بات واضحاً أن السلام المنشود الذي لم يعد حلماً قاصراً على القارة الأوروبية وحسب، بل وتشاركه معها البشرية بأسرها، لا يزال بعيداً وفي حاجة إلى جهود تبدو مغايرة لما تبذله بلدان الاتحاد الأوروبي ومن نجحت في استمالتها من البلدان الأخرى.

وعلى رغم كل الجهود التي يبذلها الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإقناع الرئيس الأوكراني “المنتهية ولايته” فولوديمير زيلينسكي بضرورة المفاوضات لإنهاء الصراع الدائر مع روسيا، يظل الأخير عازفاً عن قبول هذه المفاوضات، وهو ما قد يكون وراء ما أصدره من تعليمات إلى وزير دفاعه بيت هيغسيت “بوقف الإمدادات العسكرية إلى أوكرانيا بصفة مؤقتة إلى أن تظهر كييف التزامها بمفاوضات السلام”، وذلك في الوقت الذي تقول فيه مصادر أميركية إن البيت الأبيض يعكف على دراسة تخفيف بعض العقوبات المفروضة ضد روسيا ولا سيما تلك الصادرة في أعوام 2022 و2018 و2014.

ورداً على ما يكيله له معارضوه من اتهامات بالسقوط أسيراً في شرك “الدعاية الروسية” والانحياز إلى الرئيس فلاديمير بوتين، قال البيت الأبيض إن الرئيس الأميركي لم يعط روسيا الاتحادية سوى الحزن والمعاناة من جراء ما فرضه من عقوبات ضدها.

زيلينسكي ولحظات “الحساب”

وفي الوقت الذي تظل فيه أحداث الأمس القريب في “البيت الأبيض” تخيم على الأجواء، تتناقل الأجهزة الإعلامية المحلية والعالمية ما يتناثر من تعليقات، تتباين مواقف أصحاب هذه التعليقات، غير أن هناك من يتوقف بالدرجة الأولي عند ما طرحه الرئيس ترمب حول ضرورة التزام الرئيس الأوكراني بسداد قيمة ما جرى إمداد بلاده به من أسلحة ومعدات عسكرية، وفي محاولة للتملص من توقيع “مجمل فواتير الماضي”، التي تبلغ قيمتها نحو 350 مليار دولار، وهو السبب الرئيس لدعوته إلى البيت الأبيض، عاد زيلينسكي إلى تكرار اتهاماته للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وما إن واجه أصحاب البيت الأبيض زيلينسكي بما فعله في بنسلفانيا إبان الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية الماضية في معرض تأييده للرئيس السابق جو بايدن، راحت سفيرة أوكرانيا تخفي وجهها بين كفيها، في رد فعل صامت يعكس أبعاد الكارثة الدبلوماسية، التي كادت تتحول إلى كارثة استراتيجية، فقد كانت أفعاله السابقة التي تجسدت في التحدث في تجمع انتخابي لكامالا هاريس، والتظاهر في جلسات التصوير الحزبية في الولايات المتحدة المتأرجحة، والموقف الذي اتخذه يوم توجه إليه ترمب في عام 2019 بطلب المساعدة فيما يبحث عنه من معلومات عن بايدن وابنه هانتر ومعاملتهما المالية في أوكرانيا قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2020، سبباً لما أضحى به من مواقف هشة متهاوية.

وثمة من يقول إن زيلينسكي تعمد اللجوء إلى ما اختاره من سيناريو المواجهة، في محاولة لتأجيل التوقيع على ما سبق ووعد به حليفيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر بما سبق ووعد الرئيس الأميركي، بما في باطن أراضي بلاده من معادن “افتراضية” ثمينة نادرة، ولعله تذكر في تلك اللحظات التاريخية أن هناك في العاصمة البريطانية من يشاهده ممن اجتمعوا على عجل لتدارس تبعات المواجهة غير المدروسة من جانبه، ليعود إلى محاولة تقمص دور “الشجيع” في مواجهة الرئيس الأميركي ونائبه، لتتوالى الأخطاء الواحد تلو الآخر، لتوفر المقدمات التي أسفرت عما آلت إليه من نتيجة محتومة، ظهر بعدها مهرولاً عند باب البيت الأبيض، ومن خلفه أعضاء الوفد الأوكراني أيضاً يهرولون.

 

 

وكان الرئيس أعرب في تصريحات تلفزيونية عن ما يساوره من شكوك بشأن كمية وأنواع هذه المعادن التي راح زيلينسكي يعرضها على كل من يشكك في قدرات أوكرانيا الاقتصادية والمالية، ليعود بدوره إلى إعلان استعداده لتقديم مثلها مما في باطن أراضي روسيا التي تعد الدولة الأكبر في العالم من حيث المساحة الجغرافية.

 هل تطيح الولايات المتحدة بزيلينسكي؟

ولعل كل ما شهده العالم من أحداث تحمل في طياتها خليطاً من المأساة والملهاة كان من أبطالها الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فولوديمير زيلينسكي، يمكن أن يكون مقدمة لما تتناقله الألسنة حول احتمالات رحيله إن آجلاً أو عاجلاً، وهناك من يتوقع أن تحاول الولايات المتحدة عزله بالقوة، وننقل عن فيكتوريا روبان ما كتبته على موقع “أبوستروف” الأوكراني حول “إن المخطط معتاد وراسخ: سيتم إعلان النظام العاصي ناهباً ولصاً، وسيتم إعلان زيلينسكي ديكتاتوراً (أعلن الرئيس ترمب ذلك في أحد تصريحاته السابقة، وهو ما أعاده زيلينسكي على أسماعه خلال المشادة الكلامية في البيت الأبيض)، وستكون حاشيته عبارة عن زمرة من النازيين ومدمني المخدرات والإرهابيين، الذين يُزعم أنهم يقودون العالم إلى حرب عالمية”. 

هل تحل أوروبا محل الولايات المتحدة؟

وأما من يقول إذا كان زيلينسكي يعتقد أن أوروبا يمكن أن تحل محل الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا أو المفاوضات مع روسيا، فقد تجاهل التاريخ، كما أن القوى الأوروبية، التي كانت مهيمنة ذات يوم، أصبحت الآن مجرد ظلال لما كانت عليه في السابق، ونذكر أن الرئيس بوتين سبق وعلم هذا “الدرس” إبان السنوات التي لطالما ارتبط خلالها بكبار زعماء العقد الأول من القرن الـ21، وكان منهم المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر، والرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، ورئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو بيرلسكوني.

وكان بوتين يمني النفس آنذاك بموقف أوروبي قوي يستطيع الصمود في مواجهة الولايات المتحدة، على رغم علاقاته الطيبة مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، ونذكر أيضاً أن بوتين لم يستمر كثيراً أسيراً “لأوهام الاعتماد على الغير”، ما جعله يشد الرحال إلى مؤتمر ميونيخ للأمن الأوروبي في فبراير (شباط) 2007، ليواجه المجمع الأوروبي الناتوي بخطابه الأشهر الذي أعلن فيه عن رفض بلاده لعالم القطب الواحد، ولانفراد دولة بعينها بالقرار الدولي، وتجاهل الشرعية الدولية، معلناً عن ضرورة التوجه نحو بناء عالم متعدد الأقطاب، وهو ما يتمسك به حتى اليوم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلك مواقف اتخذها الرئيس الروسي بعد إعلان “الناتو” عن موجاته الأولى والثانية لضم بلدان الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان شرق أوروبا إلى عضوية هذا التحالف العسكري اعتباراً من 1997، ولعل ما حدث بعد ذلك من قصف للبلقان في عام 1999 وغزو للعراق في عام 2003، وإعلان بوش الابن عن خروج الولايات المتحدة من معاهدات عقدتها حول الحد من المنظومات الصاروخية الباليستية في عام 2001، كان مبرراً ودروساً كافية لأن يتخذ بوتين قراره ومواقفه العملية التي لا يزال يلتزم بها منذ ذلك الحين.

تجاهل أسباب الأزمة الأوكرانية

لعل المتابع لمجريات ذلك اللقاء التاريخي الساخن في البيت الأبيض بين ترمب وزيلينسكي لمس تعمد الرئيس الأوكراني طمس الحقائق، في الوقت الذي لم نجد من الجانب الأميركي أي محاولة لمواجهته بما في ملفاته من وثائق وحقائق حول تاريخ المشكلة.

ومن هنا نتوقف لنشير إلى أن الرئيس الروسي ظل طوال 14 عاماً عازفاً عن إثارة الجدل، حتى عادت الولايات المتحدة إلى سابق تدخلها وممارستها تحت شعارات “الثورات الملونة” التي حققت نجاحاً في جورجيا عام 2003، وفي أوكرانيا في 2004 بما أسفر عن تغيير الأنظمة الحاكمة هناك، وقد اعترف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بأن بلاده أنفقت في أوكرانيا وحدها مليار دولار، وهو ما أكدته مصادر الوكالة الأميركية USAID.

وكانت شبه جزيرة القرم أجرت أكثر من استفتاء حول حقها في تقرير المصير، وهو ما لم تستجب له السلطة المركزية في كييف، ولم يتحرك الرئيس بوتين إلا في عام 2014 بعد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الشرعي فيكتور يانوكوفيتش برعاية وزراء خارجية كل من ألمانيا وبولندا وفرنسا ممن مهروا بتوقيعاتهم البيان الذي صدر في إطار التسوية بين المعارضة وممثلي الثورة البرتقالية في موجتها الثانية عام 2014 من جانب، والرئيس يانوكوفيتش الذي وافق على إجراء انتخابات مبكرة في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه.

كما أصدر يانوكوفيتش أوامره بانسحاب قوات الأمن والشرطة من وسط العاصمة قبل أن يشد الرحال في اليوم التالي قاصداً خاركوف ليواجه بمحاولة اغتياله، ولم ينقذه من براثنها سوى القوات الروسية التي حملته إلى خارج الحدود الأوكرانية، وتلك كانت بمثابة إشارة البدء لإعلان مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك عن انفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا.

 

 

 أما عن ضم شبه جزيرة القرم فلم تتدخل القوات الروسية سوى قبل وصول البارجة الأميركية إلى شواطئ شبه الجزيرة لتحول بينها وبين الوصول إلى ميناء سيفاستوبول التابع تاريخياً للعاصمة موسكو، والقاعدة الرئيسية لأسطول البحر الأسود، وظل الأمر سجالاً بين الطرفين منذ ذلك التاريخ، وحتى إعلان المعارضة الأوكرانية عن الاستيلاء على السلطة في العاصمة كييف، وتنظيم انتخابات فاز بها بيتر بوروشينكو الذي سرعان ما أمر قواته المسلحة باستعادة المقاطعتين اللتين أعلنتا انفصالهما باستخدام القوة العسكرية، وهو ما كان سبباً في التدخل غير المباشر للمتطوعين الروس لحماية سكان المقاطعتين الناطقين باللغة الروسية.

المناشدات الروسية

وعاد بوتين إلى مناشدة السلطات الأوكرانية ضبط النفس، بعد أن ظل طويلاً يرفض الاعتراف بها لكونها جاءت في أعقاب انقلاب دموي أطاح بالسلطة الشرعية، واضطر في نهاية المطاف إلى الموافقة على الجلوس مع هذه السلطة تحت رعاية ما كان يسمي بمجموعة نورماندي التي مثلها كل من المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما أسفر عن اتفاق الأطراف كافة حول توقيع اتفاقيات مينسك في سبتمبر 2014، وفبراير 2015.

وقد تضمنت هذه الاتفاقيات مبادرة وقف القتال، والتحول إلى المفاوضات بين الطرفين المتحاربين، ولم يعلن بوتين الموافقة على طلب المقاطعتين وهما “جمهورية دونيتسك الشعبية”، ونظيرتها الأخرى في لوغانسك، طوال ما يزيد على ثماني سنوات وهو التاريخ الذي انضمت فيه إليهما مقاطعتا زابوروجيا وخيرسون، وكان من الممكن أن تظل هذه المقاطعات الأربع ضمن أراضي أوكرانيا حتى سبتمبر 2022 أي بعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا في 24 فبراير 2022.

وكان الطرفان وقعا اتفاق التسوية السلمية تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إسطنبول في مارس (آذار) 2022 وهو الاتفاق الذي لا يزال الجانب الروسي يطالب بالانطلاق منه في التسوية المنشودة بين الجانبين، ويتضمن إعلان أوكرانيا عن إسقاط طلبها حول الانضمام إلى “الناتو”، وإعلان حيادها وإخلاء أراضيها من الأسلحة الاستراتيجية، غير أن الجانب الأوكراني عاد ورفض هذا الاتفاق بإيعاز من رئيس وزراء بريطانيا السابق بوريس جونسون الذي قام بزيارة كييف، بعد زيارة قصيرة إلى واشنطن.

ولعله كان من الغريب والمثير معاً أن تعلن أنغيلا ميركل، وزميلها فرانسوا هولاند بعد سنوات من توقيع هذه الاتفاقيات أنهما كانا على علم بأنها لن تنفذ، وذلك “لأنها لم تكن تهدف إلا لتوفير المساحة الزمنية المناسبة لإعداد وتسليح الجيش الأوكراني لتحرير جنوب شرقي أوكرانيا واستعادته بالقوة المسلحة”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية