في أعماق المحيطات الشاسعة، حيث تمتد المسافات بلا حدود واضحة، تواصل السلاحف البحرية رحلاتها المذهلة عبر آلاف الأميال دون أن تضل طريقها، لكن علماء الأحياء البحرية ظلوا لسنوات يتساءلون عن سر سلوك غريب تكرره هذه الكائنات عند وصولها إلى أماكن معينة: حركات دائرية «الراقصة» التي تؤديها السلاحف وكأنها تحتفل ببلوغها هدفًا خفيًا، فما الذي يدفعها إلى هذا السلوك؟ وهل يحمل هذا اللغز إجابة عن أسرار ملاحية أكثر تعقيدًا مما كنا نتصور؟

لطالما اشتبه الباحثون في أن السلاحف البحرية تعتمد على الحقول المغناطيسية للأرض في التنقل، تمامًا كما تستخدم الطيور المهاجرة والبعض من الكائنات البحرية الأخرى بوصلة داخلية لتحديد الاتجاهات، لكن السؤال الأهم الذي ظلّ بلا إجابة هو: كيف تحدد السلاحف المواقع الدقيقة التي تقصدها، مثل أماكن الغذاء أو شواطئ وضع البيض؟ هل تمتلك آلية شبيهة بنظام «جي.بي.إس» تمكنها من معرفة إحداثيات المواقع وليس مجرد اتجاهاتها؟

في محاولة لحل هذا اللغز، قاد فريق من الباحثين بجامعة تكساس إيه آند إم الأمريكية، تحت إشراف خبيرة الأحياء البحرية «كايلا جوفورث»، دراسة جديدة نشرتها دورية «Nature»، حاولوا فيها فهم ما إذا كانت السلاحف ضخمة الرأس قادرة على تذكر أماكن الغذاء بناءً على الإشارات المغناطيسية للأرض.

تجربة معملية تفتح أبواب الاكتشاف

لتأكيد الفرضية، قام الباحثون بجمع مجموعة من السلاحف البحرية الصغيرة من جزيرة قبالة ولاية نورث كارولينا الأمريكية، ثم وضعوها في أوعية ماء داخل المختبر، حيث تمت محاكاتها للحقول المغناطيسية التي تتواجد في مواقع محددة مثل خليج المكسيك وسواحل ولاية مين الأمريكية.

تم تصميم التجربة بحيث يتم تعريض السلاحف لمجالين مغناطيسيين مختلفين على مدار شهرين، لكن مع فارق أساسي: تم تقديم الطعام للسلاحف أثناء وجودها في أحد هذه المجالات المغناطيسية، بينما لم يُقدَّم لها أي غذاء عند تعرضها للمجال الآخر. وبعد فترة، كرر الباحثون التجربة لكن هذه المرة دون تقديم أي طعام، فقط تعريض السلاحف للمجالين المغناطيسيين.

رقصة الذاكرة.. والسلوك المفاجئ

كانت النتيجة مدهشة: السلاحف قامت بنفس الحركات الدائرية الراقصة التي كانت تؤديها عند حصولها على الطعام، ولكن فقط عندما تعرضت للمجال المغناطيسي الذي كان مرتبطًا بالغذاء في المرات السابقة. حتى عندما لم يكن هناك طعام فعلي، استمرت السلاحف في هذا السلوك، مما يشير إلى أنها «تتذكر» أن هذا الموقع المغناطيسي مرتبط بتوافر الغذاء.

هذا الاكتشاف يثبت لأول مرة أن السلاحف لا تستخدم فقط المجالات المغناطيسية لتحديد الاتجاهات، بل إنها قادرة على تسجيل «إحداثيات مغناطيسية» لمواقع محددة، مما يمنحها قدرة ملاحية مذهلة شبيهة بنظام «جي.بي.إس».

أخبار ذات صلة

 

ذاكرة طويلة الأمد… وقدرة مذهلة على التذكر

لم يتوقف الفريق البحثي عند هذه النقطة، بل أراد اختبار مدى قدرة السلاحف على تذكر هذه المعلومات لفترات طويلة، لذلك، قاموا بإعادة التجربة بعد أشهر عدة، بعد أن تم إبعاد السلاحف عن أي محفزات مغناطيسية طوال تلك الفترة، وكانت النتيجة مذهلة مرة أخرى: السلاحف واصلت تأدية رقصاتها الدائرية عند التعرض لنفس المجالات المغناطيسية التي ارتبطت لديها بالغذاء، مما يعني أنها تستطيع تذكر هذه الإحداثيات لفترات طويلة، ربما تصل إلى سنوات أو حتى عقود، كما تفعل عند العودة إلى شواطئ وضع البيض التي زارتها في السابق.

تقول جوفورث: «نعتقد أن السلاحف قادرة على تذكر الإحداثيات المغناطيسية لفترة تصل إلى 20 عامًا. هذا يفسر كيف تعود السلاحف إلى نفس الشواطئ لوضع بيضها عامًا بعد عام، رغم رحلاتها الطويلة في المحيطات».

هل تمتلك الحيوانات بوصلة مغناطيسية مزدوجة؟

أراد الباحثون معرفة ما إذا كانت هذه القدرة على تسجيل الإحداثيات المغناطيسية تعتمد على نفس «البوصلة الداخلية» التي تساعد السلاحف على تحديد الاتجاهات، أم أنها وظيفة حيوية مختلفة تمامًا. لذلك، قاموا بإعادة التجربة مع تعريض السلاحف لموجات راديوية كهرومغناطيسية، وهو ما يعطل قدرة بعض الكائنات على تحديد الاتجاهات. ولكن المفاجأة أن السلاحف استمرت في التعرف على الإحداثيات المغناطيسية، مما يشير إلى أن لديها بالفعل حاستين مغناطيسيتين منفصلتين: واحدة لتحديد الاتجاه، والأخرى لتحديد الموقع الدقيق.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها رصد هذه الظاهرة، فقد أظهرت دراسات سابقة أن بعض الطيور وأسماك السلمون تمتلك آليات مشابهة لاستخدام المجالات المغناطيسية في الملاحة. وتشير بعض الأبحاث إلى أن هذه الحاسة قد تكون موجودة لدى العديد من الكائنات الفقارية، مما يمنحها قدرة مذهلة على التنقل عبر البيئات المختلفة.

ما كشفته هذه الدراسة هو أن السلاحف البحرية ليست مجرد كائنات تتبع تيارات المحيطات، بل هي رحالة ذكية تمتلك نظام ملاحة متطورًا يسمح لها بتذكر المواقع والاستدلال عليها بناءً على خريطة مغناطيسية داخلية. وبينما يواصل العلماء استكشاف هذه الظاهرة، تظل السلاحف البحرية تسبح في محيطاتها الواسعة، تؤدي رقصاتها الغامضة، وتحمل في ذاكرتها أسرارًا ربما لن نفك شفرتها بالكامل يومًا ما.

نقلاً عن : عكاظ