يشتهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ أمد بعيد بشغفه بالملكية، وبحبه لكل ما هو ذهبي وبحفلات التنصيب الباهظة التي تحاكي العائلة المالكة البريطانية، لكن في نهاية الأسبوع الماضي ذهب ترمب إلى أبعد من ذلك، إذ شبّه نفسه بالملك عبر صورة نشرها على منصة “تروث سوشيال” ونشرها البيت الأبيض على موقعه في خضم قرار إلغائه تسعيرة مرورية للمناطق المزدحمة في نيويورك، وهو ما أثار كثيراً من الجدل في الولايات المتحدة، فهل كانت سخرية وتصرفاً متعمداً لاستفزاز خصومه ومنتقديه؟ أم أن أفعاله وأقواله وماضيه تعكس توقه الشديد إلى أن يكون ملكاً منتخباً؟ وإذا كان هذا حقيقياً فهل يمكن وقفه؟
عاش الملك
في الأسبوع الماضي، وتحت عنوان “عاش الملك”، نشر البيت الأبيض باستخدام الذكاء الاصطناعي، غلاف مجلة مزيفاً يشبه مجلة “تايم”، ولكن بعنوان ترمب، يظهر فيه الرئيس الأميركي بابتسامة عريضة وهو يرتدي تاجاً ملكياً، ومن خلفه أفق مدينة نيويورك، وجاء نشر الصورة التي نشرها في البداية ترمب نفسه على منصته “تروث سوشيال” بعد أن ألغت إدارته برنامج تسعير لتخفيف مرور السيارات إلى جنوب مانهاتن بنيويورك والذي رفضته المدينة فوراً.
وبصرف النظر عن الخلاف القانوني بين إدارة ترمب وحاكمة ولاية نيويورك كاثي هوكول التي قالت “نحن أمة قوانين لا يحكمها ملك”، فجرت الطريقة التي قدم بها الرئيس الأميركي الـ 47 نفسه كملك مخاوف عدة حول مغزاها، ربما بسبب السياق الذي رافق توليه السلطة، إذ كان الشهر الأول لعودته إلى البيت الأبيض مليئاً باللحظات التي استحضر فيها السلطة الملكية وأحياناً الرعاية الإلهية، إذ أوضح في خطاب تنصيبه، أن الله أنقذه من محاولة اغتيال في بنسلفانيا كي يجعل أميركا عظيمة مرة أخرى، كما استند بعض تحركاته السياسية إلى نظرية قانونية أكثر توسعاً تُعرف باسم نظرية السلطة التنفيذية الموحدة للسلطة الرئاسية.
سلطة تنفيذية موحدة
وما يثير الجدل حول نية ترمب الحقيقية تجسيد نفسه في هيئة ملك، أن فكرة السلطة التنفيذية الموحدة نوقشت كثيراً في بعض الدوائر المحافظة، أعواماً عدة، من أجل رئيس أكثر قوة، على أساس أن الرئيس يجب أن يكون قادراً على توجيه السلطة التنفيذية والسيطرة عليها بأكملها، من البيروقراطية في المستويات الأدنى، إلى المدعين العامين، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وهو ما بدا أن ترمب يفعله بإخلاص وبسرعة غير مسبوقة منذ أن تولى دورته الرئاسية الثانية.
وليس من المستغرب أن تتردد هذه الحجج أخيراً، وعلى أعلى المستويات، لتبرير تصرفاته، وعلى سبيل المثال، قال الملياردير إيلون ماسك المسؤول الأول عن إدارة الكفاءة الحكومية المعنية بتقليص الإنفاق الحكومي ومكافحة الهدر المالي والاحتيال “ليس هناك تفويض أقوى من الجمهور لإصلاح السلطة التنفيذية”، كما أكد نائب الرئيس جيه دي فانس أن القضاة غير مسموح لهم بعرقلة السلطة الشرعية للرئيس، وهي الحجج التي يتوقع بعض المتابعين أن تُطرح أيضاً أمام المحاكم لتبرير توسع ترمب في السلطة.
مغزى اقتباس بونابرت
ولزيادة التأكيد، بعد 24 ساعة فقط من الجدل حول صورته كملك، نشر ترمب مادة أخرى عبر الإنترنت، إلى جانب الأخبار التي تفيد بأن إدارته انتهكت أمر محكمة برفضها وقف تجميد مليارات الدولارات من أموال الحكومة، إذ وضع صورة لنابليون بونابرت، الذي أعلن نفسه إمبراطوراً لفرنسا في ديسمبر (كانون الأول) 1804، وذهب وفقاً للأسطورة إلى حد انتزاع التاج من يدي البابا بيوس السابع ووضعه على رأسه بنفسه، واقتبس ترمب عبارة تُنسب إلى بونابرت يقول فيها “من ينقذ بلاده لا ينتهك أي قانون”.
وعلى رغم أن الرئيس لم يوضح أهمية العبارة أو يفسرها، فإن المعنى الواضح هو أن الرؤساء لا يرتكبون جرائم ما كانوا يعتقدون أنهم ينقذون بلدانهم، وهو مفهوم يعتبر علماء السياسة أن الطغاة يتبنونه لأنهم يؤمنون بأنه لا يمكن لهم أن يقودوا البلاد إذا كانوا مقيدين بحدود القوانين والدستور.
وحتى لو كانت تصرفات ترمب من قبيل المبالغة السياسية التي اعتاد عليها، ففي خضم المخاوف من تصاعد حركة استبدادية محتملة في السياسة الأميركية، أصبح من الصعب للغاية تجاهل هذه التصرفات باعتبارها تافهة، ويرى المعلق والكاتب السياسي آرون بليك في صحيفة “واشنطن بوست” أن الرئيس لا ينشر اقتباسات نابليون فحسب، بل يؤكد نسخة واسعة للغاية من السلطة الرئاسية، وغالباً ما ينتهك القانون في هذه العملية، ويتحدى المحاكم التي تقف في طريقه، مشيراً إلى اتهامات توجه إلى وزارة العدل بتجاهل القانون في إسقاط تهم الفساد التي سبق أن وجهتها إدارة جو بايدن ضد عمدة نيويورك الديمقراطي إريك آدامز تحت دعوى أنه يساعد ترمب في مكافحة الهجرة غير الشرعية بالمدينة.
ولم يستبعد آرون بليك أن إدراج اقتباس بونابرت في لحظة كهذه لم يكن محض مصادفة وإنما اختيار محتمل من قبل الرئيس ترمب الذي اختبر من قبل حدود الديمقراطية الأميركية ليس فقط من الناحية الخطابية، بل وأيضاً بأفعاله، وإن لم تكن بهذه الطريقة قط.
سخرية واستفزاز لخصومه
ومع ذلك، لم يأخذ أنصار الرئيس الأميركي، وبخاصة في قناة “فوكس نيوز”، تصوير الرئيس كملك بهذه الطريقة، فقد اعتبروا أنه يسخر فقط من الديمقراطيين ويدفعهم إلى الجنون من خلال منحهم طُعماً صغيراً، إذ قال المذيع في القناة لورنس جونز، إن ترمب لم يكن جاداً وذهب إلى استدراج الديمقراطيين حتى يشعروا بالذعر بسبب تعليقه الأخير المثير للقلق، وفسّر إعلان الرئيس نفسه ملكاً على أنه إشارة ليس فقط إلى نيويورك، ولكن لجميع المدن الأخرى الليبرالية بألا تفعل شيئاً لا يوافق عليه ترمب، كذلك اعتبر أن الرئيس يسخر منهم، ولا يعتقد حقاً أنه ملك، بل تعمّد بمهارة أن يجعلهم يشعرون بالجنون بمنحهم القليل من الطعم، وهو يعلم أنهم لن يركزوا على القضية التي يتحدث عنها وإنما على تقديمه نفسه كملك.
وفي القناة نفسها، تهكمت زوجة ابن الرئيس لارا ترمب على مفارقة حاكمة نيويورك كاثي هوكول بأن الولايات المتحدة لم تكن تحت حكم ملك لمدة 250 عاماً، قائلة إن الثورة الأميركية بدأت بسبب الضرائب المرتفعة، وما تفعله نيويورك هو ضريبة إضافية على الناس الذين يواجهون بالفعل هذه الأسعار المرتفعة بشكل صارخ.
ملك أميركي
لكن بمحض الصدفة، خرجت النسخة الرقمية من مجلة “إيكونيميست” بعد يوم واحد بغلاف يظهر ترمب من الخلف، وهو يرتدي تاجاً وكان عنوانه “الملك المحتمل”، غير أن ذلك لم يكن مزاحاً، إذ ليس من المستغرب أن تنتشر في الأوساط السياسية الليبرالية تلميحات إلى ملك أميركي، ففي غضون أسابيع، قلب الرئيس النظام العالمي رأساً على عقب بسياساته المغايرة حيال روسيا، وتوبيخه أوكرانيا، وازدرائه أوروبا، وإعلانه عن مطالبات بأراضٍ أجنبية مثل غرينلاند وغزة وقناة بنما وكندا، في ما رآه البعض نسخة القرن الـ 21 من الإمبريالية الأميركية.
وفي الداخل استخدم مطرقة ثقيلة ضد البيروقراطية الفيدرالية، واستخفّ حسبما يرى خصومه بسلطة الكونغرس، وبدأ في محو أي مظهر من مظاهر استقلال وزارة العدل، وأصدر سيلاً من الأوامر التنفيذية، لدرجة أن القليل من الناس يستطيعون تذكرها، وعلى رغم مما يصفه كثير من المسؤولين في إدارته بأنه يستهدف استئصال الهدر في الحكومة، وتأمين الحدود، وتفكيك الدولة الإدارية، واستعادة الثقة في النظام القضائي، والحصول على حصة أميركا العادلة في التجارة الخارجية، فن تصرفاته تعادل ممارسة واسعة للسلطة ليس لها مثيل في التاريخ الأميركي الحديث، ولهذا يرى المعلق السياسي في مجلة “بروسبكت” تي غرين أن سلطة الرئيس لا يمكن تمييزها إلى حد كبير عن سلطة الملك المطلق، نظراً إلى أن ادعاءاته الملكية تمحو الضوابط والتوازنات مع الكونغرس والمحاكم المنصوص عليها في الدستور.
ملك كل شيء
بحسب كثير من المراقبين والمتابعين لمسيرته الطويلة في مختلف المجالات، امتلك ترمب نوازع شخصية قادته دائماً للاعتقاد بأن يكون الملك لكل شيء، فقد أراد أن يكون ملك التطوير العقاري الذي يمتلك أكثر العقارات إثارة للإعجاب تعلوها العلامة التجارية التي تحمل اسم عائلته، ونجم تلفزيون الواقع الذي يحظى بأعلى معدلات المشاهدة، والسياسي الذي يعتقد أنه يتصدر كل استطلاعات الرأي، ولاعب الغولف الذي يفوز دائماً بجميع البطولات. ولهذا لا ينبغي أن تكون أفعاله الآن مفاجئة لأي شخص، فهو يريد أن يملي الأحداث ويسيطر على كل شيء، وتحرك حتى للإشراف على الوكالات الفيدرالية المستقلة وتوجيهها، وهو ما يرى المحافظون أنه سيعيد النظام الدستوري، كذلك يفكر عقب مشاحنته مع حاكمة نيويورك، في إدارة العاصمة واشنطن (مقاطعة كولومبيا) من السلطة التنفيذية في البيت الأبيض، ويريد أيضاً أن يتولى السيطرة على هيئة البريد الفيدرالية الأميركية، في ما يبدو أنه يرى أي شيء على أنه ينبغي أن يكون تحت سلطته.
بالنسبة إلى بعض الأميركيين من المحافظين والجمهوريين، هذا هو المطلوب بالضبط، صدمة كهربائية على الجسد السياسي الأميركي، وإصبع في عين النخب الليبرالية التي سيطرت على المشهد السياسي والإعلامي الأميركي عقوداً طويلة، وعقاب للبيروقراطيين الذين يُنظر إليهم على أنهم فقدوا البصيرة، لكن بالنسبة إلى الآخرين، كان الشهر الماضي أسوأ مما كانوا يخشون في شأن ولاية ترمب الثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولد ليكون ملكاً
يرى مايكل دانتونيو وهو مؤلف كتاب “لا يكتفي أبداً: دونالد ترمب والسعي إلى النجاح”، أن الرئيس الأميركي الحالي مثل ملوك التاريخ، يعتقد أن الصفات التي تجعله ناجحاً هي صفات فطرية موروثة وموجودة في حمضه النووي، وتأكد شعور ترمب هذا باستحقاق الجدارة منذ فترة طويلة، ولهذا فإن من يحاولون فهمه وتفسير تصرفاته، يخطئون عندما يتصورون أن روحه مجروحة وأنه يعوض ذلك بالثرثرة النرجسية.
وبحسب دانتونيو، لا يتوافق هذا التشخيص مع الاستنتاج الذي توصلت إليه زوجته الثانية، مارلا ميبلز بأن ترمب ملك يعتقد حقاً أنه حاكم العالم، بل إن ميبلز تشتبه في أن ترمب كان شخصية ملكية في حياة سابقة، لكن الأرجح أنه اكتسب هذا الاعتقاد من خلال التدريب على يد والده الذي ربى دونالد الصغير وقال له “أنت ملك” وفقاً لكاتب سيرة ترمب هاري هيرت الثالث، كما كانت والدته مفتونة بالعائلة المالكة إلى الحد الذي جعل ترمب يتذكر الساعات التي قضتها في مشاهدة البث التلفزيوني لتتويج الملكة إليزابيث.
وما عزز شعوره بالاستحقاق طوال حياته دعم مجتمعه المحيط به، ففي عام 1987، وخلال حفل لمناسبة نشر كتابه “فن الصفقة”، التفت منظم الملاكمة دون كينغ إلى حشد من الجمهور وأعلن وصول ترمب وزوجته آنذاك إيفانا قائلاً “ها هو الملك والملكة”، وبعد بضعة أعوام، عندما ظهر في حدث بأحد الكازينوهات التي يملكها في مدينة أتلانتيك سيتي، صاح المذيع “دعونا نسمعها للملك”، وعندما زار قرية أسلافه الإسكتلنديين المتواضعة، أخبر أقاربه أنه بسبب برنامجه التلفزيوني “أبارانتيس” أو “المتدرب”، أصبح من أفراد العائلة المالكة الأميركية.
من يستطيع المقاومة؟
لكن وسط خشية غالبية النخبة الليبرالية السياسية من أن تقوّض الرئاسة النظام الدستوري الأميركي، تثار أسئلة عمن يستطيع مقاومة هذه السيطرة الرئاسية، إذ تبرز المحاكم الفيدرالية كخط المواجهة الطبيعي الأول في هذا النوع من الأزمات، وكما لاحظ الجميع منعت كثير من المحاكم بعض قرارات ترمب التنفيذية المبكرة.
لكن على رغم أهمية هذه الاستجابة القانونية، فإنها ليست كافية في حد ذاتها بحسب وليام بارتليت أستاذ القانون العام في جامعة “ملبورن”، لأن المحكمة العليا الأميركية التي من المتوقع أن ينتهي إليها الصراع القانوني الدائر الآن قد تكون أكثر استعداداً لقبول هذا التوسع في السلطة الرئاسية من المحاكم الأدنى، وعلى سبيل المثال، منحت المحكمة العام الماضي، الرئيس الأميركي الحصانة من الملاحقة الجنائية، مما يدل على تعاطفها مع الفهم الواسع للسلطة التنفيذية.
وإضافة إلى ذلك،ط يمكن سحب المراسيم الرئاسية وتعديلها بسهولة، وهذا من شأنه أن يسمح لترمب وفريقه القانوني بإعادة ضبط أنفسهم عندما تُتحدى قراراته التنفيذية، وتوجد أفضل القضايا لتقديمها إلى المحكمة العليا، وحتى لو عرقلت المحكمة العليا بعض القرارات، فمن الممكن أن يتجاهل البيت الأبيض هذه الإجراءات ببساطة.
ولهذا فإن استخدام ترمب الجريء السلطة الرئاسية ليس مجرد أزمة دستورية، بل أزمة سياسية، وبالنسبة إلى الذين يسعون إلى المقاومة، فإن هذا الأمر لا يمكن تركه للمحاكم، بل يجب أن يشمل المؤسسات السياسية الرئيسة، والمكان الأكثر وضوحاً للبدء منه هو الكونغرس، حيث ينبغي على المشرعين أن يتصرفوا بحزم لتأكيد السلطة القانونية الممنوحة لهم في الدستور لكبح سلطة الرئاسة، وهذا يشمل الاستخدام النشط للكونغرس لسلطته في الميزانية، فضلاً عن سلطاته الإشرافية على الرئاسة.
الوقت كالسيف
قد يحدث هذا الآن إذا اتخذ عدد قليل من الجمهوريين موقفاً مبدئياً في شأن القضايا الدستورية المهمة، لكنهم جميعاً فضلوا حتى الآن الانصياع لترمب، ومع ذلك يمكن للديمقراطيين استعادة مجلسي النواب والشيوخ في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2026، ومن ثم تعزيز آليات الرقابة والمحاسبة والتحكم في الميزانية بما يحد من نفوذ واتساع السلطة الرئاسية.
ويمكن للولايات كذلك أن تتصرف لمقاومة هذا التوسع في السلطة الرئاسية عبر أشكال عدة، بما في ذلك رفض نشر سلطات تنفيذ القانون التقليدية فرض القرارات التنفيذية التي تعتبرها غير دستورية أو غير قانونية، كما يمكن للمؤسسات الأخرى أن تلجأ إلى الشعب الأميركي بأكثر من الحجة القانونية الضيقة القائلة إن تصرفات ترمب غير دستورية، إذ يمكنها طرح الحجة السياسية الأوسع نطاقاً بأن تحويل الرئيس الأميركي إلى ملك منتخب من شأنه أن يعزز شكلاً من أشكال السياسة غير الفعالة والفاسدة.
لكن كما يحذر البعض، فإن الوقت كالسيف وهو جوهر المسألة الآن، وكلما طال الوقت الذي يتمكن فيه “الرئيس المتوج” من العمل بالطريقة التي تحلو له، أصبح هذا النظام أكثر ترسخاً، وبالنسبة إلى من يرغبون في المقاومة، فقد حان الوقت ليس فقط للمقاومة القانونية، بل والسياسية أيضاً.
نقلاً عن : اندبندنت عربية