لماذا يعتبر الانسحاب من المعارك خيانة؟ وهل تكمن الشجاعة في مواصلة الحروب فحسب؟ لماذا يحاكَم الجندي حين يختار أن يضع سلاحه ويتفرغ لحياته الصغيرة بعيداً من صوت القنابل والمدافع والدبابات؟ لماذا يفرض الفكر الجماعي سلطته على الفرد؟ وهل تعمل السلطة على توفير الراحة لدى الكائن أم على تبديدها؟ كيف تنظر العائلة والمجتمع إلى الجندي الهارب من أرض المعركة؟ وهل تحول لحظة خاطفة في حياة الإنسان إلى عائق ضد السلام الداخلي؟
أسئلة كثيرة تطرحها مسرحية نيغاتيف لفرقة “أبعاد” المغربية ولمخرجها عبدالمجيد شكير بلغة عربية فصيحة، تقطع مع الاستعراضات اللغوية وتنحاز لأسلوب شفاف يلمس مشاعر المتفرجين ويؤثر فيها. وخلال العروض التي قدمت في الفترة الأخيرة تباعاً في مراكش وآسفي والجديدة، برع الممثلون الثلاثة جواد العلمي ومنير أوبري وعبداللطيف الخمولي في الأداء على نحو لافت.
عاد شكير إلى نص “مكان مع الخنازير” للكاتب الجنوب إفريقي أثول فوغارد، واشتغل عليه، في سياق اقتباسي، متوخياً التجديد والراهنية. وتكتسي هذه العودة إلى فوغارد أهمية كبيرة، بحكم المكانة التي يحتلها هذا الكاتب محلياً وقارياً في صفوف الممانعة والاحتجاج ضد العنصرية والانتصار للقيم الإنسانية الكبرى.
تتجسد المسرحية في أربعة أدوار: بافيل إيفانوفيتش نافروتسكي، الجندي الهارب من المعركة ووالده يوري وإيفانوف الجار الثرثار والرفيق القائد العام ممثل السلطة المركزية. ويظهر بافيل في المشهد الأول داخل حظيرة خنازير في قرية نائية، حيث المكان شبه مظلم وعلى الجدران تبدو آثار شخص يوثق مرور الأيام التي عبرت وهو داخل هذا المنفى الاضطراري. يبدو بافيل منهمكاً في كتابة رسالة اعتذار طويلة إلى الرفيق القائد العام يشرح فيها أسباب هروبه من المعركة. يشرع في التدرب على إلقاء خطاب الندم، غير أن النخير الذي يرتفع بالتدريج يحول دون إتمام المهمة. يدخل الأب يوري بعدما ناداه ابنه مشتكياً من هذا التدخل المعيق للحيوانات، وفي حوار فلسفي يخلص الابن إلى أن حياته بعد الهروب من المعركة صارت محصورة بين روث الخنازير ودبيب الزمن.
مكر الزمن
يأخذ الزمن هيئته النسبية في مسرحية “نيغاتيف”، فالـ10 أعوام التي قضاها الجندي الهارب مختبئاً في زريبة تقع على كاهله بثقل 10 قرون. هذا ما يعترف به لوالده في لحظة مكاشفة، وهي اللحظة المتكررة والممتدة في مشاهد المسرحية، سواء على صورة ديالوغ أو مونولوغ، وإذا كان “الزمن هو أفضل علاج لكل مرض وشر” حسب فرانسيس بيكون، فهو في حال بافيل أصل كل الأمراض والشرور، ذلك أن “الوعي بالزمن مؤامرة” كما كان يقول سيوران. وإذا كان الشاعر الفرنسي هنري باربوس ينادي: “أوقفه، أوقف الزمن الذي يمر”، فإن الجندي الهارب يصرخ بالمقابل: “ليته يمر”. فثمة فرق هائل بين من يعيش حياته بصورة متوافقة ومتوازية مع الزمن، ومن يقف في مواجهة الزمن، ويدون بالتفصيل عبوره البطيء على جدار في حظيرة.
أيهما أهون؟ أن يبقى بافيل حبيساً بين الخنازير أم أن يتقدم بخطاب الندم إلى رفاقه؟ وهل سيجدي ذلك الاعتذار في زمن كان يؤتى فيه بالجنود الهاربين من المعركة ليجثوا على ركبهم في ساحة عامة ثم يطلق عليهم الرصاص؟
يحتد هذا الصراع الداخلي مع تعاقب المشاهد، حيث يهيمن التوتر والقلق والاختلال في السلوك على الشخصية المحورية على مدار العرض المسرحي. وتحضر الأم الميتة في خلفية الأداء باعتبارها عنصراً باعثاً على السكينة وتخفيف التوتر وتهدئة روع ابنها الخائف. وما حضور الحذاء الصوفي الذي صنعته الأم في زمن سابق لابنها سوى وعاء رمزي للدفء المفتقَد.
انتقل المخرج عبدالمجيد شكير في لحظة وامضة بين زمنين: الزمن الراهن حيث البطء والتراخي والمكوث في الحظيرة، والزمن السابق الذي عرف أحداثاً سريعة ومتعاقبة لشاب كان يُنظر إليه بزهو وفخر باعتباره عنصراً في خط الدفاع عن الوطن. لجأ المخرج إلى الارتجاع الفني وانقطاع التسلسل الزمني من أجل وضع المتفرج أمام اللحظة الفارقة في حياة بافيل. فحين عاد الابن الهارب من المعركة يطرق باب البيت العائلي ليلاً وهو يرتعش من البرد تساءل الأب قبل أن يفتح: “من بالباب؟” ثم يجيب نفسه: “ربما كلب ضال”. تحمل هاتان الجملتان القصيرتان عن قصد أو عن غير قصد دلالات التحقير. فليس الكلب الضال في نهاية الأمر سوى الجندي الضال هو الآخر، والخارج عن إرادة الجماعة.
تبرير الهروب
توظف المسرحية الزي باعتباره رمزاً يحيل إلى الكثير من الدلالات. فحين أراد بافيل أن يستغل مناسبة الاحتفال الرسمي من أجل تقديم اعتذاره وجد بدلته العسكرية ممزقة بالكامل بسبب الجردان، بينما ظلت بدلته المدنية أنيقة وصالحة للاستعمال في مثل هذه المناسبات. فالخروج من حياة الجندية لن تعقبه على الإطلاق فرصة العودة إليها. لذا فصفحة الخيانة في السياقات الكبرى غير قابلة للطي والنسيان، وما من صكوك غفران بإمكانها أن تغسل هذه الخطيئة. هذا ما تراه الجماعة، لكن بافيل يحس بأنه قادر على إقناع الجميع بالأسباب التي كانت وراء الانسحاب، والحقيقة أنه لن يقنع في النهاية سوى نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ميدان الاحتفال يرفع الرفيق القائد العام صوته وهو يتلو أسماء الجنود البواسل الذين استشهدوا في المعركة دفاعاً عن الوطن، كان اسم بافيل إيفانوفيتش نافروتسكي على رأس القائمة. ففي كل عام يتم استعادة هذه الذكرى بكثير من الفخر، لقد ترسخ لدى الجميع بأن بافيل قد مات، ولا أحد يعرف أنه لا يزال على قيد الحياة سوى والده. فالجماعة تفضل جندياً ميتاً على جندي حيّ هارب من معركة.
تلعب الإضاءة دوراً كبيراً في الأداء المسرحي، فهي في نص “نيغاتيف” تتماهى مع الدفقات الشعورية التي تحملها المشاهد، إذ تتوهج الإضاءة مع لحظات الإشراق، وتخفت أو تميل إلى ألوان دالة على الحزن في أوقات المكاشفة والأحاسيس المترتبة على لحظات الانتكاسة.
في نهاية العرض المسرحي يعلو الأداء ويصل إلى ذروته عبر مونولوغ مزدوج، حيث يقف الابن في الخط الأمامي مواجهاً الجمهور، بينما يقف الأب في الخط الخلفي ووجهه قبالة الجهة الداخلية للخشبة، وتنتقل الإضاءة بينهما بانتقال الحوار. ولا تعكس هذه الوضعية الأدائية في الضرورة انصراف جيل وقدوم جيل آخر، بقدر ما تعكس تراجع مخاوف الأب وتقدم بافيل بكل إصرار واستعداده لمواجهة الجميع من أجل الترافع عما يشعر به مهما كانت النتيجة. فما يعتمل في الداخل الإنساني، بالنسبة إليه، أقوى مما يأتي من الخارج.
اعتاد بافيل أن يخرج مع والده ليلاً متنكرين في ثياب النساء، لكنه في نهاية المسرحية قرر أن ينزع عنه ثياب الجبن، وأن يخرج إلى الحياة مهما كانت العاقبة. لذلك بدت عباراته الأخيرة كما لو أنها بيان انعتاق لا يهم في الضرورة ما سيليه: “ربما أكون ضحية شجاعتي المتأخرة. لكن، لو كان هناك من عزاء لي فأعتقد أني وهبت نفسي لضوء الشمس التي كنت أحلم بها”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية