لو سألت في السودان عما وراء أزمة البلد المتطاولة لسمعت أنها من فشل النخبة وإدمان الفشل. وهو عنوان أحد كتب الدكتور الوزير منصور خالد. ولو سألت ما علة هذه الصفوة حتى أدمنت الفشل لقالوا، ضمن علل أقل خطراً، إن ذلك أثر من عقلها الرعوي. وفقه هذه العلة مما فصله النور حمد، الأكاديمي والناشط منذ عقود لأجل الفكرة الجمهورية للأستاذ محمود محمد طه، في كتابه “العقل الرعوي: في استعصاء الإمساك بأسباب التقدم” (2022).
“العقل الرعوي”
واستغرب كثير من الناس أنه حين حل بالسودان هذا “العقل الرعوي” في تجليه الأقصى، وهو قوات “الدعم السريع”، لم يمتنع حمد عن تحليله بمصطلح فقهه فحسب، بل إنه انحاز إليه حتى من دون زملائه في تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) ممن قالوا بالحياد بين القوات المسلحة و”الدعم السريع” في دعوتهم إلى إنهاء الحرب. ونسارع إلى القول إن “الدعم السريع” مؤسسة اقتصادية عسكرية أعقد من أن يحيط بها مفهوم العقل الرعوي ولكن هذه الصفة ما تواضعت عليه قوى الحرية والتغيير (قحت) في باكر أيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) عام 2018 حين وصفوا محمد حمدان دقلو، قائد “الدعم السريع” بـ”راعي الجمال” في معرض التبخيس به.
أخذ النور حمد المفهوم عن ثنائية “الحضر والبدو” لابن خلدون ببينة من رأيه أن العرب أبعد الناس من سياسة الملك و”إنهم إذا ملكوا أمة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في الأيدي”. فالعقل الرعوي في قول حمد هو “منظومة قيمية تشكلت في ظروف تاريخية ارتبطت بنشاط اقتصادي بعينه وأسلوب حياة بعينه” وهو الرعي، ويتجسد هذا العقل في “المسلك المعادي للحداثة ولقيمها ولاحترام القوانين والنظام”، فهو حال الوحشية حيال الأنسية، النظام مقابل اللانظام والجلافة بوجه الصقل.
ولا يعتد أحد هنا بأن العالم العربي المعاصر قد تحدث، فمن رأي حمد أنه لا يزال واقعاً قبلياً “لم تغير الحداثة المظهرية بناه العقلية” بدليل تعثر إنجاز التحول الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة فيه، فالعقل الرعوي كامن في العرب “كمون النار في الحجر”. ومع ذلك لا تقتصر الظاهرة عند النور حمد على العرب، فوسعت هذه العقلية عنده عوالم شتيت متى ما وقعت هبة رعوية على محيط حداثي، فشمل بها القبائل الجرمانية التي عصفت بالإمبراطورية الرومانية والمغول الذين عصفوا بحضارة الهند، وكذلك الفاشية والنازية والأفغان العرب و”داعش” و”كوكلكس كلان”، بل الرئيس الأميركي دونالد ترمب لهبوبه “بعقلية الكاوبوي” من باطن الحداثة التي اعتزلت نخبها سائر الناس.
والسودان في فكر النور حمد مما ابتلاه الله بـ”العقل الرعوي” من لدن قدوم العرب المسلمين إليه في ما بين القرنين التاسع والـ14، فكان السودان في قوله بلا بنية عقل رعوي تحت ممالكه التاريخية مثل كوش ودولتي المقرة وعلوة المسيحيتين، حتى تماهى مع ذلك الفضاء العربي. فتحول السودان به من “بيئة حضرية مقتدرة في الفعل الحضاري إلى بيئة رعوية”. فصرنا أهل مدر بعد أن كنا حضراً، وهذا ما سماه مصابنا من “تمدد العلل العربية بأنفسنا”، واستدرك بقوله إن العرب الذين وفدوا للسودان كانوا على الجاهلية لا الإسلام.
ولم ينفك السودان مباءة عقل رعوي إلا ما جاءه من حداثة بفضل كل من الحكم التركي- المصري (1821-1881) والاستعمار الإنجليزي (1956-1989)، ولم يمكثا فينا لأن المهدية الرعوية بقيادة محمد أحمد المهدي (1981) هبت على النظام الأول فقضت عليه كما أطاحت الحركة الوطنية الرعوية بالثاني. والنور حمد كمن جعل تحكيم الإسلام في الدولة معياره للهبة الرعوية، فقال إن “قوانين سبتمبر” الإسلامية التي شرع لها الرئيس نميري عام 1983 “أعادت حركة التحديث عقوداً للوراء” ناهيك عن تمهيدها لحكومة الإنقاذ التي “هي أكبر هبة رعوية في تاريخ السودان الحديث”. ونبه ألا ننخدع للقائل إن الإنجليز أقاموا فينا دولة، فهي دولة قامت فرضاً بقوة السلاح بينما كمنت القبيلة طوال فترة الحكم الأجنبي. وعليه فالدولة الحديثة في السودان لم تنشأ بعد ولن تقوم إلا بعد أن ننجح في تفكيك العقل الرعوي وإزالة آثاره التي لا تزال تبسط أمرها علينا.
الحكومة الموازية
كان النور حمد من ضمن من جاؤوا إلى نيروبي في منتصف فبراير (شباط) الماضي لتكوين حكومة موازية لـ”حكومة بورتسودان” في المناطق التي تحت سيطرة “الدعم السريع”. والباعث من وراء وقفة حمد مع هذه الحكومة الحليفة لـ”الدعم السريع” المرتقبة هو استنقاذ ثورة ديسمبر 2018 من شرور الفلول ممن أشعلوا الحرب للقضاء عليها واستعادة سلطانهم. فظاهر النور حمد إعلان هذه لحكومة الموازية لأنها، في قوله، الفرصة الوحيدة الباقية لنزع زمام المبادرة من القوى الكيزانية، وبدا هنا على شيء كبير من اليأس من “تقدم”، فالحراك المدني الذي تقوم به لوقف الحرب وشل يد الكيزان لا شوكة له ولا أسنان، وسيبقى حراكها، في رأيه، حالماً إذا كانت كل عدتها الهتاف والمناشدة حيال قوة شرسة وديناميكية لا تبالي بشيء كقوة “الكيزان”. فالمسرح السياسي تغير فلا مجال، في قوله، للحديث عن سلمية الثورة، بل شق طريقاً آخر يخرج فيه المدني الذي بلا شوكة ليتحد مع قوة عسكرية هي “الدعم السريع” كما يفعل الجيش والفلول.
لم تتفق للنور حمد في السابق فكرة الإطاحة بحكومة الإنقاذ (أيام الرئيس السابق عمر البشير) عن طريق ثورة منذ كان ينشر كتابه عن العقل الرعوي في حلقات نحو عام 2016، فقال إن حكومة “الإنقاذ” التي نخر العقل الرعوي تحت حكمها الدولة الحديثة ستسقط لا محالة ولن يجديها تمديد عمرها عن طريق الميليشيات القبلية، “الجنجويد” قبل اكتسابها صفة قوات “الدعم السريع” بقانون عام 2017 التي استنجدت بها غير مدركة أنها “أخطر عليها وعلى مستقبل وحدة القطر” من الحركات المسلحة في الهامش التي أرادت القضاء عليها، ولكنه تحسب من سقوط “الإنقاذ” بثورة. ولو حدث ذلك فيكون فيه “إعادة إنتاج للعقل الرعوي”.
فالثورة المتعجلة تحت سياط الإحساس بالظلم من رعوية “الإنقاذ” تحجب عن رؤية الثوري إشكالات التغيير والتعجيل بالتغيير هو ما ارتكب به الإسلاميون انقلابهم عام 1989 بإملاء من عقل رعوي “التصقوا في دوافع فعلتهم بالدين التصاقاً رعوياً فجاً”، فالهبة الرعوية قد تكون دينية وعلمانية لا فرق، فالتعجيل بالثورة هبة رعوية أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإسلاميون والدولة
ولم تتفق للنور حمد الثورة طريقاً للخلاص من الإنقاذ حتى الساعة الـ23 من عمر الإنقاذ، فكان استبعد في لقاء له بجريدة “التيار” (24 أكتوبر- تشرين الأول عام 2018)، قبل شهرين من ثورة ديسمبر 2018، قيام انتفاضة شعبية ضد نظام الإنقاذ، بل “استشأمها” وقال إنها “خيار مخيف”. وقال لا بخطأ أي اتجاه لإقصاء الإسلاميين في أي معادلة مستقبلية فحسب، بل باستحالته أيضاً. فالإسلاميون لبسوا معهم “جسد الدولة وأي نَزع لهم سيكون ’نزعاً‘ للدولة”. ودعا إلى “حل توليفي” والخروج من المطب بتصورات جديدة تنقلنا كلنا ومعنا الإسلاميين إلى وضع أفضل وإلا الضوضاء الفادحة التي ستقودنا إلى المهلكة ونفقد بها الدولة نفسها.
ولا مانع أن يحسن المرء الظن في ما ساء ظنه فيه من قبل، فللثورات هذه الدالة، ولكن يقتضي الاتساق من النور حمد هنا ألا يجازف لاستنقاذ ثورة، هي عنده بحسب ما رأينا “رعوية كاملة الدسم” بالتحالف مع جماعة هي هبة رعوية في حد ذاتها، وليس مثل استدراك ثورة كانت هي “الخيار المخيف” مخاطرة في المجهول.
وزكى النور حمد في السياق للمعارضين منازلة “المؤتمر الوطني” (الحزب الحاكم في عهد البشير) اقتراعياً في الانتخابات التي كان تقرر لها عام 2020، وجاء بالمتغيرات التي جعلت من الثورة على النظام استحالة ومن ذلك تضعضع الطبقة الوسطى التي كانت تنهض بالثورة بتنظيماتها في حين مكن النظام لنفسه بالخطاب الديني ونجح إلى حد بعيد في تقليل فرص قيام ثورة ضده. ولم يشقق النور حمد الكلام في عورة المعارضة، فقال إنها لم تستثمر مظالم النظام التي وقعت على الناس لأنها لا تملك وراءها اصطفافاً جماهيرياً يذكر، ولم تعدُ في قوله سوى ظاهرة صوتية غادرها الشارع ليدبر معاشه من دونها. فأكثرية الجمهور في قبضة “المؤتمر الوطني”، فهو الذي زرع لجانه الشعبية في كل حيّ من أحياء مدن البلاد، بل في كل قرية، وهو الذي بقي على اتصال يومي وثيق بشؤون الناس اليومية وهو الذي يملك أدق المعلومات عنهم وعن أحوالهم وإن لم يقدم لهم شيئاً، فضلاً عن امتلاكه الشبكة الإدارية والأمنية المتغلغلة في كل أصقاع البلاد التي تعرف كيف تسوق الجمهور إلى صناديق الاقتراع. ويضاف إلى ذلك امتلاكه الآلة الإعلامية والخطاب الديني المخدر في المساجد وجمعيات التلاوة وكل ما يجعل عامة الناس واقعين في قبضته.
فما تقوم به المعارضة إزاء ما يقوم به “المؤتمر الوطني” مجرد انتظار غير منتج، فإن ما تمارسه المعارضة الآن ليس سوى انتظار قاتل لن يلبث أن يجعلها في وقت قريب جداً مجرد لافتة عليها بضع كلمات.
“إنها الحرب”
ليست للنور حمد كلمة طيبة واحدة عن العقل الرعوي، فحياة أهله في شعابه اقتضت “قوة البأس وشك السلاح، كما اقتضت ثقافة قتالية وقدرة عملية على وضع اليد على حيازات الأرض والدفاع عنها كلما اقتضى الأمر”، فيرى العقل الرعوي مغنماً حلالاً في انتهاب مال الآخر الذي ليس بينك وبينه حلف أو جوار، بخلاف بيئة الحداثة التي يسبغ عدلها الجميع. ولا يحلو الغزو والاستحواذ للعقل الرعوي في مثل مجاورتهم بنية حضارية متقدمة يلمحون فيها علامات ضعف عسكري. وكانت “الدعم السريع” خلال حربها معرضة لحيازات المال والعقار حتى جاء إخلاؤها للمباني في صلب اتفاق سلام جدة الأول (مايو- أيار 2023). إلا أن النور حمد لم يخضع هذه الانتهاكات لمفهومه عن العقل الرعوي بذريعة “إنها الحرب ومن غلب سلب” في قوله، فذكر في عبارة شهيرة أن مطلب خروج “الدعم السريع” من بيوت الناس شطط في التفكير، بل استحالة، وزاد أن الاحتكام إلى العقل في هذا الأمر أولى من الاحتكام إلى العاطفة، فاحتلال “الجنجويد” بيوت الناس أخرج الناس عن طورهم فركبتهم العاطفة في حين صح أن يركبهم العقل، فمثل ذلك الاحتلال مما يتوقعه المرء في حرب لأن “الحرب لا تدار بأخلاق”، ولذا يعمل أهل الحكمة ألا تندلع حرب، ومتى اندلعت اندلقت شرورها.
واعترف النور حمد أخيراً بارتكاب “الدعم السريع” لتجاوزات في حربها ضد القوات المسلحة وهي عنده موجبة للمساءلة، إلا أن الجيش هو الذي لم يرغب في عقد مثل هذا التحقيق، ومع ذلك فهذه الانتهاكات مما يقع في حرب تنتج أوضاعاً ينهار فيها حكم القانون. وبينما يصعب الدفاع، في قوله، عن “الدعم السريع” إلا أن من صحت مؤاخذته حقاً فهو القوات المسلحة التي أشعلت الحرب، فالأوْلى تحميل وزر التعديات لمن أشعل الحرب بدلاً من التمسك بتفاصيل التعديات التي لا سيطرة لمرتكبها عليها، فالحرب تؤدي إلى أوضاع ينهار فيها القانون وتلغي الدولة.
مفهوم العقل والانتهاكات
لم يعطل النور حمد هنا تطبيق مفهومه للعقل على انتهاكات “الدعم السريع” التي يصدق عليها ذلك العقل كما لا يصدق على الحركة الوطنية كما أراد النور حمد فحسب، بل جعل الحرب ساحة مثالية لممارسة العقل الرعوي كما شخصها “من غلب سلب” فيقول، “يقولوا ليك ’الدعم السريع‘ يطلع من البيوت. هو احتلها يطلع ليك كيف؟ ما بيطلع إلا بتفاوض. ما بيطلع ليك. في زول احتله ليهو محل في معركة طلع منها ساكت لأنك أنت قلت له إطلع. بيطلع لما أنت تكون عندك قوة تطلعه. تخليه يطلع. وعملياً أنت ما عندك هذه القوة”. وهذا بالطبع بخلاف قانون الحرب الإنساني ولا أعرف إن كان النور حمد اكترث ليراجع استباحته لحقوق المدنيين على ضوء ما كفله عهد جنيف الخاص بحماية المدنيين في الحرب (12 أغسطس- آب 1949). وبالعدم فقد جعل النور حمد من حربنا “هبة رعوية” على ميثاق حداثي وصدق فيه قوله إن عقلنا الرعوي ابتلاء رعوي منذ وفود العرب إلى السودان لا نملك معه صرفاً ولا عدلاً.
كان لقاء النور حمد قائد ثاني “الدعم السريع” عبدالرحيم دقلو ومصافحتهما موضوع تعليق طريف في الوسائط. قالوا إن دقلو سأل حمد “لقيتنا كيف؟”، وهو السؤال التقليدي لمنسوبي “الدعم السريع” لأسراهم ليطروا معاملتهم وإنسانيتها.
نقلاً عن : اندبندنت عربية