كان الـ28 من فبراير الماضي “يوم التعتيم الاقتصادي”. طلب من المستهلكين الأميركيين مقاطعة مؤسسات البيع بالتجزئة الرئيسة كلها، وعدم إجراء أي عمليات شراء عبر الإنترنت وفي المتاجر لمدة 24 ساعة. وفي الوقت نفسه تهوي مبيعات سيارات “تيسلا” في أوروبا، في انخفاض يعزى جزئياً إلى امتناع المشترين عن الشراء احتجاجاً على دور المؤسس إيلون ماسك في قمرة القيادة السياسية الأميركية.

ثمة أمر ما يجري مع استمرار دونالد ترمب و”صديقه الأول” ماسك في إثارة الانزعاج في صفوف الناس. لم يكن المقصود من هذه المقاطعة في الأصل أن تكون صفعة لترمب. في البداية، كان الجهة المنظمة، “اتحاد الشعب في الولايات المتحدة الأميركية”، وهي برئاسة جون شوارتز، تهدف إلى إجبار الشركات العملاق على مراجعة أسعارها، إذ يتحمل عامة الناس ارتفاع كلف المواد المنزلية الأساسية والطاقة والإسكان والمرافق.

شكل رب العائلة هذا البالغ من العمر 57 سنة والمقيم في ضاحية كوينز بنيويورك مجموعة لا انتماء سياسياً لها تستهدف تأمين “الإنصاف والعدالة والتغيير المنهجي الحقيقي”.

انتشرت الدعوة إلى الاحتجاج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وشاعت عالمياً وتحولت إلى حراك قوي مناهض لترمب. تركزت إجراءات المستهلكين التي امتدت ليوم واحد على شركات مثل “فورد” و”ماكدونالدز” و”ميتا” و”تارغت” و”وول مارت” كانت قد أوقفت العمل ببرامج التنوع والعدالة والإدماج الخاصة بها، بالتواؤم مع الأمر التنفيذي الذي أصدره ترمب لحظر برامج مماثلة في القطاع العام. ويرغب شوارتز في توسيع الحراك.

قال شوارتز في مقطع فيديو نشره على صفحته في موقع “إنستغرام”: “طوال حياتنا، يخبروننا أننا لا نملك خياراً… أن علينا قبول هذه الأسعار المجنونة، وجشع الشركات، والإعفاءات الضريبية المخصصة لأصحاب المليارات، كل ذلك في وقت نعاني فيه الأمرين في تدبر أمورنا. يوم الـ28 من فبراير (شباط)، تعتيم اقتصادي على مدار 24 ساعة: لا ‘أمازون’، ولا ‘وول مارت’، ولا وجبات سريعة، ولا غاز، ولا دولار واحد لا داعي له… ليوم واحد، سنقلب الأمور رأساً على عقب أخيراً”.

ونالت المقاطعة تأييد مشاهير من أمثال ستيفن كينغ وبيت ميدلر، يستخدمون حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي للترويج للحراك. ومع ذلك من غير المرجح أن يكون للحراك الأثر المباشر الأوَّلي الذي يأملون في تحققه. يمثل الإنفاق الاستهلاكي 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لأميركا، ولن يحدث أي أثر يذكر تعليق الاستهلاك ليوم واحد، فهو خطوة من المحتمل، في الواقع، أن تكون قد جعلت جزءاً صغيراً فقط من المتسوقين يؤجلون الشراء ليوم واحد. ومع ذلك يخطط شوارتز لتكرار الحراك، مستهدفاً شركات معينة. وخصص الفترة من السابع إلى الـ14 من مارس (آذار) لوقف الإنفاق في “أمازون”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يمكن للحراك أن يتسع، وهو أيضاً تفكير متشدد، يجعل اليساريين يفكرون في كيفية استهداف ترمب ومساعديه. هناك شعور بالحاجة إلى المبادرة إلى خطوة ما في مواجهة رئيس مصمم يبدو أن يفعل ما يريد. انتشرت أحاديث في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي حول السبل التي تكفل استخدام قوة المستهلكين لاتخاذ موقف. من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي إلى المشاركين في حفلات العشاء، يتشارك أشخاص الآن بنشاط أفكاراً تتناول كل شيء بدءاً من حذف تطبيق “أمازون” إلى إعادة توجيه خيارات الشراء إلى منتجات وخدمات تتوافق مع قيمهم. في بودكاست يحظى بشعبية كبيرة، ناقشت ليلي ألين وميكيتا أوليفر ما إذا كان بإمكانهما العيش من دون الراحة التي توفرها عربة [سلة] “أمازون” للتسوق أو “غوغل” من ضمن حراك الاحتجاج المتعاظم.

وبالمثل، تشعر “تيسلا”، الشركة المصنعة للسيارات الكهربائية، بأثر مشاركة مالكها في القرار السياسي الأبرز. ذلك أن مغازلة إيلون ماسك لليمين المتطرف في المملكة المتحدة وأوروبا، وتحيته النازية أو غير النازية، وإلغاء المساعدات الأميركية الخارجية، والظهور على شاشة التلفزيون وهو يلوح بمنشار للدلالة على خفض الإنفاق العام، أمور جعلته شخصية مثيرة للانقسام بشدة. كانت شيريل كرو آخر شخصية بارزة تتخلص من سيارة “تيسلا” خاصتها احتجاجاً على ماسك. وأشارت الموسيقية المقيمة في ناشفيل إلى الرئيس التنفيذي المثير للجدل ومستشار ترمب باسم “الرئيس ماسك” وقالت إنها تتبرع بالمال للإذاعة الوطنية العامة، واصفة إياها بأنها “مهددة”.

ازدادت مبيعات السيارات الأوروبية في يناير (كانون الثاني)، لكن ليس السيارات التي تحمل علامة ماسك التجارية. في المملكة المتحدة، تراجعت مبيعات “تيسلا” بنسبة 45 في المئة وفي الاتحاد الأوروبي بأكثر من 50 في المئة. كانت المنافسة الشديدة من الشركات الصينية وغيرها من الشركات المصنعة السبب الرئيس، لكن ما وصفه أحد محللي قلب لندن التجاري بأنه “موقف مبدئي” اتخذه عملاء كان من دون شك عاملاً مؤثراً. مرة أخرى، مع مرور الوقت، لا يتراجع ماسك وينحسر الطلب، وقد يخبو نجم “تيسلا”. قد لا يشير ماسك إلى ذلك، لكن عليه أن يقلق هو و”تيسلا”.

 

ثمة أمر مختلف [في هذا السياق] أبرزه تركيز شوارتز على علامات تجارية محددة مستبعداً “تيسلا”. حملات المقاطعة التي تنجح أكثر هي تلك التي تضع في اعتبارها هدفاً محدداً تماماً ومستهدفاً معيناً. قد تكون أولى حملات شوارتز للمقاطعة الاستهلاكية ذات نطاق واسع أكثر مما ينبغي – وبالتأكيد، ثمة جانب لها يتعلق بالعمل السياسي الطلابي، لكن إذا تطورت حملاته إلى منحى أكثر تحديداً، كما يفعل خصوم ماسك مع “تيسلا”، يمكن ليوم واحد من الإجراءات الاستهلاكية أن يتطور إلى حركة.

في سبيل الحؤول دون وقوع التعتيم في ما يسميه موريس شفايتزر، أستاذ الإدارة الذي يدرس الاتخاذ السلوكي للقرارات في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، “مزبلة الغضب” [صنو مزبلة (سلة مهملات) التاريخ]، يجب أن تهتم أعداد كافية بما يكفي للقيام بإجراءات –الدعم على حدة لن يكون كافياً.

تحسب إيريكا تشينويث، أستاذة العلوم السياسية البارزة في جامعة هارفرد، أن العصيان المدني يتطلب دعم 3.5 في المئة من السكان لتأمين تغيير سياسي يعتد به. يذكر أن بحوثها ألهمت عديداً من الحملات المؤثرة، ولا سيما “التمرد ضد الانقراض”.

من المرجح أن تفشل المقاطعة بمفردها. يجب أن تكون أداة من عدة أدوات في ترسانة المحتجين، إلى جانب زيادة الوعي والاتصال بمسؤولين منتخبين وجمع الأموال. ومع وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الدعاية ونشر المواقف أسهل وأسرع.

حملات المقاطعة ليست جديدة. ثمة مقاطعة وراؤها دواعٍ أخلاقية نجحت عام 1791، إثر رفض برلمان المملكة المتحدة إلغاء العبودية. وزعت آلاف الكتيبات، مما شجع المستهلكين على عدم شراء أي سكر من إنتاج الرقيق. تراجعت المبيعات، في حين قفزت شعبية السكر الهندي، غير الملوث بالعبودية (المنتج من قبل “رجال أحرار”)، إذ شهدت مبيعاته ارتفاعاً بمقدار 10 أضعاف في غضون سنتين.

وبدأت الحركة المناهضة للفصل العنصري المعادية لحكم البيض والعنف والتمييز في حق المواطنين السود في جنوب أفريقيا عام 1959، إذ طلب منفيون من جنوب أفريقيا وأنصارهم من الناس تجنب شراء منتجات من ذلك البلد في جهد استمر 35 سنة.

وما بدأ كمقاطعة للفاكهة والخضراوات أصبح حملة أكثر إحكاماً وتعقيداً، واستهدف شركات محددة مثل “ماركس أند سبنسر” و”باركليز” تربطها صلات وثيقة بجنوب أفريقيا. لقد تطورت المقاطعة من عمل شعبي [إلى عمل سياسي] فاكتسبت قبولاً على المسرح الدبلوماسي الدولي الرفيع المستوى. وأخيراً، ساعدت في زيادة الضغط في الأقلية البيضاء وقادتها.

وكان هذا الجهد استثنائياً أيضاً، إذ صمد أمام اختبار مرور الزمن. لكي تستمر المقاطعة، يجب أن يظل الناس غاضبين [الحفاظ على استياء الناس] وليس تحقيق هذا الزخم سهلاً. فالإلحاح عرضة إلى التلاشي، حتى لو بدا ذلك في البداية مستبعداً.

يقول شوارتز: “تبدو المشاعر شديدة وساحقة في الوقت الحالي، لكنها تنحسر تدريجاً. وهذا صحيح لكل عاطفة. يضر ذلك بفاعلية المقاطعة”. إذا تسببت المقاطعة بكثير من الإزعاج للمحتجين، سيتراجعون.

لذلك، يجب أن يكون شوارتز حذراً. إذا اعتبر الجمعة في الـ28 من فبراير 2025 البداية وعدت النهاية بعيدة، وإذا ضيق شوارتز أهدافه وشدد المطالب وسلط الضوء على المسائل ذات الصلة، وإذا أرفق المقاطعة بأسلحة أخرى – يمكنه أن ينجح. هذه شروط كثيرة، لكن من يدري ما يخبئه المستقبل؟ من السابق لأوانه معرفة ذلك. يعتمد الأمر على القدرة على التحفيز والتنظيم، وتقبل الناس للعيش مع قدر معين من الإزعاج من خلال التخلي عن منتجات وخدمات أصبحت شائعة جداً لأنها مريحة للغاية وتجعل الحياة سهلة للغاية.

يبقى أن نرى ما إذا كانت الحملة ستتجاوز ما يشبه دردشة خلال حفلة عشاء مقامة في شمال لندن، لكن الإضرار بماسك من خلال “تيسلا”، من ناحية أخرى، قد يكون رهاناً أكثر تأكيداً. لقد تقلصت ثروته بأكثر من 100 مليار دولار (79 مليار جنيه استرليني) منذ ديسمبر (كانون الأول)، وذلك بسبب بيع مساهمين أسهمهم في “تيسلا”. يساوي المبلغ نحو 25 في المئة من ثروته. لا يزال أغنى رجل في العالم، لكن ثمة أشخاصاً آخرين يقتربون من الحلول محله.

نقلاً عن : اندبندنت عربية