مع عودة الرئيس دونالد ترمب للبيت الأبيض بدأت أسهم شركات صناعة الدفاع الأميركية في التراجع بصورة حادة، بينما ارتفعت أسهم شركات صناعة الدفاع الأوروبية بسرعة، والسبب في ذلك لا يتعلق فقط بتجميد شحنات الأسلحة الأميركية لأوكرانيا ولكن أيضاً لأن الأسواق خلصت إلى أن الحكومات الأوروبية ستنفق مزيداً من الأموال لتحسين قدراتها الدفاعية، في وقت تتجه إدارة ترمب لخفض موازنة الـ “بنتاغون” مع تحرك مسار الرئيس الأميركي بعيداً من الحلفاء الغربيين والآسيويين، كما أصبحت الضمانات الأمنية التي تقدمها واشنطن والتي تدعم صادراتها من الأسلحة بلا قيمة، فكيف تحولت سياسة ترمب عن نهجها التقليدي في دعم المجمع الصناعي الأميركي؟ وإلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا النهج؟

سياسات أميركا أولاً

مع استمرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب في اتباع سياسات ترتكز على شعار “أميركا أولاً” الذي رفعه طوال حملاته الانتخابية، ويعتمد على منح الأولوية القصوى للمصالح الأميركية المباشرة، أصبح من الواضح أن دور الولايات المتحدة العالمي الذي التزمت به جميع الإدارات الرئاسية الأميركية الجمهورية والديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية كضامن لأمن أوروبا والحلفاء في شرق آسيا قد انتهى، وليس أدل على ذلك من تصريحات ترمب الأخيرة التي أثار فيها الشكوك حول الالتزامات الدفاعية الأميركية تجاه الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) واليابان، وسط تصاعد التوترات في أوروبا وآسيا، فضلاً عن قراره تجميد المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا بعد أيام فقط من مواجهته العلنية مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي داخل البيت الأبيض.

وعلى رغم أن المرة الوحيدة التي اُستخدم فيها مبدأ الدفاع الجماعي للـ “ناتو” كانت دفاعاً عن الولايات المتحدة عندما أصبحت هدفاً لهجمات إرهابية في الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 حين استعان الحلفاء بالمادة الخامسة من ميثاق الـ “ناتو” لينضموا إلى مكافحة الإرهاب ويبدأوا أولى عملياتهم في أفغانستان خارج المنطقة الأوروبية الأطلسية، لكن ترمب يشكك الآن في أن اليابان وفرنسا وغيرهما من الدول المتحالفة تقليدياً يمكن أن تتحرك لحماية أميركا، كما أعلن أنه لن يدافع عن أي دولة في الـ “ناتو” لا تدفع خمسة في المئة من إجمال الناتج المحلي.

تأثير فوري

ولكن ما لم يحسبه الرئيس ترمب هو أن تصريحاته تلك ووقف المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا لا تخلف آثاراً كبيرة على الحرب المستمرة منذ ثلاثة أعوام بين أوكرانيا وروسيا وحسب، بل تؤثر أيضاً في صناعة الدفاع الأميركية، إذ لم ترسل الولايات المتحدة بعد حوالى 15 في المئة من المساعدات العسكرية المخصصة لأوكرانيا ضمن مبادرة المساعدة الأمنية التي خصصها الكونغرس وتبلغ قيمتها 33.2 مليار دولار من الأسلحة والمعدات العسكرية الجديدة لكييف، والتي تأتي مباشرة من شركات صناعة السلاح الأميركية.

ولا يؤثر وقف مبادرة المساعدة الأمنية في الطلبات الحالية فقط، بل يؤثر أيضاً في خطط الإنتاج المستقبلية وقرارات الاستثمار للشركات الأميركية مثل “لوكهيد مارتن” و “إل 3 هاريس تكنولوجي” و “أر تي أكس” و”جنرال داينامكس”، وغيرها من الشركات الأخرى.

وعلى رغم أنه من غير المرجح أن تلغي الحكومة الأميركية شحنات الأسلحة التي لم يجر تسليمها لأوكرانيا لأنها ربما تقرر الاحتفاظ بهذه الأسلحة لنفسها من أجل تجديد مخزوناتها الخاصة، لكن ذلك من شأنه أن يقلل كمية العقود الجديدة المستقبلية المعروضة على شركات المجمع الصناعي العسكري الأميركي والتي تنتج من بين هذه الأسلحة طائرات مقاتلة من طراز “أف-16” وصواريخ “أتاكمس” بعيدة المدى وأنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة “هيمارس”، ونظام الصواريخ الموجهة المتعددة الإطلاق “غملرز”، وصواريخ اعتراضية للدفاع الجوي قصيرة المدى وذخائر “جو-أرض” ومدفعية.

مرآة السوق

وليس هذا وحسب، بل إن التخلي عن الحلفاء والتخلص من الضمانات الأمنية تنعكس بمردود سيئ على الصناعة الدفاعية تشهد به أسواق المال، إذ تراجعت أسهم شركات صناعة السلاح الأميركية بينما ارتفعت أسهم شركات السلاح الأوروبية بسرعة لأن الأسواق خلصت إلى أن الحكومات الأوروبية ستنفق كثيراً من موازناتها على الدفاع خلال الأشهر والأعوام المقبلة، وهو ما أعلنت عنه كثير من الدول الأوروبية. 

كما أدرك القادة الأوروبيون وفي كل أنحاء العالم أن المشادة الكلامية التي دارت بين ترمب مع نائبه جيه دي فانس وزيلينسكي تعني أن الضمانات الأمنية الأميركية، وهي السبب الرئيس وراء ميل البلدان إلى شراء الأسلحة الأميركية، لن تكون حجة مقنعة بعد الآن.

وتجلت التباينات في السوق لتعكس كالمرآة الحال الراهنة، إذ انخفضت أسهم أكبر ست شركات دفاعية أميركية بمعدل أربعة في المئة، ومنذ أواخر يناير (كانون الثاني) انخفض سعر سهم شركة “لوكهيد مارتن” من 500 دولار إلى أقل من 450 دولاراً، وفي المقابل ارتفعت أسهم أكبر شركات الدفاع الأوروبية وعلى رأسها شركة “راينميتال” الألمانية 40 في المئة، وفقاً لصحيفة “فايننشال تايمز”، لكن في الثالث من مارس (آذار) الجاري، وهو أول يوم تداول بعد اجتماع ترمب المتوتر مع زيلينسكي، وعقب قمة الدفاع اللاحقة لزعماء أوروبا في لندن، حققت أسهم شركات الدفاع الأوروبية قفزة أكبر حين قفزت أسهم شركتي “ليوناردو” الإيطالية و”تاليس” الفرنسية بأكثر من 17 في المئة، وارتفعت “راينميتال” الألمانية 15 في المئة، وارتفعت أسهم شركة “ساب” السويدية بنحو 12 في المئة.

الأمر الحاسم

والأمر الحاسم هنا هو أن السوق ليس أيديولوجية وإنما هي تقديرات للربح والخسارة بناء على قراءات دقيقة للمشهد المتصور في المستقبل، فقد راقبت الأسواق الإعلانات الصادرة عن واشنطن وخلصت على نحو غير مفاجئ إلى أن إدارة ترمب تريد خفض الموازنة الدفاعية للـ “بنتاغون” التي كان ترمب حريصاً خلال دورته الرئاسية الأولى على عدم المساس بها.

وعلى النقيض من ذلك تتعامل الدول الأوروبية بجدية مع تنمية حجم وعتاد قواتها المسلحة بدافعين مختلفين، الأول إرضاء ترمب والثاني خشية رفع غطاء الحماية الأميركية عن أوروبا عاجلاً أو لاحقاً، فعلى سبيل المثال أعلنت بريطانيا بسرعة أنها ستزيد موازنتها العسكرية إلى 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، كما أوضحت بولندا أنها في طريقها للوصول إلى خمسة في المئة هذا العام، وخلال القمة الأوروبية التي استضافها لندن لدعم زيلينسكي اتفق الزعماء على تقديم مزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا وإنشاء “تحالف الراغبين” للمساعدة في الدفاع عن البلاد أثناء حربها ضد روسيا.

ولأن الحكومات الأوروبية لم تعد تثق في أن الولايات المتحدة يمكن أن تدعمها بعد الآن فإنها ستبذل قصارى جهدها لشراء الأسلحة الأوروبية، نظراً إلى أنه عندما تشتري الحكومات الأجنبية أسلحة من الولايات المتحدة فإن حكومتها تضع شروطاً حول كيفية استخدام تلك الأسلحة، وفي ظل الصراع العسكري مع موسكو هذه الأيام سيتعين على المشترين الأوروبيين أن يأخذوا في عين الاعتبار خطر منع واشنطن استخدام الأسلحة المصنوعة في الولايات المتحدة ضد روسيا، وعلى هذا الأساس فليس من المستغرب أن تتوقع الأسواق شهوراً وأعواماً خصبة لصانعي الأسلحة الأوروبيين.

عواقب التغيير

ويبدو أن التغيير المفاجئ الذي طرأ على مسار ترمب وأبعده من الحلفاء الغربيين وأوكرانيا له عواقب غير مقصودة ولكنها جوهرية للغاية، إذ أصبحت الضمانات الأمنية التي استخدمتها واشنطن تاريخياً لإبرام معظم الصفقات بلا قيمة، إذ كانت كثير من البلدان، بما في ذلك عدد كبير منها في أوروبا، تشتري أسلحة أميركية على وجه التحديد لأنها تأتي مع ضمانات أمنية أميركية تكون في صميم الصفقة.

وعندما تشتري الدول الأسلحة فإنها تفكر في المعدات وبالتالي الشركة المصنعة ومن ثم الدولة، لأن هذه الأشياء مهمة مع المعدات التي تستخدمها لأعوام عدة تصل إلى 40 عاماً كما يقول الأمين العام لـ “جمعية صناعة الأمن والدفاع” السويدية روبرت ليميرغارد.

وبعبارة أخرى كان شراء الأسلحة الأميركية وسيلة لشراء صداقة الولايات المتحدة وحمايتها، فمثلاً اختارت فنلندا عام 2021 شراء مقاتلات أميركية الصنع من طراز “أف-35” لتحل محل أسطولها القديم من الطائرات المقاتلة، على رغم أن طائرات “غريبن” التي تنتجها شركة “ساب” من السويد، الدولة الصديقة والجارة لفنلندا، كانت أرخص سعراً بكثير وتتمتع بقدرات ممتازة، وعلى رغم أن طائرات “أف-35” تتمتع بقدرات لا جدال فيها لكن الصفقة الفنلندية التي بلغت قيمتها 9.4 مليار دولار تضمنت أيضاً ضمانات أمنية أميركية.

عدم الثقة في تحديث البرامج

ولكن مع ظهور سياسات ومواقف ترمب الآن حيال أوكرانيا والـ “ناتو” فلم يعد حتى المشترين الأكثر سخاء للأسلحة الأميركية قادرين على التأكد من أن أموالهم ستؤدي إلى حماية واشنطن، ويمثل هذا الشك مشكلة لأن الأسلحة الحديثة تحتاج إلى تحديثات مستمرة في برامجها، مما يعني أن المشترين لهذه المنتجات الباهظة الثمن يحتاجون إلى اليقين التام بأن الدولة البائعة ستظل متعاونة، وأن تحديثات البرامج ستكون متاحة على هذا النحو، ولهذا فإن أصغر الشكوك في أن ترمب قد يمنع الحكومات الصديقة من تحديثات البرامج لترساناتها العسكرية تكفي لجعل مثل هذه الحكومات تعيد النظر في عمليات شراء الأسلحة الأميركية.

وإضافة إلى ذلك فإن بريطانيا وأستراليا والشركات المشاركة في تحالف الغواصات “أوكوس” الذي حظي بإشادة كبيرة مع الولايات المتحدة، تواجه معضلة صعبة، إذ لا ينطوي المشروع فقط على بناء غواصات نووية متقدمة من “طراز فيرجينيا” ولكن أيضاً على تقاسم التكنولوجيا المتقدمة، وهذا من شأنه أن يجعل أستراليا التي خصصت نحو 230.6 مليار دولار للمشروع تعتمد على حليف قد يقرر معاقبتها بحجب التكنولوجيا الحاسمة، والأخطر من ذلك هو تلويح أميركا بتعديل “صفقة أوكوس” أو إلغائها وفق ما ألمح مرشح الرئيس ترمب لتولي منصب نائب وزير الدفاع، ألبريدج كولبي، والذي صرح أمام الكونغرس بأن أميركا تحتاج إلى هذه الغواصات الهجومية.

وفي ظل هذه التحولات يظل السؤال هو إلى من تبيع شركات الدفاع الأميركية أسلحتها إذا لم يعد أقرب أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاؤها راغبين أو مترددين في الشراء، وعلى رغم استمرار وجود بعض الأسواق مفتوحة لكن من المرجح أيضاً أن تراقب بعض هذه البلدان النهج الجديد للولايات المتحدة تجاه حلفائها بقلق، وحتى إن فعلت فمن المستبعد أن تزيد هذه البلدان مشتريات الأسلحة على مستوياتها المرتفعة، ولهذا فإن تآكل المجمع الصناعي الدفاعي الذي تخشى الولايات المتحدة حدوثه ولم يتوقعه ترمب، ربما يكون قد بدأ بالفعل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عائق إضافي

وما يزيد الأمر سوءاً أن ترمب وقع في الـ 10 والـ 11 من فبراير (شباط) الماضي أمرين تنفيذيين يفرضان اعتباراً من الـ 12 من مارس الجاري تعرفة جمركية بـ 25 في المئة على واردات أميركا من منتجات الصلب والألومنيوم من جميع البلدان، وإذا جرى تنفيذ هذين الأمرين فإن مؤسسة “بي سي جي” تتوقع أن يضيف ذلك 22.4 مليار دولار إلى كلفة منتجات الصلب والألومنيوم التي تستوردها الولايات المتحدة، وما يصل إلى 29 مليار دولار إضافية للمنتجات المشتقة، وهذا كله سيزيد أسعار المواد الحيوية لسلسلة توريد صناعة الدفاع في الولايات المتحدة، وقد تؤدي إلى ارتفاع كُلف بعض البرامج العسكرية وتسبب التأخير.

وعلى رغم أن تطبيق التعرفات الجمركية على الصلب والحديد والألومنيوم والنحاس هو جزء من إستراتيجية إدارة ترمب لإعادة العناصر الرئيسة لسلسلة توريد الصناعات الدفاعية للولايات المتحدة، وتعزيز خططها لإعادة مزيد من التصنيع للولايات المتحدة، لكن الخبراء يحذرون من أن صناعات السلاح الأميركية ستعاني إذا جرى فرض التعرفات الجمركية على المواد الحيوية والمعادن النادرة التي تدخل في الأنظمة العسكرية، إذ يشير مدير “مركز مفاهيم الدفاع والتكنولوجيا” في معهد هدسون، برايان كلارك، إلى أن التعريفات ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار على الجميع في وقت واحد، ومن المؤكد أن شركات صناعة السلاح ستشهد ارتفاعاً حاداً في كلفة الإنتاج وبالتالي ارتفاع سعر الأسلحة.

وفي مجال بناء السفن الذي يعتمد على كميات هائلة من الفولاذ لبناء حاملات الطائرات البحرية وغيرها من السفن، يتوقع الخبير في معهد “أميركان إنتربرايز” تود هاريسون أن ترتفع الكلفة أكثر وتطول التأخيرات، لأنه بمجرد ارتفاع أسعار الصلب الأجنبي سيرفع صناع الصلب الأميركيون أسعارهم استجابة إلى ذلك، وبسرعة كبيرة ستقفز أسعار جميع برامج بناء السفن بسبب الصلب وبصورة ملحوظة، إذ يمثل الصلب أكثر من نصف وزن حاملات الطائرات الضخمة والتي يمكن أن تتجاوز 100 ألف طن.

مخاوف الطيران

وفي الوقت نفسه تبحث صناعة الطيران في التأثيرات المحتملة للرسوم الجمركية إذ يعد الفولاذ والحديد والألومنيوم والنحاس ضرورة لبناء الطائرات، وبخاصة الألومنيوم خفيف الوزن الذي يكتسب قيمته في تصنيع الطائرات بسبب نسبة قوته إلى وزنه، ويُستخدم عادة في أسطح الطائرات ورقائق الهواء والهياكل الداخلية، كما يستخدم النحاس أيضاً في الأسلاك، وهو أمر مهم بصورة متزايدة مع تزايد حوسبة الطائرات.

ومن المرجح أن تتأثر صناعة الطائرات العسكرية والمدنية من التعرفات الجمركية بعد أن حققت صناعة الطيران والدفاع المحلية فائضاً تجارياً بنحو 114 مليار دولار عام 2024، وظلت قطاعاً رئيساً للتصدير لعقود من الزمن، ولهذا يبدو فرض تعرفات جمركية على العناصر المخصصة للجيش الأميركي من قبل حكومة الولايات المتحدة بمثابة ضريبة على نفسها ولا معنى لها، بحسب ما يقول خبراء الصناعات العسكرية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية