(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، هكذا خاطب الخالق البشر جميعاً بغير استثناء ولم يخص جماعة بذاتها أو طائفة بعينها، بل جاءت الآية الكريمة عامة مجردة موجهة إلى الإنسان في كل زمان ومكان، وهي تدل على المساواة المطلقة من الخالق عز وجل تجاه مخلوقاته، مؤكداً أن التقوى وحدها هي معيار التمايز، والتقوى بمعنى ارتياد الطريق السليم والمضي في حياة سوية لا تعرف التعصب ولا تقبل العنصرية، بل إن القرآن الكريم لم يختص بهذا النداء الإلهي المسلمين دون غيرهم، بل جعله نداء مطلقاً للناس أجمعين على اختلاف أوطانهم ودياناتهم وانتماءاتهم، ولذلك فإن الطائفية مؤشر اجتماعي وليست تمييزاً لطائفة على بقية المجتمعات.

 إننا نتذكر هذه المعاني المرتبطة بمحاور ثلاث يجب ألا تغيب عن الوجدان خصوصاً مع أيام الصوم في شهر رمضان، والمحور الأول يدور حول الزخم الروحي الذي تطرحه مشاعر شهر الصيام لدى المسلمين وعيد الفصح لدى المسيحيين، إضافة إلى أعياد اليهود وثلاثتهم من أبناء إبراهيم صاحب ديانة التوحيد التي بشرت بها الديانات السماوية والحضارات الأرضية، والثقافات ذات الطابع الإنساني الذي أدى إلى قفزات كبرى ونقلات نوعية للإنسان عبر الزمان والمكان، لذلك فإنني أرى مشتركاً مع جمهرة المؤرخين والباحثين ورجال الدين أن الطائفية داء وليست دواء، وأنها علة مرضية إذا استبدت بالأقوام تؤدي إلى تفرقتهم وتمزيق وحدتهم، وخلق أنواع لا طائل لها من التمايز بين البشر على أسس غير موضوعية، لأنها تقوم على أفكار عرقية لا تمت بصلة للجوانب الإنسانية.

لقد خلقنا جميعاً أحراراً ولم يفرض على عقولنا قيداً من الاستبداد أو قهراً عند لحظة الميلاد، ولكن الذي حدث أن أطماع الحياة وتقلباتها ونوازع البشر، بل وخطاب الكراهية المعاصر، هي في مجملها التي صنعت تلك الصورة الضبابية التي نشهدها الآن، وهي تغلف العلاقة بين أنماط بشرية وأجناس تشعبت لتصنع شعوباً وقبائل من دون تمييز مطلق أو مصادرة على المستقبل أو أحكام عشوائية تقوم على التمييز العنصري والتفرقة البغيضة، ولقد ابتليت الأمة العربية بل وربما الأمة الإسلامية أيضاً بتمزق طائفي وضربات عنيفة للتماسك البشري، فظهر ملوك الطوائف وضاعت الأندلس وخرج العرب والمسلمون من شبه جزيرة أيبيريا وبقي الجميع يذرفون دموع الندم على تلك النكبة التي خرج فيها اليهود أيضاً من إسبانيا واحتضنتهم دول الجنوب الإسلامي إلى أن ظهرت أسباب للفرقة وعوامل للاختلاف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما المحور الثاني فهو ذلك المتصل بالحديث المغلوط عن العنصر النقي وشعب الله المختار، فلقد شهدنا تداعيات مريرة للانقسامات الدينية حتى داخل العقيدة الواحدة، فتعددت المذاهب وتنوعت الطوائف وأصبحنا أمام موزاييك عقائدي، بينما الخطاب الإلهي في الكتب المقدسة يتجه إلى الناس عامة وإلى الشعوب كافة من دون تمييز أو إقصاء، بل لقد بلغت الطائفية مرحلة تحاول فيها تمزيق الدين الواحد إلى فرق وطوائف، مع أنها تلتقي في الأصول والجذور وتختلف فقط في الفروع والتفاسير، وإذا كانت أوروبا العصور الوسطى قد ابتليت بالصراع بين السلطتين الروحية والزمنية، واختلفت لديهم النظرة الروحية لطبيعة السيد المسيح عليه السلام بين الربوبية والبشرية، فإن الأمة الإسلامية على الجانب الآخر قد عانت كثيراً حال الانقسام السنّي والشيعي بعد واقعة التحكيم الشهيرة، على رغم أن المذهبين الكبيرين يشتركان في الإيمان بالإله الواحد وكتاب الله القرآن الكريم وأركان الإسلام الخمسة ويتجهان في صلاتهم إلى قبلة واحدة، ومع ذلك انقسم المذهبان إلى طوائف وشيع، بل وانقسمت الأخيرة بدورها إلى فروع متباعدة لا تدرك جوهر الرسالة المشتركة ولا تعرف قيمة الاندماج الديني، في ظل أضواء التوحيد الذي يجمع ولا يفرق ويوحد ولا يشتت.

أما المحور الثالث فهو ذلك الذي يتصل بالآثار السلبية للطائفية على الشعوب والمجتمعات، إذ تؤدي بالضرورة إلى حال من التشرذم واصطناع الولاءات وقيام حالات من الانقسام التي لا مبرر لها ولا جدوى منها، فالطائفية مرض معد ينتقل بين المجتمعات وينخر كالسوس في نخاع الاستقرار، ويفتح أبواباً للاختلاف الديني الذي يتحول إلى خلاف سياسي، وهو بذلك يمزق نسيج الأمة ويهدد مستقبل أجيالها بالمنطق المغلوط والأفكار العبثية.

وهنا أسجل صراحة أن ميلاد الدولة الحديثة بمظاهرها المعروفة والضمانات القانونية والسياسية لها والمناخ الثقافي الذي تخلقه والبيئة الاجتماعية الحاضنة، وهذه كلها من دون غيرها القادرة على رأب الصدع وتسوية المنازعات بين الأطراف المختلفة عند اللزوم، وهي بذلك تعبر عن الدولة الوطنية باعتبارها معطاة تاريخية نجمت عن التطور الطبيعي للجماعات البشرية حتى وصلت إلى آخر صورها وأكثرها ثباتاً وأشدها ملائمة لطبيعة العلاقات الدولية المعاصرة، ولذلك فإن محاولات التجزئة والتقسيم والتفريق على أسس طائفية أمر يطيح بالكفاءات ويصنع حواجز لا مبرر لها بين المجموعات البشرية ويدمر الوحدة الوطنية في الوقت نفسه، وعلى الخريطة العربية يمكن أن نتذكر كم عانى لبنان جراء التقسيم الطائفي الذي بدأ بميثاق عام 1943، ثم جرى تطويره في “اتفاق الطائف” بعد ذلك بأكثر من نصف قرن حين تمخضت عنه حرب أهلية دامية دفع فيها ذلك البلد العريق الجميل فاتورة غالية.

كما أن العراق عانى هو الآخر بلاء الطائفية من دون مبرر حقيقي إلا ممالأة الإنجليز لأهل السنّة عام 1920 وممالأة الأميركان للشيعة عام 2003، أي أن التقسيم الديني الطائفي دخيل على المنطقة وهي التي استظلت دائماً بالحضارة العربية الإسلامية التي شارك فيها الجميع، بما فيهم الأقليات اليهودية في تلك الدول، ولذلك فإنه من العبث الحديث عن هذه التقسيمات.

يذكر أن الثورة السورية الجديدة تردد دائماً التزامها بانتهاج مبدأ المساوة بين الطوائف المختلفة والابتعاد من التقسيمات الطائفية دينياً وعرقياً، فالعرب والأكراد أبناء حضارة واحدة وثقافة مشتركة، كما أن كل الأقليات في العالمين العربي والإسلامي جزء من نسيج واحد، فحتى الفرس والترك والكرد والأمازيغ يشكلون باقة واحدة للتعددية في إطار وحدة الدولة الوطنية، ولا يمكن للتقسيم الطائفي أن يقدم دولاً عصرية تضم وتقوى وتستقر وتعيش دون اضطرابات أو مشكلات، فالأصل هو حال الانصهار الإنساني والاندماج البشري الذي يجعل من الدولة الوطنية الواحدة سبيكة متفردة لا تعرف التقسيم ولا تقبل التجزئة.

ويجب أن نتذكر هنا أن المسيحيين العرب كانوا هم رواد الحركة القومية ودعاة الوحدة وأنصار التلاحم الدائم، بل إن موقفهم في القضية الفلسطينية ودعم حركات المقاومة العربية يدل على أن تلك التقسيمات التي تتردد هي تقسيمات وهمية وكيانات مصطنعة، لا يمكن التعويل عليها أو البناء فوقها.

ودعونا في ختام هذه الملاحظات نرصد حجم المعاناة والفاتورة الغالية التي دفعها العرب خلال العقود الأخيرة نتيجة الافتئات على الدولة الوطنية ومحاولة طمس معالمها لمصلحة أفكار وافدة أو عقائد مستوردة، بينما الأصل هو أن تظل الأمة العربية واضحة التكوين سليمة البنيان لا تقبل الاختراق ولا تتحمل الإضعاف الذي يأتيها من كل اتجاه، ويسعى إلى تخريب وحدتها والتأثير في تراثها الحضاري الضخم، ذلك أنها قامت وتقوم على أساس عريق من حضارات قديمة شارك فيها الجميع بلا استثناء، سواء كانت فرعونية – مصرية أو عربية – إسلامية أو بابلية – آشورية أو فينيقية – شامية، كما أن دول المغرب العربي كانت ولا تزال إضافة إيجابية للنسيج العربي القومي أمام كل الظروف الصعبة والمحن العابرة التي عرفتها المنطقة خلال العقود الأخيرة، بل ربما القرون الماضية أيضاً.

نقلاً عن : اندبندنت عربية