زادت الزيارات الرسمية المتبادلة بين المسؤولين من الحكومة التونسية ونظرائهم الصينيين خلال العامين الأخيرين، وهو ما تُرجم إلى إبرام صفقات عدة بالغة الأهمية لتونس التي تسعى إلى تحديث بنيتها التحتية، إضافة إلى تقوية التعاون الاقتصادي بين البلدين.
وعرف التقارب التونسي – الصيني ذروته إثر زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى الصين في نهاية مايو (أيار) 2024، مما أثمر توقيع اتفاقات تعاون عدة بين البلدين.
وبعد ثلاثة أشهر زار رئيس الحكومة التونسية كمال المدوري بكين في سبتمبر (أيلول) 2024 والتقى خلالها مسؤولين من أجل توطيد العلاقات.
المراهنة على قطاعات إستراتيجية
ومنذ مايو 2024 استمرت الزيارات الرسمية بين مسؤولي البلدين وآخرها زيارة وزير النقل التونسي رشيد العامري إلى بكين ليقف على آخر استعدادات الصين لتسليم تونس 300 حافلة ضمن مناقصة أطلقتها تونس وفازت بها إحدى الشركات الصينية، وقد يزيد عدد الحافلات إلى 420 في المستقبل القريب، وقال العامري في تصريحات إن “الصين أبدت تجاوباً كبيراً مع تونس في شأن كثير من المسائل التي تخص قطاع النقل الإستراتيجي لتونس بجميع مكوناته”، لافتاً إلى أن “هذا التعاون سيشمل خلال الفترة المقبلة النقل الحديدي والذكي”.
ووقع وزير الصحة التونسي مصطفى الفرجاني أخيراً خلال جلسة عمل مع نائب رئيس اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في الصين ليو سيشي مذكرة تفاهم خاصة بالمدينة الطبية بالأغالبة في محافظة القيروان (وسط)، معرباً عن “تطلع بلاده للوصول إلى مراحل تنفيذ هذا المشروع الرائد في أقرب وقت ممكن، مما يعكس عمق العلاقات التونسية – الصينية في مختلف المجالات”. وثمن الفرجاني أيضاً اهتمام الجانب الصيني بمشروع المدينة الطبية باعتباره قطباً تنموياً ذا أبعاد وطنية وإقليمية، وذلك في إطار رؤية إستراتيجية طويلة المدى تدعم قطاع الصحة والتنمية.
من جانبه أكد نائب رئيس “وكالة التعاون الإنمائي الدولي الصينية” ليو جونفينغ خلال لقائه وزير الصحة استعداد بلاده تنفيذ عدد من المشاريع الكبرى في تونس، مشيراً إلى أن الاستعدادات جارية للبدء في بناء “مركز الأورام السرطانية” في محافظة قابس (جنوب شرق)، مما يعكس التزام الصين القوي بدعم التنمية في تونس عبر مختلف المجالات.
وشمل التعاون أيضاً المجال الرياضي بعد أن تعهد الجانب الصيني بإعادة بناء أبرز وأقدم ملاعب كرة قدم في البلاد، وهو الملعب الأولمبي بالمنزه في تونس العاصمة، والذي يعود تشييده إلى ستينيات القرن الماضي بكلفة تجاوزت 400 مليون دينار (130 مليون دولار).
وعي بالوزن الاقتصادي للصين
وتعليقاً على هذا التقارب الإستراتيجي اعتبر أستاذ الاقتصاد في جامعة قرطاج معز السوسي أن التحركات بين البلدين منذ ثلاثة أعوام توضح أن العلاقات البينية تعرف دفعاً على أعلى مستوى من قبل رئيسي الجمهورية والحكومة، وتبرز وجود وعي بالوزن الاقتصادي للصين دولياً، خصوصاً في ظل العجز الكبير في التبادلات التجارية مع الصين بعد تركيا، وبالتالي فتونس في حاجة ماسة إلى تحسين قدرة التفاوض مع بكين.
وأضاف السوسي أن “العلاقات التونسية – الصينية لها أثر وثقل مهم جداً، ودعمها وتطويرها دبلوماسياً مهم خصوصاً في ظل ابتعاد تونس من توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتمول موازنة الدولة”.
وتابع، “هذا الوضع يفرض على تونس ربط شراكات جديدة للحصول على تمويلات بالنظر إلى وجود مشاريع تنفذ ضمن التعاون الفني بين تونس والصين، ومن بينها مشروع جسر بنزرت أقصى الشمال عبر طلب عروض دولي فازت به شركة صينية، وهو ليس انحيازاً لهذا الشريك الآسيوي”.
عجز تجاري
وبالتوازي مع هذا التعاون الإستراتيجي بين تونس والصين فإن العملاق الآسيوي استأثر وحده بنصف عجز الميزان التجاري لتونس بقيمة 9 مليارات دينار (3 مليارات دولار) من ضمن عجز تجاري إجمالي بلغ 19 مليار دينار (6.1 مليار دولار) عام 2024، وتعتبر الصين رابع شريك تجاري لتونس والشريك التجاري الأول على صعيد القارة الآسيوية، ومن عوامل هذه الشراكة أن السيارات الصينية بدأت في فرض نفسها داخل السوق التونسية وتنتزع نصيباً مهماً من سوق السيارات في البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما على مستوى الاستثمارات الصينية المباشرة في تونس فإنها ضعيفة مقارنة بنظيرتها الأوروبية، إذ لم تتجاوز قيمتها 10 ملايين دولار خلال عام 2023، بحسب أرقام وكالة “النهوض بالاستثمار الأجنبي” (حكومية)، بينما يصل حجم الاستثمارات الصينية المباشرة في العالم إلى 130 مليار دولار، 40 ملياراً منها في القارة الأفريقية.
ويبلغ عدد الشركات الصينية في تونس 21 شركة من إجمال 3700 شركة أجنبية، تشغل نحو 1200 مواطناً، ومن المتوقع أن يشهد حجم الاستثمار الصيني ارتفاعاً خلال الأعوام المقبلة، خصوصاً في مجالات التعمير والتكنولوجيا والطاقة الشمسية وتجميع الحافلات والسيارات ومصانع الأسمنت والفوسفات، بحسب تصريحات لمسؤولين ورجال أعمال صينيين.
آفاق سياحية
في غضون ذلك تخطط تونس لاستقطاب أكثر من 100 ألف سائح صيني عام 2026 في مقابل 30 ألف حالياً، بحسب تصريحات إعلامية لرئيس الجامعة التونسية لوكالات الأسفار والسياحية أحمد بالطيب، والذي أوضح أن “تونس وجهة حضارية وتحوي مقومات السياحة في شتى مناحيها الصحراوية والعلاجية والترفيهية والثقافية، إضافة إلى إتقان شعبها عدداً من اللغات”.
وأشار بالطيب إلى أن الجامعة أبرمت مطلع فبراير (شباط) الجاري اتفاقاً مع الرابطة الدولية للابتكار في التعليم بين الصين وشمال أفريقيا، والتي تمثل أكثر من 200 مؤسسة صينية في كل ما يتعلق بالتدريب، مضيفاً أن مجالات التكوين ستتركز حول تكوين التونسيين في مجال السياحة وتحديداً في الإدارة واللغة الصينية والذكاء السياحي، إضافة إلى تكوين الدليل السياحي.
الشريك الاقتصادي التقليدي لتونس
ومع تحول بوصلة تونس الاقتصادية والإنمائية إلى العملاق الآسيوي، يتساءل عدد من المتابعين عن آفاق أو مستقبل العلاقة بين تونس والاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي التجاري الأول لتونس، وعن ذلك قال السوسي إن “هذا التوجه نحو الصين لا يجب أن يدفع تونس نحو الاستغناء عن علاقاتها وشراكاتها مع الشريك الإستراتيجي الأول، وهو الاتحاد الأوروبي، الذي ما زالت تونس تحقق معه 65 في المئة من التبادلات”، مشدداً على أن بلاده يجب أن تحافظ على أسس سياساتها الدولية الحكيمة من دون الاصطفاف مع طرف دون آخر، وأن هذا لا يمنع من تحسين قدرة التفاوض إن كان مع الصين أو الشركاء الأوروبيين أيضاً.
شراكة متنوعة وربحية
وأكد السوسي أن من حق تونس تنويع شراكاتها الاقتصادية والتوجه نحو دول صارت بارزة وفاعلة في المشهد الاقتصادي العالمي، مضيفاً أن تونس تتجه نحو عملاق عدد سكانه يعادل تقريباً 140 مرة عدد سكانها، وكذلك بلد فاعل ومنتج ومتمكن من التكنولوجيا، ورأى أن “بناء شراكة عادلة وربحية بين تونس والصين يجب أن تشمل ثلاثة مجالات، وهي الانتقال الطاقي ومكافحة متغيرات المناخ وتفعيل رافعات الاقتصاد على مستوى الذكاء الاصطناعي، والصين رائدة في هذه المجالات في العالم”، مشدداً على ضرورة أن تكون تونس واعية بحجمها وقدراتها وحجم شركائها، وأن تعي أن الشريك الأوروبي مهم جداً وأنه الحليف الإستراتيجي الأول ولا بد من المحافظة عليه.
نقلاً عن : اندبندنت عربية