توارت سعادة اقتناء غسالة أطباق جديدة خلف مشاعر من الغضب، وتبدل الفرح حزناً مع عطل مفاجئ أصاب برنامج التشغيل تباطأت معه الشركة المنتجة عن التدخل، وتبخرت وعودها بصيانة أعطال ما بعد البيع وعيوب التصنيع عقب ثلاثة أيام فقط من الشراء، قبل أن يأتي رد الشركة صادماً “سنصلحها لك”.
باغت الشابة الثلاثينية ياسمين عبدالرحمن شعور بالخداع والغيظ واليأس، قبل أن تتساءل، “كيف لهم أن يبيعوني جهازاً معيب الصنع، ثم يعدونني بإصلاحه بعد ثلاثة أيام فقط من الشراء؟ أولى بهم الاعتذار عن تلك الوقاحة واستبدال الغسالة المعيبة بأخرى أو رد الثمن”، فيما الفضائيات مُلئت بعشرات الإعلانات عن مراكز صيانة معتمدة هي في واقع الأمر “دكاكين وورش تحت بئر السلم” لبيع أوهام الإصلاح.
حقوق استهلاكية ضائعة
ضيعت خدمات ما بعد البيع في مصر، حتى صارت الصيانة حقاً استهلاكياً مفقوداً لدى كثير من الشركات التي تسوق منتجاتها بضمانات إصلاح لعيوب الصناعة وتوفير قطع الغيار للمستهلك طوال بضعة أعوام من العمر الافتراضي، في خرق قانوني لما كفله المشرع في قانون حماية المستهلك رقم 181 لسنة 2018.
تنص المادة 26 من القانون على أن يضمن مورد خدمات التشطيبات والصيانة والتركيبات المنزلية صلاحية ما نفذه من أعمال وما جرى توريده من منتجات مدة سنة في الأقل، ما لم يحدد جهاز حماية المستهلك مدة أقل بالنظر إلى طبيعة الأعمال أو المنتجات، ويكون الضمان ثلاثة أعوام في الأقل إذا كان العيب راجعاً لغش أو إهمال جسيم.
قانون حماية المستهلك
ووفقاً لنص المادة، يلتزم المورد عند تحقق شروط المسؤولية عن عدم الصلاحية بإعادة تقديم الخدمة أو برد مقابلها أو ما يجبر النقص فيها، وباستبدال ما جرى توريده من المنتجات أو رد قيمتها، أو تنفيذ ما يقرره الجهاز عند الخلاف.
لكن الواقع في مصر يشير في كثير من الحالات إلى تغييب حق المستهلك في صون منتجه طوال فترة الضمان المثبتة على وثيقة الشراء، واقتصار المهمة على دفع المبيعات قدماً وتسويق المنتج من دون جبر الأضرار المحتملة عن سوء التصنيع، رغم حرص الشركات على تبرير مغالاتها في أسعار تلك المنتجات، وارتباط ذلك بصورة وثيقة بما تقدمه من خدمات ما بعد البيع.
مراكز الصيانة الوهمية
وبينما تخلى عديد الشركات عن مسؤولية صيانة منتجاتها المباعة، انتشرت في المقابل آلاف من مراكز الصيانة الوهمية التي تدعي انتسابها لكبريات الشركات الموردة وحقها حصراً في صون منتجات ما بعد البيع، وهي الظاهرة التي اعترف بها جهاز حماية المستهلك، وخصص لمواجهتها خطاً ساخناً من دون أن يحسم تلك المواجهة لمصلحته.
يشكو كريم السيد، وهو مهندس شاب في إحدى شركات المقاولات كيف عانت والدته من عطل ثلاجة اشترتها قبل ستة أشهر فحسب، من دون أن تمنح الأطعمة المحفوظة داخلها تجميداً مناسباً، وما إن لاحظت ارتفاع حرارة أحد جانبي الثلاجة بصورة كبيرة، حتى سارعت الاتصال بالشركة الموردة، لكنها لم تلق استجابة بعد أسابيع من مداومة الشكوى.
تخاذل الشركات
يقول لـ”اندبندنت عربية”، “اتصلت والدتي بالخط الساخن للشركة، وهي بالمناسبة إحدى أشهر الشركات في مصر وأكبرها، وبعد تعبئة روتينية لبيانات المتصل وعنوانه يعد الموظف بإرسال فنين للمتابعة وسحب الثلاجة في تاريخ يحدده من دون أن يفي بذلك، فعاودت الاتصال وتعبئة البيانات والإشارة إلى اتصال سابق لهذا الغرض، ثم الأمر ذاته، وعد وحنث”. ويلفت المتحدث نفسه إلى اضطراره إلى الاستعانة بأحد الأشخاص من معارفه النافذين للتوسط لدى الشركة، بغية الحصول على عملية الصيانة المزعومة حقاً أصيلاً في وثيقة الشراء، وكانت الصدمة لديه في نجاح عملية الوساطة وتنازل الشركة بإصلاح الثلاجة، مستنكراً، “فقدنا الثقة في كيان كبير يفترض له اسم ذا صيت وسمعة في السوق، وفقدنا الثقة في الكيانات والشركات الأصغر حجماً بعد هذا الفعل”.
“أخذوا الغسالة ولم يعيدوها”
أما منال السعيد، وهي ربة منزل أربعينية فتشكو حيرتها عند البحث عن مركز صيانة الغسالة المعتمد عبر شبكة الإنترنت، “فوجئت بعشرات المراكز بأسماء وأرقام مختلفة تزعم وكالتها أعمال صيانة الغسالة، فاتصلت بأولها ترتيباً على محرك البحث، ووعدتني الموظفة بإرسال فنيين للمعاينة وسحب الغسالة”.
وتضيف، “قدموا وعاينوا وسحبوا الغسالة، وأمام تأكيدي على حاجتي الماسة للغسالة في أعمال غسل الملابس وتراكمها منذ أسبوع من الأعطال، وعدونا بإعادتها بعد عملية الصيانة التي لن تستغرق سوى ثلاثة أيام عمل على الأكثر، وفي التاريخ الموعود لم يأتوا ولم يردوا على الاتصال، واكتشفت بعدها أن مركز الصيانة إنما هو واحد من عشرات المراكز الوهمية التي تنتسب إلى الشركة”.
التركيز على المبيعات فقط
وتتساءل منال في حسرة “لكن أين الشركة الموردة في الأساس، لماذا المجال مفتوح أمام عشرات المراكز الوهمية؟”، مشيرة إلى قناعة مفادها أنه ما انتشرت هذه المراكز إلا من تخاذل الشركات عن صيانة منتجاتها لما يمثله ذلك ربما من خسارة في كلفة استبدال قطع الغيار والمعاينة والصيانة والإصلاح، وتركيزها فقط على عمليات البيع من دون تقديم خدمة حقيقية يكفلها القانون بعد ذلك.
وسبق لجهاز حماية المستهلك في مصر التحذير من خطر المراكز الوهمية التي تستغل العلامة التجارية وتمارس نشاطاً تجارياً من دون ترخيص الجهات المتخصصة، وتقديم خدمات صيانة منتقصة للمستهلكين، وما تمثله تلك الجهات من خطورة شديدة على الصناعة الوطنية وتسببها في خسائر كبيرة للاقتصاد المصري.
مئات الشكاوى
وتعطى المادة 21 من قانون حماية المستهلك، الحق للمستهلك خلال 30 يوماً من تسلم السلعة في استبدالها أو إعادتها مع استرداد قيمتها النقدية، إذا شابها عيب أو كانت غير مطابقة للمواصفات أو للغرض الذي تم التعاقد عليها من أجله، ويلتزم المورد في هذه الأحوال بناء على طلب المستهلك باستبدال السلعة أو استردادها مع رد قيمتها من دون أي كلفة إضافية على المستهلك، وكل ذلك من دون الإخلال بأي ضمانات أو شروط قانونية أو اتفاق أفضل للمستهلك أو ما يحدده الجهاز من مدد أقل بالنظر إلى طبيعة السلعة.
وتعج صفحة جهاز حماية المستهلك على موقع التواصل الاجتماعي، “فيسبوك” بمئات التعليقات لمستهلكين شكوا تهرب الشركات من تقديم خدمات ما بعد البيع وفي بعض الأحيان السقوط في أفخاخ المراكز الوهمية، وهي الشكاوى التي يقابلها الجهاز الرقابي على صفحته بتوجيه الشاكي نحو توثيق شكواه عبر الخط الساخن للعمل على حلها.
إعلانات تغزو الفضائيات
وتحظى مراكز الصيانة الوهمية في مصر بأرقام هواتف مختصرة لإيهام المتصل بصدقية تلك الجهات، وعشرات الساعات يومياً من البث عبر شاشات التلفزة للإعلان عن خدماتها، مما يجذر لأزمة الصيانة في مصر وضياعها بين منتج متخاذل ومركز مزعوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أحمد حسن وهو أحد تجار الأجهزة الكهربائية ووكيل عشرات العلامات التجارية المنتجة يقول لـ”اندبندنت عربية” إنه لا يعمل في بيع الأجهزة المنزلية مجهولة الاسم بعكس غيره من بعض التجار ممن تحفزهم أسعار تلك المنتجات رديئة الصنع على تسويقها وبيعها للمستهلك، من دون مراكز خدمة أو صيانة معتمدة.
مسؤولية المستهلك
ويضيف حسن، التاجر والمستورد يتشاركان ربح بيع البضائع المعيبة، فيما المستهلك وحده هو من يدفع الفاتورة ثم يلقي اللوم على الأجهزة الرقابية التي تتحمل هي أيضاً جانباً كبيراً من المسؤولية، لكن الجانب الأكبر يتحمله المستهلك الذي يبحث عن سعر تفضيلي من دون التحقق من اسم الشركة الموردة.
وتعمل غرفة الصناعات الهندسية في اتحاد صناعات مصر منذ أعوام على ملف المراكز الوهمية التي انتشرت في الأعوام الأخيرة، ويقول رئيسها محمد المهندس لـ”اندبندنت عربية”، إن الغرفة تتبنى مشروعاً لإعداد قائمة بالمراكز الحقيقية لاعتمادها رسمياً وكلاء لصيانة منتجات العلامات التجارية الشهيرة والمعترف بها نظير عمولة وتوفير قطع الغيار الأصلية.
حرب منذ سنوات
ويلفت المهندس إلى أن الغرفة تحارب منذ سنوات مراكز الخدمة غير الشرعية، وتسعى إلى تحويل القطاع غير الرسمي للعمل تحت مظلة وشرعية القطاع الرسمي عبر اعتماد مراكز الصيانة المنتشرة في ربوع البلاد، وذلك تجنيباً لكل من الصانع والمستهلك تبعات أعمال الغش هذه.
ومع انتشار بعض العلامات التجارية غير المعروفة في السوق والقائمة على الاستيراد، يلقي المهندس بعض اللوم على المستهلك الذي لا يتمتع بخبرة ودراية كافية ببعض هذه المنتجات، وربما تفضيله إياها على رغم افتقارها خدمات ما بعد البيع.
مسؤولية ثلاثية
وتنسق الغرفة مع الشركات المصرية المعتمدة حال تلقيها شكاوى تتعلق ببعض أعمال الصيانة، ويقول رئيسها إنه على تواصل دائم برؤساء تلك الشركات التي يمكن محاسبتها حال تهربها من صيانة منتجاتها بموجب قانون حماية المستهلك، بينما لا تستطع أن تفعل مع العلامات التجارية المستوردة وغير المعروفة.
هنا يلمح رئيس غرفة الصناعات الهندسية إلى تشارك جهات أخرى من بينها وزارة التجارة المسؤولية حال سماحها باستيراد تلك المنتجات من الخارج من دون أن تكون لها مراكز صيانة معتمدة في البلاد، وأمام ارتفاع أسعار الأجهزة الكهربائية والمنزلية في مصر، يلفت في حديثه إلى ضرورة تأمين السلع والمنتجات المباعة بضمانات صيانة ما بعد البيع، وصون حق المستهلك في شراء بضاعة جيدة، وتجنيه مغبة خسارة أمواله.
على الأرجح ستظل أزمة الصيانة في مصر صداعاً يؤرق المنتج والمستهلك والأجهزة الرقابية ما لم يتخل الأول عن تخاذله من مسؤولية خدمة ما بعد البيع، وما لم يتحل الثاني بما يكفي من الوعي والدراية عند الشراء، وطالما ظلت الثالثة تمارس رقابة لاحقة تبدأ من تلقي الشكوى بدلاً من استئصال تلك الآفة في مهدها.
نقلاً عن : اندبندنت عربية