نشهد منعطفاً كبيراً في مسار النظام العالمي الجديد. نسمع مثل هذه المصطلحات كثيراً هذه الأيام في تحليلات وتصريحات سياسية متعددة. والملهم لهذه التوجهات في الواقع هو الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي أجرى مكالمة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين حتى قبل الانتهاء من تعيين أعضاء إدارته، وعبّر ترمب عن رغبته بإنهاء الحرب في أوكرانيا، وأعلن بوضوح أنه ينوي السير عكس مسار حلفائه الأوروبيين.

هذه المكالمة التي قد تصبح تاريخية في ما بعد، أتت بعد خطاب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ادعى من خلاله أن الولايات المتحدة الأميركية وروسيا يجب أن يأخذا على عاتقهما مسؤولية حل مشكلات العالم وإحلال الأمن والسلام، أي أن بوتين طلب العودة إلى فترة كان بطلها خورتشوف وجون أف كيندي من خلال التواصل عبر ما عرف بـ “الخط الأحمر”. وكان بإمكان الزعيمين تغيير مسار التاريخ متى ما ارتأيا. واستمرت هذه الأعراف بين قادة البلدين خلال ولاية جميع الرؤساء الأميركيين الخمسة في ما بعد.

شي على الهاتف

لكن بما أن التاريخ لن يتكرر إلا بحسب ما قال ماركس “في شكله الكاريكاتوري”، فقد رن هاتف الكرملين وكان المتصل الرئيس الصيني شي جينبينغ ليقول لبوتين “أنا أيضاً موجود”. نعلم أن روسيا تعاني من أزمة اقتصادية وهرب منها أكثر من أربعة ملايين من المواطنين وتتحمل عقوبات كبيرة ولا مستقبل لها من دون شي جينبينغ.

بعد ذلك الاتصال أكد الروس ومنهم وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي يبدو أنه سيبقى في المنصب إلى نهاية عمره، أنه يجب أن تشارك الصين في تعيين مصير العالم.

وفي أقل من 48 ساعة شهدنا تشكيل “ترويكا” تدّعي إدارة العالم. هذه الـ”ترويكا” وضعت بطاقاتها على طاولة مجلس الأمن الدولي على رغم رفض حلفاء الولايات المتحدة ومنهم أوروبا وكندا واليابان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن أن تتولى اثنتان أو ثلاث من القوى إدارة مصير الإنسان فهذا الأمر ليس جديداً، وكما ذكر هيغيل فإنه خلال تأسيس سلالة الإخمينيين وتمددها في القارات الثلاث كان هذا الادعاء مطروحاً بين الشعوب المختلفة. وبعدها أتت الإمبراطورية الرومانية، ومن خلال شعار “المشروع الرومي” فرضت هيمنتها على نصف أوروبا والضفتين الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط. في حين أن غريمها الشرقي أي الإمبراطورية البارثية وبعدها الإمبراطورية الساسانية في إيران كانا يهيمنان على أجزاء كبيرة من غرب آسيا. وكان هنالك خطر اصطدام الإمبراطوريتين في ما بين النهرين. وعلى رغم الحروب المتعددة استطاع الغريمان في أقل تقدير إيجاد ثبات في أنحاء معروفة بالعالم لفترة امتدت لألف سنة.

وإذا ما أمعنا في التاريخ واجتزنا محطات منه سريعاً نصل إلى تأسيس الإمبراطوريات البريطانية والروسية والفرنسية بعد انهيار الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والهولندية، حين استطاعت هذه القوى تقسيم جميع أنحاء العالم بينها. وبعد حربين عالميتين تزلزلت أركان الإمبراطوريات فانهارت الإمبراطورية النمساوية- المجرية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت مرحلة انهيار الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية. في حين أن قوتين جديدتين ظهرتا في الساحة هما الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأميركية.

وكانت الجهود الجديدة لتشكيل قيادة عالمية قد تجلت خلال مؤتمر قادة الحلفاء- أي بريطانيا وأميركا والاتحاد السوفياتي- في طهران عام 1943، وشاهد العالم الصورة الجديدة للهيمنة العالمية بجلوس كل من جوزيف ستالين على اليمين وفرانكلين روزفلت في الوسط ووينستون تشرشل على اليسار.

هذا الثلاثي الجديد سرعان ما حصل على اسم في عالم السياسة هو “الثلاثة الكبار”. والثلاثة الكبار اجتمعوا في ما بعد في مؤتمر يالطا وبوتسدام (حل الرئيس هاري ترومان محل روزفلت بعد وفاة الأخير)، وعملت هذه القوى على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ لها. لكن سرعان ما ثبت بعد عام 1943 وخلال عقد الخمسينيات أنه لا معنى للثلاثة الكبار.

فالإمبراطورية البريطانية وبعد استقلال الهند وباكستان وهما في الواقع كانا جوهرة التاج، لم تعد بريطانيا بعدها قوة مثل السابق. وكانت حرب السويس عام 1956 بداية إخراج بريطانيا من فضاء “الثلاثة الكبار”. وكانت بريطانيا بدأت الحرب بمساعدة فرنسا وإسرائيل من دون التشاور مع الولايات المتحدة. وقد انتهت الحرب بتدخل اثنين من “الثلاثة الكبار” أي الولايات المتحدة وروسيا. ثم تحولت مجموعة الثلاثة الكبار إلى “القوتين العالميتين” أي أميركا وروسيا. واحتفظا بهذا الاصطفاف حتى سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وقبل عودة الصين كقوة جديدة.

تلك الـ”ترويكا” المهيمنة

في المراحل الأخيرة من الحرب الباردة حاول الأوروبيون من خلال الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان إعادة توزيع المقاعد على الطاولة من أجل الحصول على دور. هذه الجهود أدت إلى تشكيل “مجموعة السبع” بمشاركة فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا واليابان وأميركا وكندا. وفي نهاية الحرب الباردة وظهور روسيا كعضو احتياطي تحولت مجموعة السبع إلى مجموعة الثماني، واستمرت هذه المجموعة حتى هجوم بوتين على أوكرانيا.

لكن تجارب العقود الماضية أثبتت بوضوح أن المحاولات لتشكيل نظام عالمي جديد بمشاركة اثنين، أو ثلاث أو سبع أو ثماني قوى لا تؤدي إلى نتيجة بسبب ظهور قوى جديدة ذات قدرات اقتصادية وعسكرية منها البرازيل وإندونيسيا وإيران الشاه والصين.

انهمكت القوى الأوروبية الكبيرة بتشكيل الاتحاد الأوروبي ولكن هذه المؤسسة لم تستطع أن تتفق على سياسة خارجية موحدة منذ عقود، كما فشلت في إدارة التنافسات وخلافاتها الداخلية. أما اليابان بصفتها عضواً في مجموعة السبع فلم تبد رغبة بالمشاركة في السياسات العالمية، كما أنها لا تعتبر قوة عسكرية.

بالنسبة إلى كندا الملتصقة بأميركا فإنها تعد ضيف شرف في المجموعة. وبريطانيا وفرنسا وبسبب امتلاكهما أسلحة نووية يتفاخران على بقية الأوروبيين، لكنهما لم يستطيعا التأثير في أي مكان في العالم من دون الأدوار الأميركية. وألمانيا لم تتخلص من العقوبات التي تحملتها بعد عهد النازيين، ولا يمكنها الادعاء بتولي أدوار في النظام العالمي من دون وجود قوة عسكرية وخوض مواجهات.

وكان سقوط الشاه محمد رضا بهلوي قد حول قوة إقليمية تولت بشكل عملي الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة إلى منطقة يسودها التوتر، بعدما تحولت إيران إلى أحد أسباب عدم الاستقرار والحرب في العالم.

فهل تستطع الـ”ترويكا” المهيمنة الجديدة أداء أدوار مؤثرة؟ أتصور أنها لا تستطيع، لأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد وصف الصين بالعدو حتى قبل عودته إلى البيت الأبيض. فلا يمكن أن نتصور وجود شراكة في علاقة يسودها العداء.

وأما العلاقات بين الصين وروسيا وعلى رغم المصافحات واللقاءات فإنها مليئة بالتوتر وسوء الظن. فالذاكرة الجماعية للروس تعتبر الصين دائماً تهديداً كبيراً على البلاد. كما أن الصينيين لم ينسوا بعد هزيمتهم من الروس في حرب “أوسوري” التي أدت إلى اقتطاع آلاف الكيلومترات من أراضي الصين. فضلاً عن أن الجارين يتنافسان على آسيا الوسطى من أجل الهيمنة عليها. فنرى مثلاً على رغم حصول الصين على النفط والغاز بأسعار زهيدة من روسيا لم تتعاون مع بوتين عسكرياً، ويساورها القلق دائماً من أن تتعاون روسيا مع أميركا من أجل احتواء الصين.

هذه القوى الثلاث لديها مشكلات أخرى. فالرئيس الأميركي دونالد ترمب وبعد عودته إلى البيت الأبيض تسبب في إيجاد شكوك في طبيعة علاقته مع حلفائها القدامى. فكندا والمكسيك المجاوران لأميركا ويهيمنان على نصف التجارة الخارجية الأميركية أصبحت إدارة ترمب غاضبة عليهما، وفي جميع القارة الأميركية لا نجد إلا الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي حليفاً لدونالد ترمب.

برفقة بلدين خاسرين

منذ عام 1943 وحتى ولاية جورج بوش الابن كانت الولايات المتحدة الأميركية تملك ورقة رابحة: الاتفاق الوطني في السياسة الخارجية، على سبيل المثال كان مشروع الهجوم على أفغانستان والعراق قد حصل على صوت معارض واحد في الكونغرس فقط.

لكن اليوم لا يوجد مثل هذا الاتفاق. فالدمار الذي تسبب به باراك أوباما كان فاتحة لانهيار الاتفاق التاريخي بين الحزبين من خلال محاولاته الالتفاف على النظام القانوني للولايات المتحدة الأميركية.

ويعيش الحزبان الديمقراطي والجمهوري خلافات داخلية عميقة. وحتى الحزب الجمهوري الذي يعود إليه دونالد ترمب توجد فيه أربعة أو خمسة أصوات معارضة للسياسة الخارجية الداعية إلى التقارب مع روسيا، وبإمكانها منع تشكيل مجموعة “الثلاثة الكبار” أو عرقلة تشكيلها.

كما أن إدارة ترمب التي تتمتع بموقع منقطع النظير أمامها 18 شهراً من أجل تسيير مشاريعها، وبعد عامين ستشهد الولايات المتحدة الأميركية انتخابات نصفية، وكانت مثل هذه الانتخابات خلال المئة عام الماضية تحرم دائماً الرئيس من امتلاك الأكثرية في الكونغرس ومجلس النواب.

وللصين مشكلاتها الخاصة. فلديها أكبر عدد من الدول المجاورة بعد روسيا. وجميع جيرانها عدا باكستان تعيش حال خلاف معها، وحتى كوريا الشمالية تنظر إليها بشك وتردد. كما أنها تشهد مشكلات داخلية منها تدني النمو الاقتصادي وتفشي الفساد في المستويات المختلفة في الحزب الشمولي والتنافسات بين أعضاء الحزب ومنح قروض لـ50 دولة مما جعل صورة الرئيس شي جينبينغ مشوهة عندما يطرح نفسه حارساً للنظام العالمي الجديد.

العضو الثالث في هذه الـ”ترويكا” أو الثلاثة الكبار الخياليين هي روسيا التي تعاني من تداعيات مستنقع أوكرانيا وتحملت ضربات كبيرة. فإذا ما استطاع فلاديمير بوتين الاحتفاظ بالأراضي التي احتلها من أوكرانيا بمساعدة دونالد ترمب فإنه لا يحصل على نتيجة ملحوظة وأمامه تداعيات إجراءات إعادة الإعمار.

في عام 2014 شن بوتين هجوماً على جزيرة القرم وضمها إلى أراضيه، لكن خلال العقد الماضي تحولت الأراضي المحتلة التي كان يعشقها الطامعون إلى مناظر قبيحة، فكتبت صحيفة “كومرسانت” الروسية أن الحفاظ على القرم ودفع الرواتب والمخصصات المالية يكلف روسيا 18 مليار دولار، ويبدو أنها تحولت إلى لقمة سائغة لروسيا. 

ولبوتين لقم مثل هذه: أوسيتا الجنوبية وأبخازيا وهما جزءان من جورجيا احتلهما عام 2008. أما إضافة دونيتسك ولوهانسك فتعني محاولة بلع لقمتين قد تؤدي إلى خنق روسيا بخاصة أن الاتحاد الأوروبي بصفته أكبر شريك لروسيا لا يرغب بالتخلي عن العقوبات ويمضي بتثبيتها ضد روسيا.

أما ترمب فيعمل على توزيع العالم إلى “رابحين” و”خاسرين”، ويتساءل: أين يقع بوتين وشي جينبينغ؟ لكن هل يريد ترمب الذي يعتبر بلاده رابحة دائماً الهيمنة على العالم برفقة بلدين خاسرين؟

أظن أنه قد ولى عهد الثلاثة الكبار والقوتين العالميتين ومجموعة السبع والخدع المشابهة. في هذه الفترة التاريخية نشهد عودة نموذج الدولة الأمة، أي أن القطيع لا يسير وراء الراعي، والجميع يعمل مثل ترمب الذي ينادي “أميركا أولاً”، فهنالك من ينادي “الهند أولاً” و”البرازيل أولاً” و”المكسيك أولاً” و”جزر المالديف أولاً” و”جمهورية سان مارينو أولاً”.

وإذا ما تقرر إعادة بناء النظام العالمي المنهار، يجب أن يتم ذلك على أساس معايير عالمية تعكس نيات وتاريخ وثقافة وآمال جميع الشعوب. أما الولايات المتحدة الأميركية اليوم فبإمكانها أن تؤدي دوراً قيادياً في هذا المجال أكثر من أي بلد آخر، لكن علينا ألا ننسى قصة الدكتور غوليفر الذي دمره الأقزام.

نقلاً عن “اندبندنت فارسية”

نقلاً عن : اندبندنت عربية