ظلت الأحزاب السودانية منذ تأسيسها في العقود الأولى من القرن الـ20 تعاني ظاهرة الانقسامات المتكررة بسبب الصراعات الداخلية القائمة بين التيارات المختلفة، خصوصاً مع بداية كل مرحلة وحقبة حكم جديد، فضلاً عن ظهور تحالف سياسي جديد في المشهد وهو ما حدث في فترات مختلفة آخرها إعلان تحالف الميثاق التأسيسي “تأسيس” الذي تسبب في إحداث انشقاق كبير داخل حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي الموحد الأصل، مما أضعف قدرات هذه الأحزاب على تحقيق الاستقرار والانتقال الديمقراطي الحقيقي، فضلاً عن إسهامها في تشظي المشهد السياسي.

في ظل هذا الواقع المؤسف وهذه الأزمة البنيوية للأحزاب كيف يمكن إيقاف نزف هذه الانقسامات لضمان الاستقرار السياسي في البلاد وإرساء الحكم المدني الديمقراطي؟

 

قمع متطاول

يشير المتخصص في الاقتصاد السياسي حسن بشير محمد نور إلى أنه “في الحقيقة، الانقسامات داخل الأحزاب السودانية باتت سمة ملازمة لها منذ تأسيس مؤتمر الخريجين عام 1938 مروراً بالفترة التي أعقبت استقلال البلاد في 1956، فقد وقع أول انقسام وسط الاتحاديين (الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الشعب الديمقراطي)، إضافة إلى الانقسام الشهير في حزب الأمة بين جناحي الهادي المهدي والصادق المهدي عام 1966، كما نجد أن الانقسامات طالت أيضاً الأحزاب العقائدية، فقد حدث انقسام مشهور في الحزب الشيوعي السوداني إبان فترة حكم الرئيس السابق جعفر النميري أدى إلى خلاف قاد إلى المحاولة الانقلابية التي نفذها هاشم العطا ضد الأخير (النميري) عام 1971 والتي تسببت في هزة عنيفة للحزب بل أثرت في مجمل أوضاع البلاد ومستقبلها”.

أضاف، “أسهمت هذه الأحداث في حل حركة الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي لسد الفراغ الذي أحدثه الحزب الشيوعي والجوانب المتعلقة بالعمل النقابي، ومن ثم تمكن هذا التيار الإسلامي من التحالف لاحقاً مع نظام النميري آنذاك، وأدت هذه الخطوة لتطبيق قوانين الشريعة التي أطلق عليها في ما بعد قوانين سبتمبر (أيلول) 1983 واستمرت تداعياتها بصورة لاحقة حتى وقع انقلاب الإخوان الذي نفذه عمر البشير في 30 يونيو (حزيران) 1989، مما تسبب في انهيار الدولة السودانية، بيد أن حركة الإخوان شهدت انقساماً كبيراً عرف بالمفاصلة عام 1999، وذلك بانقسامها إلى حزبين (المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي)”.

وتابع محمد نور، “صحيح أن الأحزاب السودانية عانت طول فترات حكم الأنظمة الديكتاتورية وكذلك من القمع المتطاول، لكن في الوقت نفسه عانت عدم وجود مناخ للتنمية السياسية، ولتطورها إلى مؤسسات، مما أدى إلى انعدام مشروع وطني جامع من ناحية، ومشاريع خاصة لكل حزب على حدة، تنبثق منها برامج تفصيلية مبنية على مؤسسات، وأن تكون هناك هيئات ومؤسسات داخل كل حزب متخصصة في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاستراتيجية”. وواصل “الشيء الملاحظ أنه دائماً ما يكون هناك خلاف ليس فقط في التفاصيل وإنما في الجوهر، فمثلاً الخلاف الذي حدث في شأن تشكيل الحكومة الموازية، بخاصة ما يتعلق بالحزبين التقليديين الكبيرين (الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي) بسبب انضمام وتأييد مجموعة مؤثرة من الحزبين لهذه الحكومة الجديدة، هو خلاف جوهري وليس شكلياً لأنه يتعلق بصورة الدولة السودانية ومستقبل الحكم في البلاد، لكنهم يحاولون تبسيطه كأنه خلاف حول التفاصيل”.

 

واستطرد المتخصص في الاقتصاد السياسي “نجد، من ناحية أخرى، خلافات داخل الكتلة المؤيدة للجيش بين الإسلاميين والعسكريين، وهناك خلافات بينهما وبين مجموعة من الميليشيات المؤيدة للجيش وحركات الكفاح المسلح في دارفور، وكذلك حركات شرق البلاد وكتائب درع السودان والبراء بن مالك، فالخطورة أن جزءاً من هذه الميليشيات أيديولوجي وآخر جهوي وقبلي، ومن ثم، الخلافات بينها كبيرة جداً وخطرة، إضافة للكتلة الديمقراطية التي تضم أحزاباً سياسية ومجموعات مسلحة، فمهما تمكن الجيش من السيطرة على الوضع، فالخلافات ستتفجر بسبب تقاسم مغانم ومكاسب الحرب بين هذه الجماعات التي انضمت إلى الجيش بصورة عشوائية وغير منظمة، وليس هناك رابط أو قانون، مما سيشكل خطورة كبيرة جداً على مستقبل البلاد”.

وختم المتخصص في الاقتصاد السياسي قائلاً “في نظري، مستقبل الأحزاب مرتبط بمستقبل الدولة السودانية ومستقبل الديمقراطية لأنه لا يمكن أن تتطور هذه الأحزاب وأن تكون راسخة ومؤهلة للحكم والاستمرارية إلا من خلال الممارسة الديمقراطية، وفي ظل بيئة صالحة للتنمية السياسية والتطور”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تباين الرؤى

من جانبه أوضح الكاتب السوداني ماهر أبوالجوخ أن “انقسام الأحزاب السودانية لم يكن وليد التحالفات السياسية فقط، إنما نتيجة تباين الرؤى داخلها، فمثلاً انقسام حزب الغالبية (الوطني الاتحادي) قبل الاستقلال كان نتيجة الانعطاف المفاجئ من القيادة السياسية للحزب، ولاحقاً انقسم حزب الأمة نتيجة صراع القيادة بين الهادي المهدي وابن أخيه الصادق المهدي في ستينيات القرن الماضي”، وتابع “من المهم عدم إغفال التداعيات الناتجة من حرب أبريل (نيسان) 2023 وتصدعاتها الاجتماعية العميقة والانقسام وسط المجتمع السوداني، لذلك من الطبيعي أن تتأثر المكونات الحزبية بهذه الصراعات، وأن تعجز في الصمود أمام الأحداث المتلاحقة، التي تفاقمها الانتهاكات على أساس القبيلة والجغرافيا”، وزاد أبوالجوخ “في تقديري أن حال الاختلال والاصطفاف العاطفي والقبلي والمناطقي الناتجة من الحرب هي إحدى نتائج الحرب، ومن ثم فإن نهاية هذا الصراع سيترتب عليه تراجع وانحسار هذه الموجة والتوجه صوب قوالب أوسع وأشمل في التمثيل والتكوين القومي، لكن المؤكد أن الهياكل الحزبية، بصورتها الموروثة، قبل اندلاع هذه الحرب لن تستمر على المنوال ذاته، فالاتجاه يسير نحو خلق تكتلات أوسع خلال هذه المرحلة”.

 

وواصل “في الظاهر هناك ثلاث كتل هي كتلة تتحالف مع الجيش، وثانية متحالفة مع الدعم السريع، وثالثة تمثل القوى المدنية السياسية المعتزلة عن أي تحالف مع أي من طرفي الصراع، وقد تظهر كتلة رابعة تضم شقاً خارج الكتل الثلاث، وفي ظل هذه الكتل ستذوب الأطر التنظيمية التقليدية، ويبدو الأمر أقرب لتأسيس إطار جماعي يضم كل المكونات الداخلية”، ولفت إلى أن “ما يشجع على هذا المسار الحمولات التاريخية السلبية لبعض المكونات والتسميات، فمثلاً، الإسلاميون بمختلف تياراتهم سيجدون صعوبة في فرض واجهاتهم السياسية السابقة بخاصة حزب المؤتمر الوطني المحلول، وستأتي لحظة حقيقية يقتنعون فيها أن الأفضل لهم العمل مع آخرين قريبين معهم في الرؤى من دون أن يسيطروا أو يهيمنوا على الموقف وأن يتركوا تجربتهم السابقة في أعناق من شاركوا فيها، والأمر ذاته ينطبق على مجموعات حزبية تاريخية كحزبي الأمة والاتحادي، لكن هذين الحزبين سيتأثران مستقبلاً، بالصراع الداخلي في البيت الكبير، وهذا واضح في بيت إمام الأنصار الراحل الصادق المهدي الآن، كما أن مؤشراته ملاحظه في بيت مرشد الختمية محمد عثمان الميرغني، ومن ثم فإن التصدع في البيوت الكبيرة سيترتب عليه تفرق بعض مكوناتها بين المعسكرات المختلفة جراء التباينات”.

ومضى الكاتب السوداني قائلاً “من المتوقع أن يحدث تطور في التجربة الحزبية السودانية بعد انتهاء الحرب تقود إلى تأسيس حياة سياسية مدنية ديمقراطية بالانتقال من مرحلة الأحزاب، بصورتها التقليدية، إلى الكتل والتيارات السياسية التي تضم، في جوفها، أحزاباً ومكونات مدنية أوسع من التجربة الحزبية في السودان”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية