قليلون جداً كان توقعوا أن حرباً طويلة وشديدة الوطأة من الممكن أن تندلع في أوروبا في القرن الـ21، ولكن على مدار ثلاث سنوات دامية، نجح غزو روسيا لأوكرانيا في تحويل هذا السيناريو إلى حقيقة واقعة. أسفرت الحرب عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى بين الروس والأوكرانيين. وأضحت مدن كاملة تحت الركام أو شطرت بفعل الخنادق، في استحضار كئيب للحرب العالمية الأولى.
والآن، وصلت الحرب في أوكرانيا إلى حالة جمود واضحة. تستمر روسيا في الاستيلاء على قطع صغيرة من الأراضي على طول الجبهة الشرقية، ولكن بثمن باهظ من الخسائر البشرية التي لا يمكن تحملها على المدى الطويل. وتساوت قدرات الدولتين في ما يتعلق بشن ضربات بعيدة المدى، وأصبح كل منهما بلد حربي مجند بالكامل للحرب، مما يسمح لروسيا بالتعافي من إخفاقاتها الأولية، في حين يتيح لأوكرانيا، وهي دولة أصغر حجماً، مواصلة القتال على رغم الخسائر الفادحة. ومن المرجح إذاً أن تظل خطوط المواجهة راكدة نسبياً في المستقبل القريب، من دون حدوث أي اختراقات كبرى.
لكن الرئيس الأميركي دونالد ترمب وعد بإنهاء الحرب، فتواصل مع موسكو ورتب مفاوضات بين المسؤولين الأميركيين والروس. ومن الناحية النظرية، قد تجعل هذه المحادثات عام 2025 منعطفاً حاسماً في مسار الصراع. ولكن لا يوجد سبب يدعو للاعتقاد بأن تدخلات “العمدة الجديد” لواشنطن ستحدث تحولاً جذرياً، خصوصاً في ظل استبعاد كييف من المحادثات. في الواقع، اكتشفت إدارة ترمب بالفعل أن تعقيدات هذا الصراع ستمنع الحلول السريعة. ووافق ترمب على مطلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإبقاء أوكرانيا خارج حلف شمال الأطلسي ومنح روسيا مجال نفوذ، لكن بوتين لم يقدم أي شيء في المقابل، بل تمسك بمطالبه المتطرفة في شأن نزع سلاح أوكرانيا وإخضاعها. وقد يدفع ذلك واشنطن إلى الانسحاب واستئناف دعمها لكييف.
ولكن بغض النظر عن نتائج المفاوضات، فإن الحرب في أوكرانيا غيرت بالفعل طبيعة الصراع في جميع أنحاء العالم، فقد أكدت أن الطائرات المسيرة والذكاء الاصطناعي وأنواع أخرى من التكنولوجيا المتقدمة تلعب اليوم دوراً جوهرياً في حسم المعارك براً وجواً. وأثبتت أن البلدان المتحاربة تزيد من سرعة تأقلمها مع التطورات الميدانية والاستراتيجية. كما سلطت الضوء على التوترات بين الجنود والمدنيين، فضلاً عن الضعف في النظريات الحالية حول كيفية تفاعل الطرفين في الصراعات العالية التقنية. وبالتالي، كشفت الحرب عن أوجه القصور في الجيوش الغربية.
من الصعب التنبؤ بمسار الغزو، خصوصاً مع إصرار ترمب على فرض تسوية. لكن من المؤكد تقريباً أن بوتين سيستمر في محاولة الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي الأوكرانية أو تدميرها قبل التوصل إلى أي اتفاق سلام. (ومع حشد القوات الروسية في بيلاروسيا، من الواضح أنه يستعد لتهديد دول أوروبية أخرى أيضاً). في الوقت نفسه، تدرس أوكرانيا إمكان مواصلة القتال من دون مساعدة أميركية، بيد أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وصف أخيراً احتمالات حدوث ذلك بأنها “ضعيفة”. ولكن، إذا كانت صفقة بوتين وترمب غير مقبولة بالنسبة إلى حكومة أوكرانيا وشعبها، فلن يكون أمام البلاد خيار آخر.
التكيف أو الفناء
إن الصراع بين روسيا وأوكرانيا أعاد تشكيل طريقة فهم السياسيين والاستراتيجيين والمدنيين للحرب، ولكن هناك تحول واضح بصورة خاصة: لقد أصبحت المركبات الذاتية القيادة وتلك المشغلة عن بعد مكوناً إلزامياً بالنسبة إلى الجيوش والقوات البحرية والجوية. وفي المجالات البرية والبحرية والجوية، يجري دمج الطائرات المسيرة في الجيشين الروسي والأوكراني بسرعة ملحوظة. وارتفع عدد الطائرات المسيرة المستخدمة في الحرب من مئات إلى آلاف ثم إلى مئات الآلاف. والآن تمتلك كل من روسيا وأوكرانيا القدرة على تصنيع الملايين من هذه المسيرات سنوياً.
لقد أظهر الطرفان إبداعاً في استخدام المسيرات. على الأرض، يبتكر كل منهما أساليب جديدة لتنفيذ مهمات تقليدية، مثل استخدامها للاستطلاع، والدعم اللوجستي، وإجلاء الجنود المصابين، وزرع الألغام وإزالتها، وبالطبع شن الهجمات. تميز الأوكرانيون بإبداع استثنائي في توظيف التكنولوجيا. ففي المجال البحري، تمكنت أوكرانيا من هزيمة “أسطول البحر الأسود” الروسي باستخدام مجموعة متنوعة من المركبات شبه الغاطسة المصممة محلياً والمشغلة عن بعد. وفي الآونة الأخيرة، كانت البلاد رائدة في دمج أنظمة المسيرات المختلفة لتنفيذ مهمات محددة. في أواخر عام 2024، استخدمت أوكرانيا المسيرات البحرية كمنصات لإطلاق طائرات من دون طيار لمهاجمة محطات استخراج النفط الروسية وأنظمة المراقبة في البحر الأسود. وكذلك في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، دمجت أوكرانيا أنظمة أرضية وجوية خلال معركة السيطرة على قرية ليبتسي، بالقرب من خاركيف، إذ شنت الأسلحة الروبوتية وحدها هجوماً واستولت للمرة الأولى على موقع دفاعي روسي محصن، مما أجبر المشاة الذين كانوا يديرون الموقع على التراجع. وفي يناير (كانون الثاني)، أطلقت أوكرانيا مجدداً طائرات مسيرة لمهاجمة الدفاعات الجوية الروسية في خيرسون المحتلة.
ستظل المركبات ذات التحكم الآلي عنصراً أساساً في قدرة أوكرانيا على مجاراة روسيا. فبفضل استخدامها للمسيرات، تمكنت أوكرانيا على مدى السنوات الثلاث الماضية من بناء منظومة ضربات بعيدة المدى تضاهي نظيرتها الروسية. والواقع أن كييف تتأقلم وتعمل على تحسين قدراتها الهجومية بوتيرة أسرع من موسكو. ونتيجة لذلك، من المرجح أن حملة أوكرانيا ضد منشآت الطاقة والجيش والصناعات الدفاعية ستلحق بروسيا ضرراً أكبر في عام 2025، مقارنة بما كانت عليه في السنوات الثلاث السابقة. ولكن مستقبلاً، من المتوقع أن تدمج كل من أوكرانيا وروسيا البشر والطائرات المسيرة بصورة أوثق داخل الوحدات العسكرية، مما سيؤدي إلى مزيد من الابتكار في تكتيكات التعاون بين الإنسان والمسيرات وسيتطلب أشكالاً جديدة من التدريب للجنود والقادة العسكريين.
إن التغييرات التي تشهدها أوكرانيا ستؤثر في كل المؤسسات العسكرية في العقد المقبل
لا يقتصر تأثير التطورات التكنولوجية في الطائرات المسيرة فحسب، بل يمتد ليشمل دمج الذكاء الاصطناعي وشبكات الاستشعار المدنية والعسكرية، إلى جانب إتاحة المعلومات الميدانية بصورة أوسع. يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي مساعدة الطائرات المسيرة في تحديد الأهداف والتحقق منها من خلال تحليل بيانات أجهزة الاستشعار المفتوحة المصدر والمعلومات الاستخبارية، ثم دمج هذه البيانات مع الاستخبارات العسكرية. علاوة على ذلك، فإن هذه التقنيات الجديدة دفعت إلى تطوير طرق تفكير مختلفة حول التكتيكات والهياكل العسكرية. فمثلما ستجبر المسيرات الجيوش على إعادة هيكلة مؤسساتها وإنشاء وحدات جديدة، سيحدث الذكاء الاصطناعي تغييراً جوهرياً في طريقة اتخاذ المسؤولين للقرارات العسكرية والاستراتيجية. وعلى رغم أن الخوارزميات الحالية لا تزال بحاجة إلى تحسين للحد من “الهلوسة” (أي تقديم الذكاء الاصطناعي معلومات خاطئة أو مضللة) وكسب ثقة القادة العسكريين بشكل أكبر، إلا أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تتحسن. وأثبت الجيش الإسرائيلي في الآونة الأخيرة فاعلية الذكاء الاصطناعي في تقييم الأهداف، واختيار الأسلحة، وتسريع عملية صنع القرار البشري.
في الواقع، لقد أدت التكنولوجيا الحديثة إلى التكيف. على سبيل المثال، ساعد الذكاء الاصطناعي كلاً من روسيا وأوكرانيا في تقليل الوقت الفاصل بين اكتشاف الهدف المعادي وإمكان مهاجمته. في البداية، كانت أوكرانيا رائدة في تقليص هذه “الفجوة الزمنية بين اكتشاف الهدف وتدميره”، لكن روسيا تمكنت من اللحاق بها. ولا يشكل هذا الابتكار في حد ذاته مفاجأة، فالتعلم والتكيف كثيراً ما كانا جزءاً من الحرب، لكن الوتيرة تتسارع الآن. لقد استغرقت الولايات المتحدة مثلاً سنوات للتكيف مع المتطلبات المادية والفكرية لعمليات مكافحة التمرد في أفغانستان والعراق قبل عقدين من الزمان، في حين لم تستغرق أوكرانيا سوى بضعة أشهر لتتمكن من تطوير أسطولها من المسيرات البحرية. واليوم، تعمل أوكرانيا على تحديث بعض خوارزمياتها وبرامج الاتصالات الخاصة بمسيراتها بصورة يومية. وتستمر معركة التعلم والتكيف بين روسيا وأوكرانيا في التسارع، إذ يسعى كل طرف إلى تحسين قدرته على استخلاص الدروس ومشاركتها بين ساحة المعركة وقواعده الصناعية الوطنية. ومن خلال القيام بذلك، تؤكد هذه البلدان حقيقة قديمة: وهي أن المؤسسات العسكرية التي تفوز بالحروب ليست المنظمات نفسها التي تبدأها. فالقوات المسلحة القادرة على التكيف بصورة منهجية واستراتيجية ستكون أقوى في الحرب والسلام على حد سواء.
إن التغيرات التي تشهدها أوكرانيا ستؤثر في كل المؤسسات العسكرية في العقد المقبل، وستضطر الدول الغربية، على وجه الخصوص، إلى إعادة تقييم مواقفها العسكرية. ويحدث ذلك في وقت يشكك فيه ترمب وإدارته في التحالفات القديمة، مما يزيد من حالة عدم اليقين ويتطلب إعادة هيكلة عسكرية ضخمة في أوروبا وفي منطقة المحيط الهادئ.
الجنود المدنيون
التكنولوجيا عنصر أساس في الصراعات، لكن الحرب ليست في جوهرها مجرد مسألة تكنولوجية، أو حتى عسكرية بحتة، بل هي مسعى بشري ومجتمعي. ومثلما أعادت المسيرات تشكيل ساحة المعركة، فإن الديناميكيات المدنية العسكرية المتطورة كان لها تأثير مماثل أيضاً. والآن تتيح التقنيات الحديثة للمواطنين العاديين رؤية جوانب من الحرب أكثر مما كان ممكناً من قبل، وبصورة شبه فورية. على سبيل المثال، أصبحت صور وسائل التواصل الاجتماعي التجارية متاحة على نطاق واسع الآن. ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكان المواطنين أن يشاهدوا على هواتفهم المحمولة لقطات فورية يصورها الجنود من ساحة المعركة مباشرة باستخدام الطائرات المسيرة. كما أن عدداً متزايداً من المحللين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومصادر أخرى مفتوحة، الذين يستخدمون هذه المعلومات المتاحة بسهولة، يضيفون تقييماتهم الخاصة حول الحرب (التي تختلف جودتها بالتأكيد) إلى التحليلات التي تقدمها المؤسسات الإخبارية والعسكرية والحكومية. ونتيجة لهذا، أصبح الناس العاديون الآن أكثر اطلاعاً على مجريات الحرب وأكثر إلماماً بها من أي وقت مضى.
هذا المستوى المتزايد من الاطلاع سمح بمشاركة المواطنين بصورة أوسع في الحرب. في السابق، كان غير المقاتلين الذين يريدون المشاركة يفعلون ذلك في الغالب من خلال جمع سندات الحرب [سندات دين تصدرها الدولة لتمويل العمليات العسكرية في أوقات الحرب]. أما الآن، فالمواطنون العاديون يستغلون الإنترنت لجمع التبرعات أو شراء المعدات العسكرية، مثل الجوارب ومستلزمات الإسعافات الأولية والمسيرات والأقمار الاصطناعية، وبمستويات غير مسبوقة. (هناك منظمات غير ربحية مكرسة بالكامل لجمع الأموال عبر الإنترنت من أجل دعم الجنود والوحدات الأوكرانية). كذلك، يمكن للمواطنين أن يلعبوا دوراً نشطاً في الإبلاغ عن التهديدات. على سبيل المثال، طور الأوكرانيون تطبيقات للهواتف الذكية تتيح الإبلاغ عن مواقع الوحدات العسكرية المعادية أو المسيرات أو الصواريخ، وهذه المعلومات ترسل إلى القوات العسكرية.
ولا شك في أن حرب البيانات الضخمة سلاح ذو حدين، فالمعلومات المتاحة عبر الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، والأجهزة الذكية، والقدرات التحليلية الجديدة توفر كماً هائلاً من البيانات التي يمكن أن يستفيد منها الخصوم بقدر ما يستفيد منها الحلفاء. وهذا التدفق الهائل من المعلومات مكن كلاً من روسيا وأوكرانيا من استهداف الناس بدقة أكبر عبر البروباغندا. على سبيل المثال، سعت كييف إلى التواصل مع الدول الأفريقية والآسيوية في شأن أهمية صادرات الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، بهدف تقليل الدعم لروسيا. في المقابل، سعت موسكو أخيراً إلى ثني أولئك الراغبين في التطوع للقتال عن الالتحاق بصفوف القوات المسلحة الأوكرانية، من خلال نشر معلومات عن الفساد العسكري. وفي بعض الأحيان، تؤدي هذه المعلومات أيضاً إلى صدمات نفسية في المجتمع، إذ إن الروس والأوكرانيين البعيدين من خطوط الجبهة ينهال عليهم باستمرار محتوى صادم ومؤلم حول ما يحدث لقواتهم.
وبالتأكيد، لا يوجد نقص في مثل هذا المحتوى. فحجم الخسائر الناجمة عن الحرب في أوكرانيا مذهل، والصراع هو معركة مريرة ومدمرة على الأرض، إلى درجة تجعله شبيهاً بمعارك الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية. وفي مقابلة أجريت في فبراير (شباط) 2025، قال زيلينسكي إن 45 ألف جندي أوكراني قتلوا وأصيب ما يقرب من 400 ألف آخرين منذ عام 2022. فيما أفادت الاستخبارات البريطانية أن أكثر من 850 ألف جندي روسي قتلوا أو جرحوا. وبلغت معدلات الخسائر، وخصوصاً في الجانب الروسي، مستويات غير مسبوقة في عام 2024، إذ تكبدت روسيا في ذلك العام خسائر تفوق ما تكبدته خلال العامين السابقين مجتمعين.
أعادت الحرب في أوكرانيا تأكيد أهمية القيادة الجيدة
لا يمكن لأي من الطرفين تحمل هذه الخسائر البشرية إلى الأبد، لكن لكل طرف مزاياه الخاصة في التعامل مع المرحلة المقبلة من القتال. بالنسبة إلى أوكرانيا، فإن الميزة تكمن في النسب: فهي تقتل عدداً من الروس أكبر بكثير مما تقتله روسيا من الأوكرانيين. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يتباطأ التقدم الروسي في الأشهر المقبلة، حتى لو واصلت موسكو الاستيلاء على مساحات صغيرة من الأراضي (وهي استراتيجية يمكن وصفها بـ”القضم والسيطرة” [أي الاستيلاء على أجزاء صغيرة من الأراضي بصورة تدريجية، بدلاً من شن هجمات واسعة وسريعة، مما يرهق العدو ببطء]). وإذا تمكنت أوكرانيا من زيادة هذا الفارق في نسبة الخسائر لصالحها، مثلما فعلت خلال عام 2024، فقد تصل الهجمات الروسية إلى ذروتها ثم تبدأ بالتراجع. لكن هذا لا يعني أن أوكرانيا ستكون مستعدة لشن أية هجمات كبيرة، نظراً إلى التحديات المتعلقة بعدد قواتها. ومن المحتمل أن تسود الحرب بعد ذلك فترة من الجمود المستمر، ربما مع عدد أقل من الخسائر، إلى أن يتمكن أحد الطرفين من بناء قدراته الهجومية.
لكن عدد سكان أوكرانيا أقل بكثير من عدد سكان روسيا، وفر عدد من الأوكرانيين من البلاد، مما يجعلها غير قادرة على تحمل خسارة كثير من الجنود. في المقابل، تتمتع موسكو بقدرة أعلى على تحمل الخسائر مقارنة بكييف، مما شكل صدمة بالنسبة إلى القيادة العسكرية الأوكرانية نفسها. فالأوكرانيون على استعداد لتقديم تضحيات كبيرة. ولكن على النقيض من الكرملين، فإن كييف منزعجة من فكرة فقدان الآلاف من قواتها في المستقبل المنظور.
علاوة على ذلك، فإن الخسائر البشرية الهائلة لها تداعيات بالغة الأهمية على العالم بأسره. فمع نهاية الحرب الباردة، اعتقد كثيرون أن زمن الحروب التقليدية الكبيرة انتهى. وعلى هذا الأساس، قرر قادة الأمن القومي في مختلف الدول تقليص حجم جيوشهم، ومخزونات ذخائرهم، وقدراتهم الإنتاجية.
لكن الحرب في أوكرانيا أثبتت أن هذا التفاؤل كان في غير محله. ونتيجة لذلك، يتعين على البلدان الأخرى أن تزيد حجم جيوشها وتعزز قدرتها على توفير احتياجات تلك الجيوش. بالنسبة إلى الدول الغربية، على وجه الخصوص، سيتعين عليها أن تتذكر أساليب التعبئة والتحضير للحروب الكبرى الواسعة النطاق. فمنذ نهاية الحرب الباردة، اعتمدت هذه الدول بصورة شبه كاملة على جيوش تتألف من متطوعين. بيد أن الحرب في أوكرانيا أظهرت أن مثل هذه النماذج غير كافية، على رغم أنها تحظى بشعبية سياسية وتعد أقل كلفة من الناحية المالية. فهي في الواقع لا توفر عدداً كافياً من الجنود في ظل التهديدات الخارجية المتزايدة. لذا، هناك حاجة إلى نموذج متطور، يحافظ على جيش احترافي تطوعي، ولكن يعززه بقاعدة تعبئة أكبر بكثير من خلال خطط جديدة للخدمة الوطنية والاحتياط.
جاهزون أم لا، التحدي قائم
من المؤكد أن الحرب في أوكرانيا لم تقلب كل ما يعرفه المحللون عن الحرب رأساً على عقب. في الواقع، ظلت بعض قوانين الصراع ثابتة من دون تغيير. فقد أظهرت السنوات الثلاث الماضية، على سبيل المثال، أن عنصر المفاجأة يظل جزءاً أساسياً من الحرب. وأثبتت الهجمات التي شنتها أوكرانيا في خيرسون وخاركيف في عام 2022 نجاحها، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى أنها باغتت موسكو. وبينت هذه الهجمات أنه، على رغم الابتكارات التكنولوجية الحديثة، فإن ساحة المعركة المعاصرة لا تزال بعيدة كل البعد من الشفافية. فالبشر يسعون دائماً إلى التفوق على أعدائهم من خلال عنصر المفاجأة واستغلال الصدمة الناجمة عنه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إضافة إلى ذلك، أعادت الحرب في أوكرانيا تأكيد أهمية القيادة الجيدة. فقرار زيلينسكي بالبقاء في كييف وقيادة بلاده في وقت مبكر من الحرب لم يربك بوتين وعديداً من القادة الغربيين فحسب، بل وحد الشعب الأوكراني ووفر قيادة صلبة وجديرة بالثقة. وعلى نحو مماثل، كان القادة العسكريون الأوكرانيون، على رغم بعض الإخفاقات، أكثر كفاءة ومراعاة لأرواح الجنود مقارنة بنظرائهم الروس. وفي الحقيقة، إن تمتع القادة السياسيين بمثل هذه الشجاعة والجرأة والإرادة أمر ضروري لنجاح الحرب.
للأسف، منذ نهاية الحرب الباردة، فقدت الطبقات السياسية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا إدراكها لمدى أهمية القيادة الممتازة في الاستعداد العسكري. فقد أجمعت بصورة شبه تامة على قرار تقليص حجم الجيوش والمجمعات الصناعية الدفاعية. ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، دعا بعض هؤلاء السياسيين إلى تصحيح المسار. ومع ذلك، لا تزال غالبية الطبقة السياسية الغربية غير مستعدة للتحدث بصراحة عن التحديات الأمنية العميقة التي تفرضها الصين وروسيا، ولا يمكن التقليل من حجم الأخطار التي تنجم عن هذا الصمت. إن تنمية قيادة ميدانية مميزة أمر بالغ الأهمية لتحقيق النجاح في الحرب، لكن حتى أفضل القادة التكتيكيين في العالم لا يمكنهم تحقيق أي إنجازات إذا كانت بلادهم تتبع استراتيجية سيئة أو تفتقر تماماً إلى الاستراتيجية، أو ببساطة تفتقر إلى الإرادة للقتال من أجل ما تؤمن به. فالحروب، في نهاية المطاف، هي تعبير عن الإرادة البشرية، وليست مجرد استعراض للبراعة التكتيكية.
الحروب مآس جماعية، ويمكن لعشرات الملايين من الأوكرانيين أن يشهدوا على ذلك الآن. ومع ذلك، يمكن أن تنبثق من معاناة الجنود والمدنيين وآلامهم فرص تعليمية عديدة. منذ أن بدأت روسيا غزوها الواسع النطاق، شهدت أوروبا مستوى من العنف والدمار والكوارث لم تره منذ عام 1945. لكن القارة وحلفاءها تعلموا أيضاً حقائق حاسمة حول الحرب والاستراتيجية والقيادة والدفاع المدني والاقتصاد والشؤون العسكرية، (وهي بالطبع حقائق متاحة بطبيعة الحال لأعدائهم أيضاً).
إن التضحيات التي قدمها الشعب الأوكراني منحته أكثر من مجرد الحق في العيش بحرية بعيداً من الهيمنة والنفوذ الروسيين، والاعتزاز بتاريخه وثقافته. لكن تحقيق هذه الأهداف سيتطلب استمرار الدعم الأميركي والأوروبي في العام المقبل. فعلى رغم أن أوكرانيا حققت تقدماً مثيراً للإعجاب في تطوير صناعتها الدفاعية، إذ باتت تنتج ما يصل إلى 40 في المئة من احتياجاتها العسكرية، إلا أنه لا تزال هناك فجوات كبيرة يجب أن يملأها شركاؤها. ويبقى الأمل في أن يتحلى القادة السياسيون الغربيون بالشجاعة الأخلاقية والقدرة الفكرية لتكريم تضحيات أوكرانيا من خلال تزويد كييف بما تحتاج إليه لمواصلة القتال، وتعزيز جيوش بلدانهم لمواجهة العدوان الاستبدادي المستمر.
مترجم عن “فورين أفيرز” 21 فبراير (شباط)، 2025
ميك رايان لواء متقاعد من الجيش الأسترالي وزميل بارز في الدراسات العسكرية في معهد لوي في سيدني، هو أيضاً مؤلف كتاب “الحرب من أجل أوكرانيا: الاستراتيجية والتكيف تحت النار”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية