تتبع وعود وتصريحات أميركا وفرنسا حيال عزمهما افتتاح قنصليتين في كل من مدينتي العيون والداخلة في الصحراء المغربية سياسة التريث، وهو الشيء الذي جعل عدداً من المراقبين يطرحون سؤال الخلفيات وراء هذه المماطلة في فتح قنصليتي واشنطن وباريس في الأقاليم الجنوبية للمملكة.

وأكدت الإدارة الأميركية خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترمب بعد الإقرار بسيادة المملكة على الصحراء، عزمها إنشاء قنصلية عامة لها في مدينة الداخلة التي تلقب بلؤلؤة الجنوب المغربي، لكنها ظلت تصاريح بلا تنفيذ باستثناء مركز قنصلي افتراضي.

ومن جهة فرنسا عبر مسؤولون رفيعو المستوى، وآخرهم رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرارد لارشي، أكثر من مرة عن رغبة باريس في تعزيز العلاقات مع المغرب بإنشاء قنصلية فرنسية في مدينة العيون، كبرى حواضر الصحراء، لكن من دون ترجمة هذه الوعود إلى واقع على الأرض.

وعود وآمال

وتوالت الوعود الأميركية بإقامة قنصلية عامة لها في مدينة العيون الصحراوية المغربية منذ أن أعلن ترمب خلال فترة رئاسته الأولى، وتحديداً في الـ 10 من ديسمبر (كانون الأول) 2020، قبل أيام قليلة من انتهاء ولايته في الـ 20 يناير (كانون الثاني) 2021، اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.

وكان ترمب كتب حينها منشوراً على “منصة إكس” قال فيها إنه “وقع إعلاناً يعترف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، وأن اقتراح المغرب الجاد والواقعي للحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لحل عادل ودائم لتحقيق السلام الدائم والازدهار”.

ومباشرة وبعد اعتراف ترمب أعلن وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو إحداث مركز افتراضي ليكون بمثابة مبادرة تمهد للإنشاء الفعلي للقنصلية الأميركية العامة في مدينة الداخلة، كما زار السفير الأميركي السابق ديفيد فيشر وقتها هذه المدينة ليكون أول سفير أميركي يزور رسمياً الصحراء.

وفي الجانب الفرنسي أكد جيرارد لارشي قبل أيام عند زيارته مدينة العيون الصحراوية اعتزام باريس فتح قنصلية فرنسية في هذه المدنية، تعزيزاً للشراكة الإستراتيجية بين البلدين التي أعلنت في الفترة الأخيرة لمناسبة زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للمملكة واستقباله من العاهل المغربي الملك محمد السادس.

اختلاف السياسة الخارجية

ويعلق أستاذ العلوم السياسية محمد الزهراوي على الموضوع بقوله إن هناك تبايناً واختلافاً بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا في سياستهما الخارجية، وبالتحديد إزاء قضية الصحراء، شارحاً أن “واشنطن سبق والتزمت خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترمب بفتح قنصلية في الداخلة في إطار الاتفاق الثلاثي، وهو التزام جاء في سياق نهاية ولايته”.

ويردف الزهراوي أنه ومع وصول إدارة جو بايدن الذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي فإن هذا الأخير يتبنى عقيدة دبلوماسية ترتكز على “التوازن الإستراتيجي” في تدبير العلاقة مع كل من المغرب والجزائر، وهو ما يفسر تحفظ وتعامل هذه الإدارة بنوع من البرود مع هذا الالتزام القائم على الاعتراف بمغربية الصحراء، ووفقاً لهذا المعطى فقد أدرك المغرب أن فتح القنصلية في عهد الرئيس بايدن يظل مستبعداً.

وأشار الأستاذ الجامعي ذاته إلى أن التحفظ أو التأخر الأميركي حيال فتح قنصلية في الصحراء يثير بعض التساؤلات حول مدى التزام واشنطن بالاتفاقات، وأنه على عكس الولايات المتحدة لم تعترف فرنسا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية إلا أخيراً، وتحديداً خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، وكتتويج للاعتراف الفرنسي جاءت زيارة مسؤولين فرنسيين بارزين مثل وزيرة الثقافة رشيدة داتي ورئيس مجلس الشيوخ جيرارد لارشي، وهي إشارات واضحة على وجود توجه مغاير نحو افتتاح قنصلية في العيون.

مستويات القرار

ويتوقع محمد الزهراوي إمكان فتح قنصليات لقوى كبرى مثل أميركا وفرنسا من خلال ثلاثة توجهات، الأول أن المغرب يسعى إلى تقوية “الحضور القنصلي” الغربي في الصحراء لدعم وحدته الترابية، كما تراهن المملكة في هذا الإطار على تفعيل الاعترافات الميدانية على الأرض.

ويرى المحلل عينه أن المغرب يحاول أن يتجاوز منطق الاعتراف الكلاسيكي، إذ أصبح يراهن على الاعترافات الفعلية والواقعية من خلال دخول الدول ميدانياً، سواء على المستوى الدبلوماسي أو على المستويين الاقتصادي أو السياسي، وباتت هذه الدينامية تشكل عقيدة دبلوماسية لتصنيف الحلفاء والأصدقاء.

وأما التوجه الثاني، وفق الزهراوي، فيتعلق بأميركا، إذ إن فوز ترمب يضع سيناريو فتح قنصلية أميركية في الصحراء والوفاء بالالتزامات السابقة، غير أن انتهاج ترمب سياسات غير متوقعة بصورة فردية يبقي احتمال فتح قنصلية قائماً لكن توقيته غير محدد، وهذا ما يدفع المغرب إلى التريث وانتظار وضوح أكبر في السياسة الخارجية الأميركية خلال الأشهر المقبلة.

وبخصوص التوجه الثالث يقول الزهراوي إن “التريث الفرنسي مرتبط بالشأن الداخلي، على اعتبار أن الحكومة الفرنسية لا تعرف استقراراً بحكم ما أفرزته الانتخابات الأخيرة من خريطة سياسية أضعفت مؤسسة رئيس الدولة بسبب صعوبة التحالفات”، موضحاً أن “الزيارات الأخيرة للمسؤولين الفرنسيين لمدن صحراوية بالمملكة تعد بمثابة بالون اختبار لجس نبض القوى السياسية الفرنسية الأخرى، إذ إن الرئيس إيمانويل ماكرون لا يريد القيام بهذه الخطوة إلا بعد استيفاء مجموعة من الإجراءات الأخرى، وبخاصة في ما يتعلق بضمان المصالح الفرنسية ومحاولة خلق اصطفاف داخلي حول السياسات الخارجية الجديدة في المنطقة المغاربية”.

وخلص الزهراوي إلى أن مسألة فتح القنصليتين تبقى رهينة بموازين القوى السياسية الداخلية في البلدين ومدى قدرة المملكة المغربية على توظيف مختلف الأوراق واستمالة القوى الغربية لترجمة مواقفها الدبلوماسية إلى إجراءات فعلية على الأرض.

خرائط المصالح الجيوسياسية

من جهته قال أستاذ العلاقات الدولية مولاي هشام معتضد إن عزم الولايات المتحدة الأميركية فتح قنصلية في مدينة الداخلة وفتح فرنسا قنصلية في مدينة العيون يمثل تطوراً دبلوماسياً لافتاً يُسلط الضوء على التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة، ويعكس في الوقت ذاته إعادة تشكيل خرائط المصالح الجيوسياسية في شمال أفريقيا ومنطقة الأطلسي.

ويردف معتضد أنه على رغم أن تنفيذ هذه الخطوات على أرض الواقع قد يبدو مؤجلاً لكن قراءة هذه الدينامية من منظور الإستراتيجيات الدولية تكشف عن أن التأخير لا يُعد بالضرورة تراجعاً عن الالتزامات المعلنة، بل يمكن فهمه كجزء من عملية ضبط إيقاع التحركات الدبلوماسية وفقاً لأولويات كل دولة ورؤيتها الخاصة لدورها الإقليمي.

ويشرح معتضد أن “إعلان الولايات المتحدة نيتها فتح قنصلية في الداخلة قرار إستراتيجي يعكس عميقاً بالأهمية الجيوسياسية للمنطقة، فالداخلة بموقعها الإستراتيجي على المحيط الأطلسي تُمثل نقطة ارتكاز لأية مقاربة أميركية تسعى إلى تعزيز الحضور الاقتصادي والأمني في أفريقيا، خصوصاً مع تصاعد التنافس الدولي على الموارد والأسواق الأفريقية”.

ويتابع المتحدث أنه “ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى التأخر في فتح القنصلية كامتداد طبيعي لعملية إعادة ترتيب الأولويات الأميركية مع الإبقاء على الخيار الدبلوماسي مفتوحاً كأداة لتعزيز شراكة إستراتيجية طويلة الأمد مع المغرب الذي يُعتبر حليفاً مستقراً وموثوقاً في منطقة تشهد عدداً من التحديات الأمنية والسياسية”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تنافس سياسي

وفي مقابل الولايات المتحدة الأميركية تتبنى فرنسا مقاربة مختلفة تستند إلى تاريخ طويل من العلاقات الثنائية العميقة مع المغرب وإلى إدراك واضح لأهمية الاستقرار في المنطقة بالنسبة إلى مصالحها الإستراتيجية في شمال وغرب أفريقيا، ويقول معتضد إن “إعلان فرنسا نيتها فتح قنصلية في العيون يُترجم رغبة باريس في تعزيز وجودها الدبلوماسي في منطقة تشهد نمواً اقتصادياً متزايداً، وتعد بوابة طبيعية نحو أفريقيا جنوب الصحراء”، مبرزاً أنه “على رغم عدم التنفيذ الفوري لهذا الإعلان لكن التأخير قد يُفهم ضمن سياق الحرص على إنزال هذه الخطوة في إطار شامل يُعزز مكانة فرنسا كشريك رئيس في دعم التنمية المحلية، مع الأخذ في عين الاعتبار التوازنات الإقليمية والدولية الدقيقة”.

وقارن معتضد بين المقاربتين الأميركية والفرنسية اللتين تكشفان عن اختلاف في الديناميكيات المحركة لكلا البلدين، فالولايات المتحدة تعتمد مقاربة براغماتية ترتكز على حسابات النفوذ الإستراتيجي والاقتصادي، بينما تنطلق فرنسا من رؤية تعتمد على مزيج من المصالح الإستراتيجية والعلاقات التاريخية والثقافية.

ولفت المحلل عينه إلى أن “التقاطع الأساس بين واشنطن وباريس يكمن في الاعتراف المتزايد بالأهمية الجيوسياسية للأقاليم الجنوبية، وفي الإقرار الضمني بأن الحضور الدبلوماسي في المنطقة أصبح جزءاً من معادلة إعادة التموضع الدولي في شمال وغرب أفريقيا”.

وذهب معتضد إلى أن “افتتاح القنصليات في الداخلة والعيون هو مسألة وقت لأن الخطة التي أطلقتها المملكة خلال الأعوام الأخيرة، سواء على مستوى البنية التحتية أو المشاريع التنموية الكبرى، جعلت من المنطقة قطباً صاعداً يجذب اهتمام القوى الدولية”.

وأكمل، “مع تنامي هذا الزخم التنموي سيُصبح تعزيز الحضور القنصلي خياراً أكثر إلحاحاً للقوى الكبرى التي تُدرك أن التموقع الإستراتيجي في الأقاليم الجنوبية هو جزء لا يتجزأ من صياغة توازنات جديدة في المنطقة تتجاوز البعد الثنائي لتؤسس معادلة إقليمية أوسع نطاقاً”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية