<p>محمد كرد علي (وسائل التواصل)</p>
“قصدنا بتسويد هذه الأوراق تصوير 10 صور حية في الجملة لـ10 من أمراء البيان، تصدينا لوصف عصورهم في السياسة والمدنية، وحاولنا الإلماع إلى العوامل المهمة في تنشئتهم وحياتهم، وتوخينا تحليل أدبهم وعلمهم، وعرضنا لمواضع الإجادة في ما خلفوه من كلامهم. ترجمنا عبدالحميد بن يحيى الكاتب، وعبداللّٰه بن المقفع، وسهل بن هارون، وعمرو بن مسعدة، وإبراهيم بن العباس الصولي، وأحمد بن يوسف الكاتب، ومحمد بن عبدالملك الزيات، وعمرو بن بحر الجاحظ، وأبا حيان التوحيدي، وابن العميد، وهم الـ10 المبشرة بالبلاغة في عصر العرب الزاهر، يوم أضحى اللسان العربي لغة حضارة وعلم، وكان في القرن الأول لغة دين وأدب، وعسى أن يكون من نرسم طريقتهم عوناً على تمثل أساليبهم في الرشاقة والجزالة، والبيان العربي كالإسلام لا يحيا إلا بالاستقاء من رؤوس عيونه الصافية”. بهذا التقديم الموجز والواضح، مهد واحد من كبار كتاب اللغة العربية ومن أصحاب البيان العربي عند بدايات القرن الـ20 لكتاب ربما أراد منه من حيث لا يدري هو نفسه، أن يبين خطل الرأي القائل إن التراث العربي دائماً ما احتفل بكونه تراثاً شعرياً من دون أن يلتفت كثيراً إلى كونه في الوقت نفسه تراثاً نثرياً.
أكراد وعرب
كان صاحب البيان هذا على أية حال كقاسم أمين وأمير الشعراء أحمد شوقي بين آخرين، من أولئك الأكراد العرب الذين كانت العروبة بالنسبة إليهم كينونة حضارية قائمة على اللغة وإبداعاتها، لا على أبعاد قومية اختزالية. ونتحدث هنا على أية حال عن محمد كرد علي المعتبر واحداً من كبار مفكري وكتاب النهضة العربية الأولى عند منعطف القرنين الـ19 والـ20. وهو الذي اشتهر بعدد لا بأس به من المؤلفات، منها بصورة خاصة موسوعته “خطط الشام” التي سار فيها، معترفاً بذلك ومفتخراً به على أية حال، على خطى معلمه الكبير ابن خلدون الذي كان هو وبصورة مواربة واحداً من أكثر مقدميه إلى القراء العرب حماسة واقتناعاً بأهميته. كما أنه، وتحديداً بكتابه الذي افتتحنا بذكره هذا الكلام، “أمراء البيان” الذي من الواضح أنه توخى منه إعادة الاعتبار للنثر العربي الذي اعتبره صاحب الدور الأكبر في تجديد اللغة العربية في العصر الذهبي لهذه اللغة، كان هو واحداً من كبار الذين وقفوا سداً طوال حياته ضد العابثين بتلك اللغة وجمالها من خلال استعراضه لغة أولئك الكتاب الأفذاذ الـ10 الذين تناولهم الكتاب. ولما كان هذا العام والتالي له يفرضان الاحتفال بمرور 150 عاماً على ولادة محمد كرد علي، نعود هنا لسيرته ودوره في بعث اللغة العربية ودورها.
كاد يكون من الشهداء
بعد إعلان الحرب العالمية الأولى بدأت السلطات التركية حملة تنكيل واسعة بمن يتعارف المؤرخون اليوم على تسميتهم “أحرار العرب”، وكان من بين هؤلاء في دمشق الكاتب والمؤرخ محمد كرد علي الذي كان من شأنه أن يساق إلى الإعدام بأمر من جمال باشا السفاح مع شكري العسلي ورشدي الشمعة وغيرهما، لولا تلك الصدفة التي جعلت السلطات التركية “تكتشف” تقارير فرنسية تشير بكل وضوح إلى أن محمد كرد علي حين عرض عليه الفرنسيون العمل معهم رفض، ومن هنا تقول تلك التقارير إن هذا الرجل “لا يسير إلا مع الأتراك”. وكان لهذا الاكتشاف وقع طيب على جمال باشا الذي استدعى محمد كرد علي، وأمره بأن يعيد إصدار جريدته “المقتبس” كما ولاه تحرير جريدة “الشرق”. وهكذا أمضى محمد كرد علي فترة الحرب “مصانعاً بلسانه وقلمه”، بحسب ما يقول خير الدين الزركلي، وهو يعيش تحت وطأة خوفه من جمال باشا. غير أن هذا الخوف لم يكن في الحقيقة جزءاً أساسياً لا من شخصية محمد كرد علي ولا من نشاطه، فهو عارض الأتراك على الدوام، وعلى الدوام عاش متنقلاً هارباً مناضلاً، يربط ما بين العمل الفكري والعمل السياسي، ويعمل جاهداً من أجل نيل العرب استقلالهم، حتى وإن كانت نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت عملياً نهاية حياته السياسية وبداية انصرافه شبه الكلي إلى العمل الفكري، لا سيما بعد تأسيس “المجمع العلمي العربي” في دمشق، ذلك العمل الذي تم خلال عهد الحكومة العربية الأولى وكان “أبرز ما قام به في حياته”، ودائماً بحسب تعبير الزركلي. وإن كان ثمة في حياة محمد كرد علي ما يمكن إضافته، فهو كثير، منه مثلاً عمله الصحافي الدؤوب، وكتابه الفذ “خطط الشام” وكتاباته عن الأندلس ودمشق، وعن أمراء البيان العرب.
آت من الموصل ذاهب إلى مصر
صحيح أن محمد كرد علي شغف بالعرب وتاريخهم وحضارتهم وكان من دعاة العروبة والإسلام، ومع هذا فإنه كان كردي الأصل، أصله من الموصل في شمال العراق، لكنه ولد في دمشق عام 1876، التي سيتوفي فيها بعد ذلك بـ77 سنة، أي يوم الثاني من نيسان (أبريل) 1953، بعد عمر حافل بالفكر والجهاد. ومنذ صباه أقبل محمد كرد علي على تعلم اللغات، فأتقن إلى جانب العربية، الفرنسية والتركية وشيئاً من الفارسية، ومال باكراً إلى الأدب والصحافة، حتى وإن كانت الظروف العربية العامة قادته في تلك الآونة إلى الانخراط في العمل السياسي مثله في هذا مثل أبناء النخبة العربية كافة. وهو كان في الـ18 من عمره حين تولى تحرير جريدة “الشام”، غير أن شهرته على الصعيد العربي لم تقم إلا حين بدأ يراسل مجلة “المقتطف” القاهرية، ويكتب فيها مقالات لفتت إليه الأنظار. ومن هنا حين سافر إلى مصر في 1901 أدرك أنه معروف هناك من نخبتها الثقافية، فأطربه ذلك وقرر أن يقيم في القاهرة لفترة، إذ تولى تحرير جريدة “الرائد المصري”. لكنه عاد لدمشق، وهناك كان الأتراك بدأوا يكتشفون عمله في سبيل الاستقلال، فبدأوا يطاردونه مما أعاده لمصر مرة أخرى حيث اشتغل في تحرير صحيفتي “الظاهر” و”المؤيد”، بعد أن كان تمرس في الصحافة تمرساً كبيراً في دمشق بعد أن أسس مجلة “المقتبس”. وفي 1908، بعد الانقلاب الدستوري، نجده يعود من جديد لدمشق وقد امتلأ بآمال التحرر، لكن أمله في “الاتحاديين” سرعان ما خاب وبدأ ينتقدهم حتى راحوا يضيقون عليه الخناق، فهرب مرة أخرى إلى مصر ومنها إلى أوروبا التي عاد منها لدمشق، ولكن ليضطهد من جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علاقته مع جمال باشا
مهما يكن فإن تقارير القنصلية الفرنسية أدت، كما أشرنا، إلى تبرئته فدخل في علاقة مع جمال باشا، لم تنته إلا بانتهاء الحرب العالمية الأولى، إذ انضم إلى الحكومة العربية. وحين انفرط عقد تلك الحكومة، وحل الاحتلال الفرنسي محلها، شارك محمد كرد علي كوزير للمعارف في وزارتين تحت الاحتلال الفرنسي. غير أنه كان من الواضح أنه لا يأخذ ذلك العمل على محمل الجدية، إذ إنه كان آلى على نفسه أن ينصرف إلى العمل الفكري. وهكذا راح يبتعد من السياسة بالتدريج، ويهتم أكثر وأكثر بأعمال المجمع العلمي العربي، ويضع عدداً من الدراسات والكتب في مجالات الأدب والتاريخ، وذلك قبل أن ينصرف في سنوات حياته الأخيرة إلى تجميع وضبط مذكراته التي كان يدون فصولها بصورة يومية. وهذه المذكرات التي صدرت في ثلاثة أجزاء قبل رحيل صاحبها، تعتبر بحق، نوعاً من التأريخ لمرحلة بأسرها من تاريخ المنطقة العربية خلال نهاية القرن الـ19 والنصف الأول من التالي له. ويقول يوسف أسعد داغر عن محمد كرد علي إنه كان “كاتباً مجدداً وباحثاً واسع الاطلاع، تولى قيادة الفكر في الجيل الحديث في سورية، وهو مؤرخ عمل طويلاً في خدمة التاريخ العربي والإسلامي عامة، وتاريخ سورية خصوصاً وما يتصل بأحداثها الجسام. أخذ بعضهم على أسلوبه التاريخي قلة التقيد بالدقة العلمية والافتقار إلى الإسناد العلمي وعدم الرجوع إلى الأصول الأولية، كما أخذ عليه بعضهم تطرفه وعصبيته”، هذا بينما يقول عنه خير الدين الزركلي إنه “كان ينحو في كثير مما يكتبه منحى ابن خلدون في مقدمته”، ويكتب عنه الدكتور سامي الدهان قائلاً: “ولقد أكبره المعاصرون من كبار الأدباء، فرأوا أن كتبه في صميم الأدب وأن أسلوبه حي واقعي.”
نقلاً عن : اندبندنت عربية