالكهرباء يصل إلى 80 في المئة من احتياجاتها الفعلية، فضلاً عن الأضرار الكبيرة التي لحقت بمحطات التوليد نتيجة تعرض بعضها للقصف، وقدم بعضها، وفي هذا السياق قال وزير الكهرباء السوري عمر شقروق في حديثه لوكالة “سانا” إن هناك “جزءاً كبيراً من محطات التوليد، وعددها في سوريا 12 محطة، تعرض لأضرار جسيمة أدت إلى خروج بعضها عن الخدمة، والقدرة الإنتاجية لمحطات التوليد الحالية 4000 ميغاواط، لو توفر الوقود اللازم لتشغيلها، بينما الاستطاعة المولدة حالياً هي بحدود 1300 ميغاواط، وحاجة البلد تقدر بـ6500 ميغاواط”.
أهمية البئر الجديدة
المتخصص الاقتصادي والمسؤول السابق في قطاع النفط في شركة “كونيكو” أسعد العشي، يقول في حديثه لـ”اندبندنت عربية”، إن “بئر تياس 5 تأتي ضمن تجمع حقول الشاعر الشهيرة وسط البادية السورية بين تدمر ودير الزور، وحقول الشاعر كانت تغذي معملين أساسيين في محافظة حمص هما معمل حيان ومعمل أبلغ، أما بالنسبة إلى بئر التياس فاستصلح قبل سقوط النظام، وسوريا اليوم هي بحاجة إلى إعادة تأهيل القطاع بصورة كاملة لرفع قدرة الإنتاج، إذ إن البلاد بصورة فعلية تحتاج إلى نحو 340 مليون قدم مربع من الغاز، ومن دون تحقيق هذه الكمية من الإنتاج لا يمكن تشغيل الكهرباء بالحاجة التي تكفي كامل البلاد، لذلك هناك حاجة إلى إعادة استصلاح وتشغيل حقول الشاعر كافة، وإعادة تشغيل معمل كونيكو، وهذا – أي معمل كونيكو – يحتاج إلى عقد اتفاق بين الحكومة وقوات سوريا الديمقراطية، لأن الحقل يقع في مناطق سيطرة قسد شمال شرقي البلاد”.
شروط أولية للتعافي
ويوضح العشي أن إعادة استصلاح واستثمار النفط والغاز السوري له متطلبات وشروط يجب تحقيقها، ويشير إلى ثلاثة شروط أساسية، “أولها رفع العقوبات كافة المفروضة على القطاع النفطي في سوريا، وثانيها رفع العقوبات المفروضة كافة على القطاع المالي والمصرفي في البلاد، والشرط الثالث هو توفير البيئة الآمنة الداعمة للاستثمارات الأجنبية للدخول إلى سوريا، إذ إن هناك ضرورة ماسة إلى دخول الاستثمار الأجنبي، والسبب في ذلك هو أن الشركة السورية للغاز والنفط لا تمتلك التكنولوجيا اللازمة لإعادة تأهيل هذه الآبار”. وبالنسبة إلى وضع الحقول حالياً، يقول المسؤول السابق في “كونيكو”، إن بعضها مثل حقل رميلان بريف الحسكة ما يزال وضعه مقبول، لكنه يشير إلى أن جزء كبير من حقول محافظة دير الزور تعرض للدمار.
ويكشف العشي أن الإنتاج يكون بثلاث مراحل أو ثلاث طرق، “الأولى هي المرحلة الطبيعية، والثانية هي ضخ الماء داخل المكمن، والطريقة الثالثة تتطلب ضخ ثاني أوكسيد الكربون مع البخار”.
متى تبدأ سوريا تصدير الغاز؟
المدير المالي والاقتصادي الدكتور فراس شعبو، يقول في حديثه لـ”اندبندنت عربية”، إن “هذه البئر صغيرة جداً في عرف قطاع الغاز، بالتأكيد ستسهم في تحسين الوضع بسوريا، لكن من المبكر جداً القول إن سوريا ستعود لوضع التصدير، ولا يمكن الحديث عن التصدير قبل سبع إلى ثماني سنوات على أقل تقدير، فسورياً تحتاج يومياً إلى ما يقارب 18 مليون متر مربع من الغاز حالياً، لذلك في حال أعيد تفعيل آبار النفط والغاز فكلها ستذهب للاستهلاك المحلي، وسوريا خارجة من أتون حرب مدمرة ووضعها الاقتصادي مترهل، والاحتياج المحلي كبير جداً، وإذا فعلت حقول أخرى قد تسهم في تخفيف الأزمة وانخفاض أسعار الغاز الطبيعي للمواطنين، وكل ما يجري إنتاجه لا يكفي لسد الاحتياجات، لكن نأمل تفعيل الآبار كافة وصيانة المعطلة منها، فمثل هذه الاكتشافات قد تسهم في تحسين وضع الكهرباء”.
ويضيف شعبو أن “رفع العقوبات مهم جداً لإعادة استثمار مجال الطاقة، وهناك أمل كبير برفع العقوبات قريباً، مما من شأنه أن يسهم في تسريع الإنتاج وانخفاض أسعار مشتقات الطاقة ودعم الصناعة”.
شروط الاكتفاء الذاتي
ويختم الاقتصادي السوري حديثه بالقول إنه “في حال حصل اتفاق مع قوات قسد، لا أعتقد أن الاتفاق سينص على أن يكون كامل النفط السوري للدولة السورية، فمن المتوقع أن يبقى جزء منه تحت سيطرة قسد، وبحسب التسريبات فجزء من النفط سيباع في مناطق شمال شرقي سوريا، حيث سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والباقي سيعود للحكومة المركزية في دمشق، وعلى أية حال فإن جميع الحقول والآبار بشمال شرقي سوريا أيضاً بحاجة إلى صيانة ومعدات جديدة، وهذه أمور مكلفة جداً على الحكومة، وتحتاج إلى وقت طويل، لذلك يبدو أن الأمور تسير رويداً رويداً، ومرحلة التعافي تحتاج إلى ما يقارب ثلاث سنوات تقريباً، وهذا أيضاً مرهون باستقرار الوضع السياسي والوضع الأمني ورفع العقوبات، بمعنى آخر يمكن القول إنه إذا سارت الأمور على ما يرام يمكن لسوريا بعد ثلاث سنوات أن تحقق 90 في المئة من الاكتفاء الذاتي”.
الغاز غير المكتشف
من جهته يرى الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي أن “سوريا بالأصل كانت تنتج 12.5 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، و79 في المئة من إجمالي الإنتاج يستهلك في توليد الكهرباء، أما بالنسبة إلى حقل تياس 5 فهو ينتج نحو 130 ألف متر مكعب، وهذه كمية قليلة لكن بالتأكيد أفضل من لا شيء”.
ويشير القاضي إلى أن سوريا “تمتلك ثروات جيدة من الغاز تقدر بنحول 2.6 تريليون متر مكعب من الغاز غير المكتشف، إضافة إلى وجود كميات كبيرة من الغاز في المياه الإقليمية السورية بالبحر الأبيض المتوسط، ولذلك يجب أن تضع الحكومة السورية يدها على كامل حقول النفط والغاز في البلاد، وينبغي دخول الشركات العالمية من أجل البدء في عملية إصلاح هذه الآبار والحقول وإعادة الإنتاج فيها”.
استجرار النفط من مناطق “قسد”
بالتوازي، قال مدير العلاقات العامة في وزارة النفط السوري أحمد سليمان إن “وزارة النفط والثروة المعدنية تؤكد أن استئناف استجرار النفط والغاز الطبيعي من شمال شرقي سوريا جاء وفق عقد كان معمولاً به سابقاً، والعقد جرت دراسته قانونياً وإجراء التعديلات اللازمة عليه بما يتناسب مع مصلحة الشعب السوري، وعملية الاستجرار ستكون لمدة ثلاثة أشهر مبدئياً”، وفق ما نقلته وكالة “سانا”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف أن العقد “خضع لعقد لمراجعة شاملة لضمان توافقه مع القوانين الوطنية ولتلبية احتياجات السوق المحلية، وتعزيز تشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، وذلك ضمن مساعي الوزارة إلى تحقيق أقصى استفادة من مواردنا الطبيعية لصالح الشعب السوري”، وسبق ذلك أن أعلنت الوزارة بدء توريد النفط من مناطق شمال شرقي سوريا، مشيراً إلى أن “قسد بدأت في توفير النفط من الحقول المحلية التي تديرها للحكومة المركزية في دمشق”.
تدريب مهندسين سوريين في تركيا
ضمن التفاؤل الذي يشوبه الحذر، أطلق مهندسون سوريون يقيمون في تركيا، دورة تدريبية في مجالات النفط والغاز تستهدف مئات المهندسين السوريين المقيمين في الداخل السوري، بهدف رفع مهاراتهم المهنية وتهيئتهم للمشاركة في إدارة ثروات البلاد بعد سقوط نظام الأسد، إذ أعلنت نقابة المهندسين السوريين، بالتعاون مع “تجمع المهندسين السوريين بتركيا – مكتب البترول”، عن محاضرات تدريبية فنية واحترافية للمهندسين السوريين العاملين في مجال صناعة النفط والغاز”.
الأمم المتحدة أكثر تشاؤماً
أممياً تبدو التقديرات أقل تفاؤلاً، إذ صدر في الـ21 من فبراير (شباط) الجاري، تقرير عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يوضح أن خسائر الناتج المحلي السوري بلغت نحو 800 مليار دولار، وأن التعافي الاقتصادي محتمل خلال 10 سنوات، وحمل التقرير عنوان “تأثير الصراع في سوريا: اقتصاد مدمر وفقر مستشر وطريق صعب إلى الأمام نحو التعافي الاجتماعي والاقتصادي”، وجاء فيه أن تسعة من كل 10 أشخاص في سوريا يعيشون في فقر، وأن واحداً من كل أربعة عاطل عن العمل، مضيفاً أن “14 عاماً من الصراع في سوريا أفسدت ما يقرب من أربعة عقود من التقدم الاقتصادي والاجتماعي ورأس المال البشري”.
وذكر التقرير الأممي أن “اقتصاد البلاد يمكن أن يستعيد مستواه ما قبل الصراع في غضون عقد من الزمان في ظل نمو قوي، إذ إن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد انخفض إلى أقل من نصف قيمته منذ بدء الصراع في عام 2011، وتضاعفت البطالة ثلاث مرات، وأصبح واحد من كل أربعة سوريين عاطلاً من العمل الآن، علاوة على أن تدهور البنية الأساسية العامة أدى إلى مضاعفة تأثير الصراع بصورة كبيرة، ووفقاً لمعدلات النمو الحالية، لن يستعيد الاقتصاد السوري مستواه ما قبل الصراع من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2080، وينبغي ارتفاع النمو الاقتصادي السنوي ستة أضعاف لتقصير فترة التعافي إلى 10 سنوات”.
بالمحصلة، تبدو سوريا بلداً غنياً بالثروات الباطنية، ويعد توفير الكهرباء والطاقة واحداً من أكبر التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة التي ترث “تركة ثقيلة”، وتستلم بلداً شنت على جغرافيته واحدة من أسوأ حروب العصر الحديث، وتتضارب الروايات القادمة من سوريا، بين تقارير تدعو إلى التفاؤل وتنادي بغد أفضل، وبين محاذير تثير القلق وتطالب بدعم إقليمي ودولي كبير للبلاد.
نقلاً عن : اندبندنت عربية