إن الاجتماع الكارثي، الذي عقد بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الأميركي دونالد ترمب ونائب الرئيس جي دي فانس في البيت الأبيض في الـ28 من فبراير (شباط)، كشف عن حقيقة قاسية بالنسبة إلى التحالف الغربي. ففي أعقاب الخلاف مع زيلينسكي ونهاية الدعم الأميركي للجهود الحربية، لم تزعزع إدارة ترمب أوكرانيا فحسب، بل إنها شككت أيضاً في بعض الافتراضات الأساسية التي ارتكزت عليها العلاقة عبر الأطلسي منذ الحرب العالمية الثانية.

وساد الذعر في العواصم الأوروبية، إذ يتحدث بعض صناع السياسات والمحللين عن نهاية حلف شمال الأطلسي، أو حتى نهاية الغرب. إنهم مرعوبون من نوايا الولايات المتحدة: هل تعتزم واشنطن تقويض بقاء أوكرانيا كدولة حرة وذات سيادة على المدى الطويل؟ هل يحاول ترمب تطبيق صيغة عكسية لسياسة “كيسنجر”، من خلال استمالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتخلي عن تحالفه الوثيق مع الزعيم الصيني شي جينبينغ، وإقامة تحالف مشبوه ومثير للجدل مع الولايات المتحدة؟ [في إشارة إلى السياسة التي اتبعها هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي في السبعينيات، عندما سعى إلى التقارب مع الصين لعزل الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة] لقد ظهر شرخ عميق في الثقة بين ضفتي الأطلسي، مما يضر بقدرة واشنطن على فرض نفوذها عالمياً، ويشوه صورتها كقوة مهيمنة خيرة، وقد تكون له تداعيات كارثية على تماسك التحالف عبر الأطلسي [التحالف الغربي] ومستقبل “ناتو”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الواقع، إن التحدي الذي يواجه الغرب هائل، بيد أن التحالف صمد أمام خضات كبيرة في السابق. وهناك حجج قوية، على جانبي الأطلسي، قد تنقذ التحالف وتدعم استمرار الوجود الأميركي الفاعل والمشاركة القوية في أوروبا، وهناك خطوات كثيرة يمكن أن تتخذها أوروبا نفسها لإثبات أن الولايات المتحدة أقوى بكثير عندما تكون متحدة معها وليس العكس.

خطأ مينسك

في أوائل التسعينيات، كانت هناك أصوات تنادي بحل حلف شمال الأطلسي تدريجاً بعد نهاية حلف وارسو. ومع ذلك، منذ أن شرعت روسيا في اتباع مسار تعديلي [راغبة في تغيير النظام الدولي] على مدى العقدين الماضيين، وخصوصاً منذ عام 2014، عندما استولت على شبه جزيرة القرم وغزت دونباس، لم ينجح حلف شمال الأطلسي في الصمود فحسب، بل استمر أيضاً في النمو، وأصبح أقوى من حيث التماسك والعضوية وقوة الردع.

وأدخلت إدارة ترمب مشكلة ثقة جوهرية: للمرة الأولى، بات القادة الأوروبيون يشعرون بعدم اليقين في شأن استمرار التزام الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي، ودورها القيادي فيه.

لكن القصة أكثر تعقيداً، فمن الضروري أن نتذكر أن ترمب لعب دوراً حيوياً في الدفاع الأوكراني. في الواقع، تمكنت أوكرانيا من الصمود وصدت الغزو الروسي الشامل في فبراير 2022، لأن الولايات المتحدة بدأت في تزويدها بأسلحة فتاكة، مثل صواريخ جافلين المضادة للدبابات، خلال فترة ولاية ترمب الأولى. ولولا تلك الصواريخ، لنجحت القوات الروسية ربما في السيطرة على كييف في غضون أيام، كما كان مخططاً في الأصل. لذلك، ليس من المبالغة القول إن أوكرانيا تدين بصمودها في الأيام الحرجة من أوائل ربيع 2022، جزئياً إلى الدعم الذي قدمه البيت الأبيض في عهد إدارة ترمب السابقة. فلماذا قد ترغب واشنطن الآن في التخلي عن قصة النجاح المميزة هذه، وهي قصة تجسد تصميم أميركا وأوكرانيا وعزمهما المشترك على دعم الحقوق السيادية لدولة حرة والدفاع عن تلك الحقوق؟

إضافة إلى ذلك، تدرك الولايات المتحدة جيداً الأخطار المترتبة على ترك أوروبا وحدها في مواجهة روسيا. فبعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وغزوها لشرق أوكرانيا عام 2014، قررت واشنطن إلى حد كبير ترك المواجهة مع موسكو للأوروبيين. وكانت الأدوات الرئيسة لذلك هي ما يعرف بعملية مينسك، أي المحادثات التي كانت تهدف إلى التوصل إلى تسوية في شرق أوكرانيا، إضافة إلى ما يسمى بـ”مجموعة نورماندي الرباعية”، وهي مجموعة اتصال ضمت فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا وعقدت لقاءاتها بين عامي 2014 و2022. ولكن للأسف، فشلت عمليتا مينسك ونورماندي، ولم يسفر الفراغ القيادي الأميركي إلا عن تشجيع الجانب الروسي على تصعيد الأمور أكثر، إلى أن بلغت الأمور ذروتها في غزو فبراير 2022.

تدرك الولايات المتحدة جيداً الأخطار المترتبة على ترك أوروبا وحدها في مواجهة روسيا

إن هذه الأحداث تذكرنا بصورة خطرة بما حدث قبل 30 عاماً، عندما أدى اندلاع الحرب الدموية في البوسنة إلى إعلان أوروبا “ساعة الموقف الأوروبي” [اللحظة الحاسمة التي ينبغي أن تتولى فيها أوروبا زمام المبادرة لحل المشكلة]، التي لم تحقق شيئاً. فلم تنته تلك الحرب ولم يعم السلام إلا من خلال التدخل السياسي والعسكري الفاعل للولايات المتحدة، من خلال اتفاق دايتون لعام 1995.

ومن الجدير بالذكر أن إدارة ترمب الأولى وإدارة بايدن لم تكررا الخطأ الذي ارتكبه البيت الأبيض في عهد أوباما في عام 2014، فهما لم تتركا حل الحرب في أوكرانيا للأوروبيين، بل قررتا قيادة جهد دولي استثنائي لدعم أوكرانيا. وقررت إدارة ترمب الجديدة الاضطلاع بدور قيادي مرة أخرى، وهذه المرة من أجل إنهاء الحرب بعد 11 عاماً من الصراع والضم، وثلاث سنوات من الغزو الشامل الوحشي.

ومن مصلحة أوروبا أن ترحب، من حيث المبدأ، بهذا الانخراط الاستراتيجي الأميركي، الذي يقف في الواقع في طريق تحول أكبر في واشنطن بعيداً من أوروبا باتجاه الصين. ولكن لكي ينجح هذا التعاون، يجب على جانبي الأطلسي سد شرخ الثقة المتسع بسرعة. وإذا تحقق ذلك، فإن التحدي الحاسم حينئذ سيكون إيجاد طريقة لضمان إبرام اتفاق أوكراني قابل للتطبيق والعمل على تنفيذه. أولاً وقبل كل شيء، يجب أن تشارك أوكرانيا في هذه العملية، ويجب أن تضمن أن تكون النتيجة عادلة وليست مجرد صفقة تنازلية. ومن دون مشاركة أوكرانية وأوروبية نشطة، قد تتلاشى جهود السلام التي تقودها إدارة ترمب قبل أن تبدأ بصورة جدية. لهذا السبب، سيكون من مصلحة الولايات المتحدة إعادة بناء الجسور [إصلاح العلاقات] بسرعة مع زيلينسكي والقيادة الأوكرانية بعد المواجهة التي وقعت في البيت الأبيض في الـ28 من فبراير.

هل ما زالت أميركا قوة أوروبية؟

وراء التوتر بين واشنطن وكييف تكمن مسألة دور أوروبا في المعادلة الأمنية، لقد عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري في أوروبا في السنوات الأخيرة، لكنه لا يضاهي مئات الآلاف من الجنود الروس في أوكرانيا والمناطق العسكرية الغربية في روسيا. كما أن واشنطن استبعدت بصورة قاطعة إرسال قوات أميركية إلى أوكرانيا. وبالتالي فإن إدارة ترمب تحتاج إلى شركائها الأوروبيين، وصرحت بذلك علناً من خلال طلبها من القوات الأوروبية تأمين أو تنفيذ أي اتفاق محتمل في شأن أوكرانيا. في المقابل، يجب أن يكون الأوروبيون حازمين بما يكفي لمواجهة واشنطن بمطلبهم الخاص: عليهم أن يستوحوا من شعار الثورة الأميركية (1775) “لا ضرائب من دون تمثيل”، وأن يتبنوا موقفاً واضحاً بأنه لن يكون هناك انتشار عسكري من دون مشاركة في مفاوضات السلام. وتدرك أوروبا أمراً أساسياً وهو أن الاتفاق، في حال حدوثه، لا يتعلق بتقسيم أوكرانيا أو ضمان وقف سريع لإطلاق النار فحسب، بل يتعلق بترتيب سلام دائم وآمن، ومعالجة قضايا الأمن الوجودية في أوروبا بأسرها.

أما السؤال الأكبر، فيدور حول طريقة التعامل مع روسيا. حتى الآن، لم يصدر عن موسكو أية إشارات ذات معنى حول تقديم تنازلات محتملة. وكما هو متوقع، قدم الكرملين مطالب متطرفة، وسيكون من الصعب جداً إقناعه بالتراجع. ومن الوهم الاعتقاد بأن السلام الدائم مع روسيا سيتحقق ببساطة من خلال ترسيم خط تماس في شرق أوكرانيا. فروسيا ستقدم مطالب جديدة معقدة وبعيدة المدى، تتعلق بقضايا الاستقرار الاستراتيجي، خصوصاً في ما يتعلق بوجود المنشآت العسكرية الأميركية في أوروبا الشرقية، وسيتبين أنها شريك مكلف وغير جدير بالثقة. لذا، يتعين على أوروبا والولايات المتحدة أن تستعدا لعملية طويلة ومؤلمة.

وقبل كل شيء، هناك حاجة ملحة إلى نوع جديد من القيادة الأوروبية. ولكي تدافع عن مصالحها الأمنية الاستراتيجية وتعيد بناء التحالف المتصدع، يتعين على القوى الأوروبية أن تثبت أنها قادرة على تحمل عبء أكبر يعزز قوة التحالف الجماعية. يجب على فرنسا وألمانيا وبولندا وغيرها من الدول المجاورة ذات التفكير المماثل أن تطلق مبادرة دفاعية كبرى، تتمحور حول مجموعة أساسية من القوى المستعدة للتحدث بصوت واحد في شأن القضايا الأمنية. إن “اتحاد الدفاع الأوروبي” هذا سيتفق على اتخاذ القرارات بالغالبية، مع مشاركة بريطانية وثيقة بقدر الإمكان. ومن بين الأهداف الرئيسة، بناء سوق دفاعية موحدة ومتكاملة وسلسلة توريد مشتركة، إلى جانب التطوير والشراء والصيانة المشتركة للمعدات العسكرية، والتدريب الموحد للكوادر العسكرية. ويجب تشجيع فرنسا والمملكة المتحدة، باعتبارهما قوتين نوويتين، على دراسة خيارات لتعزيز مساهمة “اتحاد الدفاع الأوروبي” في الردع الموسع.

إن أفضل وأذكى طريقة يمكن أن تستخدمها إدارة ترمب لإشراك كل من أوروبا وأوكرانيا والشركاء الأوروبيين، مثل تركيا، في اتفاق السلام، ستتمثل في إعادة تأسيس نموذج “مجموعة الاتصال” المختبرة والمثبتة، التي أنشئت في تسعينيات القرن الماضي لخلق شعور بالوحدة والهدف المشترك تحت قيادة الولايات المتحدة. يمكننا تذكير واشنطن بأنها يجب أن تفخر بذلك النموذج الدبلوماسي المبتكر والناجح، وهو ابتكار أميركي. وفي أوكرانيا، قد يؤدي ذلك إلى توفير العناصر الحاسمة اللازمة لضمان انتهاء الحرب حقاً.

قبل 30 عاماً، كتب الدبلوماسي ريتشارد هولبروك، مقالة في “فورين أفيرز” بعنوان “أميركا، قوة أوروبية”، من دون علامة استفهام. لقد تنبأ هولبروك بأن “أوروبا، في القرن الـ21، ستظل بحاجة إلى المشاركة الأميركية النشطة، التي شكلت على مدار نصف قرن عنصراً أساسياً في توازن القارة”. وتنتهي المقالة بتوكيد استشرافي وهو “أن المهمة التي تنتظرنا شاقة بقدر ما هي ضرورة واضحة، فالتخلي عن التحدي لن يؤدي إلا إلى دفع ثمن أعلى لاحقاً”. نعم، تحتاج أوروبا إلى واشنطن لإنهاء الحرب في أوكرانيا بصورة دائمة، بيد أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى أوروبا لإنجاز هذه المهمة بنجاح، ولكن لنأمل أن يدرك البيت الأبيض في عهد ترمب هذه الحقيقة.

 

فولفغانغ إيشنغر هو رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن وسفير ألمانيا السابق لدى الولايات المتحدة.

مترجم عن “فورين أفيرز”، 2 مارس (آذار)، 2025

نقلاً عن : اندبندنت عربية