مع إعلان مؤتمر انتصار الثورة السورية وما انبثق منه من تعيين أحمد الشرع رئيساً للجمهورية العربية السورية جرى إقرار حزمة قرارات أهمها حل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ظل قائداً للدولة والمجتمع وفق المادة الثامنة من الدستور السوري لعقود قبل أن تُحذف تلك المادة في دستور عام 2012 تحت ضغط شعبي، لكن ذلك التعديل كان صورياً ليظل الحزب على الأرض قائداً للدولة والمجتمع حتى سقوط النظام في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024.

الجبهة الوطنية

كذلك تم إقرار حل أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وهو ائتلاف حزبي يضم الأحزاب المرخصة التي يسمح لها بمزاولة العمل السياسي المحدود في سوريا على قاعدة التحالف مع “البعث” الذي يملك القرار داخل الجبهة وفق قاعدة “50+1”. وبطبيعة الحال فإن الجبهة كان يترأسها رئيس النظام السابق بشار الأسد بصفته الأمين العام لحزبه، حزب البعث.

ومن بين أبرز أحزاب الجبهة: الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي والحزب الشيوعي الموحد وحزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الوحدويين الاشتراكي وحزب العهد الوطني والاتحاد العام لنقابات العمال والاتحاد العام للفلاحين، وغيرها.

ولما كان يرجع تأسيس بعض تلك الأحزاب إلى قرن من الزمن بكل ما “كابدته وناضلت من أجله” في سياق تاريخها الطويل فقد رفضت بمجملها جملة وتفصيلاً قرار حلها، معتبرةً إياه مجحفاً بحق تاريخها النضالي، ومصادرةً لدورها السياسي وقرارها وقواعدها الشعبية.

خرق لقواعد اللعبة

توالت الاستنكارات من الأحزاب السياسية السورية الرافضة لقرار الحل، محذرةً من مغبة الأمر على التعددية السياسية ومصلحة القضية الوطنية عموماً، في ظل الأخطار الداهمة وضبابية المشهد السوري المستمر الذي لوحِقت فيه الأحزاب أمنياً لعقود قبل أن يسمح لها بالجلوس على مائدة المحاصصة المبسطة مع السلطة المتفردة بالحكم الشمولي. وهو ما تعده بحد ذاته إنجازاً، إذ استطاعت وتحديداً بعد عام 2000 اختراق قواعد اللعبة السياسية والوصول إلى البرلمان والحكومة في ظل حكم الحزب الواحد، وإن كانت تلقى الفتات وتُحجب عنها الوزارات السيادية فتكتفي بوزارات بلا حقائب أو بحقيبة الثقافة في أفضل الأحوال.

وفي بيان له رأى الحزب السوري القومي الاجتماعي أن مخرجات مؤتمر “النصر” لا تعني إلا أن شكل بناء الدولة الحقيقي صار في خطر، “وما جرى ليس إلا مؤشراً إلى مزيد من الانهيار والتفكك غير المقبولين”.

من يحكم؟

وفي بيان له رأى الحزب السوري القومي الاجتماعي أن مخرجات مؤتمر “النصر” لا تعني إلا أن شكل بناء الدولة الحقيقي صار في خطر، “وما جرى ليس إلا مؤشراً إلى مزيد من الانهيار والتفكك غير المقبولين”.

بدوره يرى القيادي السابق في الحزب سام سليمان خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية” أنهم يخشون من شمولية جديدة قادمة، “في سوريا ليس هناك طرف منتصر وآخر خاسر، بهذه الطريقة لا يمكن بناء الدولة، في سوريا هناك الجميع كاسب بعهد جديد كنا نتمنى ألا يتم تقزيمنا فيه”.

وفي إطار حديث المسؤول السابق يستعرض إنجازات حزبه وفترات منعه وملاحقة أفراده وما قدموه في سياق النضال القومي، مستهجِناً فكرة حل الحزب “في ظل وجود فراغ دستوري قائم ومشهد قاتم لا يمكن تحليله والاستقراء به”. ويقول، “الآن من يحكم سوريا بالضبط؟ الفصائل الثورية أم دول (الناتو) أو قرار السيادة الوطنية؟”.

 

ويضيف، “لقد لاحقنا نظام الأسد الأب لعقود طويلة وأودع كثيراً من رفاقنا في السجون، وبالكاد تنفسنا شيئاً من الحرية في عهد الأسد الابن، وعلى رغم أنها لم تكن كافية أو موائمة لتطلعاتنا حاولنا التحرك ضمن الحيز الأدنى من الحرية الممكنة حتى صرنا شركاء، ولو صورياً، وصار مسموحاً لنا بمقاعد قليلة للغاية في مجلس الشعب، وذلك كان أفضل من لا شيء، وحين بدت قوتنا تتنامى وترتكز قواعدنا على الأرض بمؤيدينا ومناصرينا والمنتمين إلينا رسمياً، استشعرت سلطة بشار الخطر”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وحول ذلك الخطر يشرح أن السلطة ما كانت لتسمح بتنامي دور أي حزب آخر غير حزب البعث، خصوصاً مع موجة الحرب الجارفة وبدء الناس بالابتعاد عن حزب “البعث” تنظيماً، نظراً إلى تفتت البلد واتضاح قصر نظره وانغلاقه على نفسه استراتيجياً واستخدامه مطية لتوزيع المناصب حسب الولاءات التي كانت ترقى لاستخدام مجرمي حرب في أماكن حساسة.

لذا لعب “البعث” لعبته وتمكن من تفتيت الحزب السوري القومي الاجتماعي من الداخل واختراقه وجعله ثلاثة أجنحة متصارعة ما بين القيادة المركزية في لبنان والقيادة في دمشق، وجناح جديد سمي الانتفاضة، وكان الأضعف وغير ذي قاعدة شعبية، فاستقدم رئيسه ليتسلم منصب وزير المصالحة الوطنية لفترة زمنية قصيرة قبل استبعاده مع ضمان التفتت وديمومة الصراع داخل أروقة الحزب.

قرار استراتيجي ضخم

أفراد وقياديون سابقون وحاليون في الأحزاب السورية المرخصة مسبقاً، والتي جرى حلها وفق القرار الأخير، يتفقون على استهجانه، مستعيدين كلمات الشرع غير مرة حول ضمان حرية العمل السياسي في المرحلة المقبلة. ويعتقدون في السياق ذاته أن ما جرى هو ضربة محكمة للقوانين الحزبية القائمة التي ستقود إلى شمولية لا مبرر لها في المرحلة الراهنة، معتبرين أن “حل الأحزاب قرار استراتيجي ضخم وخطر، وستترتب عليه مشكلات بنيوية كبرى داخل شرائح المجتمع”، مستدلين على تجربة اجتثاث حزب البعث العراقي بعد الغزو الأميركي والحال التي أفضى إليها الأمر.

بدوره رفض الحزب الشيوعي السوري حل نفسه، معتبراً أن تلك الخطوة من شأنها التضييق على الحركات الوطنية التقدمية وضرب أسسها الديمقراطية التي عملت لأجلها، واصفين القرار بالجائر، وفق بيان صدر منهم.

أحزاب وطنية لا كانتونات

من جهته يرى القيادي البعثي السابق أحمد شرف أن قرار حل أحزاب الجبهة، وعلى رأسها “البعث”، هو عين الصواب في مرحلة بناء الدولة، “لما شاب تلك الأحزاب من ترهل وتآكل ومحسوبيات وفساد وتعيينات على أساس الولاءات لا الكفاءات”، معتبراً أن تلك الأحزاب تعيد إنتاج نفسها منذ عقود. ويستدل على ذلك بأن الحزب السوري القومي أصبح ثلاثة أجنحة، وكلها متصارعة، وكذلك الشيوعي والوحدوي. وأشار مواربة إلى شخصية قيادية يعرفها تبوَّأت مناصب قيادية في “البعث” والسوري القومي والناصري، ولعبت دور المستقل حيناً، مما يعني تدوير الأشخاص وفق المصالح.

ويؤكد شرف أن الأحزاب السورية تعلمت من “البعث” نهجه، فنهشها الفساد، وإن من مقومات قيام الدولة الحالية إعادة ترميم جسدها السياسي بما يتماشى مع الإطار الأبعد عن الفساد والمحسوبيات، وأن “خريطة الطريق القادمة ستحمل انفتاحاً بصورة وطنية يراعى فيها ألا تعود الأحزاب لتكون كانتونات طائفية أو عرقية أو عائلية”.

وفي السياق يرفض إسقاط تجربة “البعث” العراقي على سوريا، مشيراً إلى أن حزب البعث السوري لعب دوراً أمنياً فاق فيه الشّعَب والإدارات الأمنية حتى تخلل في كل مفصل وزاوية وتعيين، وولغ أعضاؤه في الدم السوري خلال الحرب الأخيرة على وجه الخصوص. ويكمل، “حزب البعث قاد الدولة إلى الهاوية رفقة المصفقين له من بقية الأحزاب، وفرض على الشعب الولاء بغية تحصيل المكاسب، فتدخل في تعيين الأشخاص من رتبة رئيس حكومة إلى آذن مدرسة”.

ويخلص في المحصلة أن الحزب كان مصيره السقوط، لكنه يؤكد في ذات الوقت – على حد تعبيره – أن القيادة الجديدة لم تتمكن من فعل شيء أو إثبات نفسها لأن انتصار الثورة كان أسرع من عمرها القليل في السلطة الأكثر تشابكاً وتعقيداً ومسؤوليات.

تدوير الزوايا

بدوره يرى علام مؤمن الذي كان يشغل منصب أمين شعبة في حزب البعث حتى سقوط النظام أن الحزب استشعر تآكل قواعده فحاول إقرار منهج جديد بحركة إصلاحية أعفت القيادات السابقة كاملة في شهر مايو (أيار) من العام الماضي، لكنها كانت كمن ينفث النار في اللهب، لأن الأسماء هي فقط من تغيرت، فيما حافظت قواعد اللعبة على نفسها ثابتة، وإن كان ذلك التغيير ناجماً عن قناعة الأسد بأن القيادة التي كانت وقتذاك قد أخذت وقتها كاملاً ونالت ما نالته من كُره في الشارع، فحاول تدوير الزوايا بانتخابات تجرى لأول مرة. ولا يُخفي علام أن أوساطاً في الحزب والشارع كان يحذوها التفاؤل بهذا التغيير للقيادات التاريخية، لكن شيئاً داخلهم كان يخبرهم أن النهج الثابت هو المشكلة، وبأن لعبة التغيير ستتكشف سريعاً وسيتضح معها أن الحزب يحتاج إلى عاصفة تجديدية لا لتغيير صوري بلباس شبه ديمقراطي.

ويخلص في المحصلة أن الحزب كان مصيره السقوط، لكنه يؤكد في الوقت ذاته – على حد تعبيره – أن القيادة الجديدة لم تتمكن من فعل شيء أو إثبات نفسها لأن انتصار الثورة كان أسرع من عمرها القليل في السلطة الأكثر تشابكاً وتعقيداً ومسؤوليات.

نقلاً عن : اندبندنت عربية