نعرف طبعاً أن الثورة الفرنسية استثارت عندما اندلعت وراحت تسجل انتصاراتها الكبرى موجة كبيرة من المناصرة والتأييد في طول أوروبا وعرضها، ولكن في صورة خاصة في ألمانيا المجاورة، حيث كان الفكر التنويري سائداً ويبحث عن سند سياسي له.
ونعرف طبعاً أن تلك الحماسة عادت وخفتت تدريجاً مع استتباب ما سمي عصر الإرهاب، ثم اختفت تماماً حين بدأ نابليون حملاته على الدول الأوروبية محطماً كل مثل أعلى ثوري ومخيباً في صورة خاصة آمال المثقفين والمتنورين التي كانت انعقدت على ما يحدث في فرنسا. وسيكون المفكر والشاعر والأديب وولفغانغ غوته واحداً من أولئك الذين خاب أملهم بعد حماسة، هو الذي بدأ الأمر معه بأن كرس للحديث عن تلك الثورة كتابات كثيرة لينتهي به الأمر منتقداً بعنف ما يحدث.
وفي البداية كانت حماسته “الثورية” كبيرة إلى درجة أنه خص ثورة البلد المجاور بما لا يقل عن أربع مسرحيات قد لا تكون أي منها من درر أعماله، لكنها جميعها لا تخلو من عمق فكري وانتماء معلن للثورة وإيمان بأنها ستغير أوروبا كلها وليس فرنسا وحدها، ناهيك بتيقنه من أن تلك الثورة، ومهما كانت تقلباتها، سترتبط أكثر وأكثر بالفكر الذي يكمن في جذور قيامها.
وحملت تلك المسرحيات الأربع عناوين تبدو فرنسية الطابع، وهي على التوالي، “القبطي الكبير” و”جنرال الحرس الوطني” و”الابنة غير الشرعية”، وأخيراً “المنتفضون” التي تبدو الأكثر علاقة في صورة مباشرة بالثورة التي سنتوقف عندها هنا.
ضياع مسرحية
كتب غوته “المنتفضون” عام 1793 حين كانت الثورة الفرنسية تعيش أول أعوامها وتمثل بأي حال ذروة المواقف التي اتخذها المفكر الكبير من الفعل الثوري، بل إن النقاد سيسمون المسرحية بأنها شديدة المباشرة وشفافة في الترميز الطبقي والفكري إلى درجة قد تبدو معها أشبه بمنشور سياسي منها بعمل درامي مسرحي. وهذا على رغم الطابع الكوميدي الذي يغلب على مواقفها وعلى شخصياتها وعلى رغم ما فيها من مواقف عاطفية وقلبات مسرحية.
وتدور المسرحية المؤلفة من خمسة فصول (ضاع منها جزء كبير من الفصلين الثالث والرابع، والفصل الخامس بأكمله، حتى وإن كان المؤلف قد ترك بين أوراقه ما يوضح الأحداث المفقودة في الأقل)، تدور من حول شخصيتين رئيستين هما بريم دي بريمنفيلد، النبيل السابق الذي فقد مكانته الأرستقراطية، وها هو مُكتفٍ الآن بالعمل كحلاق في القرية وجراح فيها حين يلزم الأمر ذلك، والكونتيسة النبيلة صاحبة الأملاك والقصر الفخم في القرية ذاتها.
بالنسبة إلى بريم ها هو يتمسك الآن بالأفكار التنويرية والثورية الآتية من فرنسا، ويريد أن يقود بعض الخطوات التغييرية وإن تحت حماية القانون، التي تمكنه من تطبيق إصلاحات لمصلحة سكان القرية. ومن الواضح بالنسبة إليه أن تلك الإصلاحات ستضعه في مجابهة الكونتيسة التي لا يعرف على أية حال أنها هي الأخرى، إذ تعود حديثاً من فرنسا، باتت بدورها محملة بأفكار تغييرية منها، مما يدفعها إلى الرغبة في أن تعفي سكان القرية من عديد من التزاماتهم الثقيلة تجاهها.
في انتظار القوانين
لكنها هي الأخرى، ومن ناحيتها، تريد أن تتم الأمور في صورة قانونية بالاستناد إلى وثائق من المؤسف أنها حين تبحث عنها لتطلق التغييرات من خلالها، ستفاجأ بأنها قد فقدتها. والحقيقة أن بريم كان يحاول من ناحيته أن ينتزع منها الوثائق بالقوة وهو معتقد أنها لن ترضى باستعادة الفلاحين حقوقهم منها. ومن هنا يدور الصراع من حول الوثائق التي كان قد تمكن من الحصول عليها خلسة واحد من موظفي الدولة يعمل لحساب الطرف المعادي لتلك التغييرات. وهنا عند هذا الحد من التداخل بين الأحداث والشخصيات وضروب سوء التفاهم حتى بين شخصيات تسعى إلى الغاية ذاتها ينتهي النص المتكامل الذي كتبه غوته لهذه المسرحية.
ومن خلال الصفحات المكتوبة بصورة نهائية، ثم من خلال الفصول الثلاثة التالية التي لم يصل منها بخط غوته سوى ملخصاتها، ولن يكون من السهل معرفة إلى أين كان الكاتب يريد أن يصل في مسرحيته هذه. ليس طبعاً لأن سياق الأحداث لا يبدو واضحاً، بل بالتحديد لأن غوته لا يوضح مواقفه، وأين يقف هو من تلك الأحداث.
شخصيات كاريكاتيرية
في نهاية الأمر، إذا حكمنا على الشخصيات من خلال ما نراه أمامنا، سنجدها جميعاً شخصيات كاريكاتيرية يكاد القارئ لا يجد سبيلاً إلى التعاطف مع أي منها. سيبدو وكأن الكاتب يضع جميع الشخصيات، مناصرة للثورة كانت أو معادية لها، في سلة واحدة. ومع هذا ثمة استثناءات لا تبدو ذات أهمية فائقة من وجهة نظر الأحداث أو السياق المفترض للحبكة.
شخصيات تبدو وكأنها قد أقحمت لإيجاد نوع من التوازن بين من يجب على القارئ – أو المتفرج على الخشبة في حال تقديم المسرحية – أن ينظر إليهم بعين الجدية أو بعين السخرية (ابنة الكونتيسة التي ستلجأ إلى القوة كي تستعيد من موظف الدولة الخسيس تلك الوثيقة الشهيرة التي تتيح لمن يمتلكها التحكم في مصير الفلاحين، أو كارولين ابنة بريم التي ينظر إليها أبوها كقديسة صغيرة من دون أن يدري أنها واقعة تحت إغواء فتى لعوب هو ابن عم الكونتيسة… إلخ)، غير أن من الواضح أن هذه الشخصيات إنما تبدو هنا وكأنها مجرد زينة مسرحية لا تقدم ولا تؤخر في مجرى الحدث الرئيس الذي يقوم أساساً على تلك النظرة ملقاة على متأثرين بالثورة الفرنسية من الأمور ذات الدلالة أن غوته يسميهم المنتفضين وليس الثائرين منذ وضع عنوان روايته، إذ من الواضح أنه يريد، ولو من طرف خفي أن يوجه سهام نقده في صورة مواربة، إلى فئة من المتحمسين للثورة الفرنسية يرى أنهم لا يعرفون أصلاً لماذا هم متحمسون لها، وما هي تلك الثورة حقاً.
من تحت أو من فوق
الحقيقة أن بقية الأحداث كما وصلت إلينا من الملخصات الخاصة بالفصول النهائية تؤكد هذا، لكنها تؤكد في صورة أكثر خصوصية على فكرة لا شك في أنها كانت تداعب مخيلة غوته، فهو كان يرى أن الأكثر حماسة في بلده ألمانيا للثورة الفرنسية، كانت الطبقات الأرستقراطية – ممثلة هنا بالحلاق/ الجراح بريم حتى وإن كان وضعه الحالي قد جعله أشبه بـ”عزيز قوم ذل”، وبالكونتيسة التي هي أرستقراطية حقيقية – فهذان بوصفهما ممثلين مختلفي الوضع لنوع من أرستقراطية تتطلع إلى قيادة الثورة التغييرية، يأملان في ألا تأتي الثورة “من تحت” بأية حال من الأحوال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
“على المتنورين أن يقودوا الثورة غير تاركينها للغوغاء يتناهشونها”. فهل يمكننا أن نعتبر غوته في هذا التفسير، الذي لا يصعب على أي قارئ لمسرحيته هذه أن يصل إليه، مناصراً لفكرة أن تأتي “الثورة من فوق” لقطع الطريق على أن تأتي “من تحت” أم أنه ينتقد هنا هذه الفكرة؟ ليس من السهل الوصول إلى جواب قاطع هنا، حتى وإن كان الأقرب إلى المنطق أن الكاتب يسخر من تلك الفكرة، لكن من دون أن يعبر عن سخريته بما يكفي من القوة… ولعل في إمكاننا أن نطلق هذا الحكم نفسه على بقية مسرحياته المتعلقة بالثورة الفرنسية، والتي أشرنا إليها أعلاه.
البحث عن وجهة نظر
مهما يكن من الأمر هنا علينا ألا ننسى أبداً أن وولفغانغ غوته، ذلك المبدع الكبير والذي يحتفل به دائماً بأنه لا يزال الأكبر – والمفضل لدى الأوروبيين جميعاً من بين الكتاب الألمان، أسوة بفيكتور هوغو الفرنسي وويليام شكسبير الإنجليزي بالنسبة إلى وطنيهما – كان بارعاً في الكتابة الفلسفية وفي الشعر العقلاني وفي المسرح التراجيدي الكبير، بل حتى في كتابة الروايات الرومنطيقية، لكن حين تصل المسألة إلى المسرح الخفيف المعاصر، لا شك في أن موهبته تبدو أضأل وإمكاناته التعبيرية الكبيرة تكاد تختفي تحت وطأة لغة هزلية يبدو أنه لم يكن يحسنها.
ومن هنا، على رغم الأبعاد التي يمكن تحميلها لهذه المسرحية التي نتحدث عنها، وعلى رغم رسمه في صورة جيدة للتشابك بين الشخصيات والمواقف، من الواضح أن غوته (1749-1832) بدا عاجزاً عن إيصال فكرة واضحة عما كان يريد قوله. ومن هنا، سيبدو أن علينا الاتكال على العنوان وحده لكي نتوصل إلى قرار ما في شأن وجهة النظر التي يتعين علينا أن نتخذها إزاء موقف غوته المفترض من هذا الموضوع الذي يقدمه.
نقلاً عن : اندبندنت عربية