على مدار أربعة عقود ونيف، هي عمر الحرب الباردة بين حلفي “وارسو” و”الأطلسي”، ونحو ثلاثة عقود ونصف من سقوط الاتحاد السوفياتي، ظلت الولايات المتحدة الأميركية الرقم الصعب في حماية القارة الأوروبية أمنياً على صعيدين، التقليدي من جهة، والنووي بنوعيه التكتيكي والاستراتيجي من جهة أخرى.

لكن يبدو أن دوام الحال من المحال، وأن التغيرات الجيوسياسية على مقربة من نهاية العقد الثالث من القرن الـ21 تلقي بظلال مغايرة على مستقبل حلف الأطلسي (ناتو)، ما يعني أن أوروبا قد تجد ذاتها بمفردها في مواجهة روسيا الاتحادية اليوم، وربما الصين الشعبية في الغد.

أثار التهديد الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية بإلقاء ما يعتبره أنصار حلف الأطلسي، أي الأوروبيين بنوع خاص، إلى الذئاب الروسية، مخاوف في مختلف أنحاء أوروبا من أن المظلة النووية الأميركية التي حمت جزءاً كبيراً من القارة لعقود من الزمن قد تنهار قريباً.

على أنه وبعد فوز الرئيس ترمب الكبير، وإرهاصات التواصل مع روسيا، والتي تشي بأن زمناً جديداً من التفاهمات يمكن أن يسود، وفي ثناياه وحناياه نهاية الحرب الأوكرانية، وربما لا تهواه أوروبا، أدرك الأوروبيون بصورة أو بأخرى أن حلف الـ”ناتو” ربما في طريقه إلى التصدع، ما يعني إمكانية سحب واشنطن قواتها النووية التي شكلت مظلة لأوروبا طوال عقود.

 

هذا الاحتمال يثير قلق زعماء ألمانيا بشكل خاص، فمن ناحية على النقيض من المملكة المتحدة وفرنسا، لا تملك ألمانيا أسلحة نووية خاصة بها، فيما الأكثر إثارة هو أن معظم مواطني ألمانيا يحبون بقاء الأمور على ما هي، أي الاحتماء بالمظلة النووية الأميركية، حيث أظهر استطلاع رأي نشرته صحيفة “بيلد” اليومية أواخر فبراير (شباط) الماضي، أن ما يقرب من 60 في المئة من الألمان يرفضون فكرة امتلاك الأسلحة النووية.

غير أنه من دون رادع نووي، سوف تصبح ألمانيا عرضة لمخاطر المواجهة مع روسيا بوتين، أكثر من أي وقت مضى. وعلى رغم أن تقدير حجم التهديد الذي تشكله روسيا قد يكون صعباً في بلد عاش بأمان تحت الحماية الأميركية لمدة 75 عاماً، فإن تجاهل هذا التهديد سيكون بمثابة تهور، حيث لا يمكن استبعاد انتصار روسيا على أوكرانيا، والمخاوف التي قد تترتب على هذا الفوز لجهة بقية أوروبا.

ونظراً إلى تاريخ ترمب الطويل في التشكيك بالتزام واشنطن تجاه حلف شمال الأطلسي، ووضوح تهديداته الأخيرة (لن أحميكم)، فمن المتوقع أن يكون القادة الألمان مشغولين بصياغة بديل. فهل هي بالفعل نهايات زمن الحماية النووية الأميركية؟ وهل يتوجب على الأوروبيين أن يبدأوا في البحث عن مظلة نووية أخرى مغايرة تقيهم شر صواريخ بوتين النووية؟

مستقبل الردع النووي

يبدو التزام الولايات المتحدة بالردع النووي الموسع في أوروبا متجذراً في تعهد الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي بموجب المادة الخامسة، وهو ما تعززه الضمانات السياسية من جانب المسؤولين الأميركيين بأن الأسلحة النووية تظل عنصراً أساسياً في الردع، حيث يصف حلف شمال الأطلسي نفسه القوات النووية المتحالفة بأنها “الضمانة العليا” لأمن التحالف.

مع ذلك، فإن هذه الضمانات سياسية وليست ملزمة قانوناً. حتى الآن لم يتم اتخاذ أية قرارات في واشنطن لإعادة النظر إلى دورها في توفير الردع النووي الموسع لحلفاء الـ”ناتو”، بما في ذلك ألمانيا حيث تقوم بنشر عديد من جوانب التزام الولايات المتحدة تجاه أوروبا، مشيرين إلى أن أوروبا بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد من أجل دفاعها عن نفسها، وأن القوات الأميركية من المرجح أن تنسحب من القارة. لكنهم لم يشككوا في وجود الردع الأميركي الموسع وملاحقته، بما في ذلك مئات عدة من الأسلحة النووية الأميركية المتمركزة في أوروبا منذ الخمسينيات.

ولعل من المثير أنه في الأشهر التي سبقت الانتخابات الأميركية، دعا خبراء أميركيون من كلا جانبي الطيف السياسي إلى السعي نحو تحقيق الردع الموسع باعتباره ركيزة أساسية للموقف الاستراتيجي الأميركي. وحتى الخبراء الذي يدعون إلى إعطاء الأولوية للقوات الأميركية في الخارج دعوا إلى تعزيز الهيمنة النووية في أوروبا لردع الهجمات المتزايدة المحتملة في المسارح الأوروبية والآسيوية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم ذلك، أثارت الرسالة الاستراتيجية إلى الأوروبيين والمتمثلة في “تحويل الأعداء” مخاوف بين الدول الأوروبية من أن الالتزام السياسي الذي يدعم المظلة النووية الأميركية قد لا يكون موثوقاً به بعد الآن.

لقد نشأت مثل هذه المخاوف من تأكيد إدارة ترمب على الحد من التدخل العسكري الأميركي في الخارج، مما أثار حالاً من عدم اليقين في شأن الجدوى الطويلة الأجل لضمانات الأمن التي يقدمها حلف شمال الأطلسي. وفي حين تواصل الولايات المتحدة إعادة تأكيد التزامها بالردع النووي الموسع في التصريحات العامة، فإن الافتقار إلى الوضوح في ما يتصل بعزمها السياسي جعل أعضاء حلف شمال الأطلسي، وبخاصة أولئك في أوروبا، يشككون في المصداقية السياسية للردع في المستقبل.

على هذا فإن نوايا الولايات المتحدة في ما يتصل بسياسة الردع النووي الموسعة في أوروبا أصبحت أكثر غموضاً. والسؤال الحاسم هنا هو ما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تستمر في الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالأمن النووي في ظل كافة الظروف، أو ما إذا كانت الديناميكيات السياسية المتطورة قد تؤدي إلى دور أكثر محدودية للولايات المتحدة في المستقبل.

هل تشكل القوات النووية الفرنسية والبريطانية مظلة بديلة للأميركية؟ وهل كان شارل ديغول رئيساً بعيد النظر بالفعل؟

 ديغول و”القوة الضاربة”

هل امتلك الرئيس الفرنسي مؤسس الجمهورية الخامسة شارل ديغول، عيني زرقاء اليمامة قبل قرابة سبعة عقود وتنبأ بما يمكن أن تمضي إليه إشكالية حيازة الولايات المتحدة الأميركية للأسلحة النووية، ومن غير أن تكون لفرنسا يدها الطولى المماثلة في هذا المجال؟

الثابت تاريخياً أن ديغول لم يكن يثق في قدرة واشنطن على الوفاء بضماناتها الأمنية. فقد كان يرى أن الردع الموسع مجرد خدعة، ولكي تكون باريس آمنة حقاً لم يكن أمامها خيار سوى اكتساب قدرة نووية خاصة بها. وكما قال عام 1963 “تظل الأسلحة النووية الأميركية الضمانة الأساسية للسلام العالمي. ولكن يظل من الواضح أن القوة النووية الأميركية لا تستجيب بالضرورة على الفور لكل الاحتمالات التي قد تطرأ على أوروبا وفرنسا. وعلى هذا فقد قررنا أن نجهز أنفسنا بقوة ذرية فريدة من نوعها”. وقد أطلق الفرنسيون على هذه القوة اسم “القوة الضاربة”.

 

على مدى أجيال سخر أغلب المحللين غير الفرنسيين من هذا المنطق، واعتبروا أنه يعكس كبرياء أو جنوناً فرنسياً مفرطاً، وليس منطقاً استراتيجياً رصيناً. غير أن توجهات الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال ولايته الأولى، ومطالبه برفع سقف مشاركات دول الـ”ناتو” إلى نسبة 2 في المئة من دخلها القومي، ثم عودته ثانية بعد فوزه بولاية أخرى إلى المطالبة بنسبة 5 في المئة، عطفاً على ما يجري في اتجاه عهد جديد مع روسيا، ربما لهذا كله ينظر الجميع الآن إلى رؤية شارل ديغول قبل سبعة عقود على أنها كانت صائبة وغير متعجلة.

هنا يطفو على السطح تساؤل جوهري “هل ستكون فرنسا هي حجر الزاوية في المظلة النووية الفرنسية عوضاً عن نظيرتها الأميركية، لا سيما أن الرئيس الفرنسي ماكرون هو أول من طالب بقوة عسكرية أوروبية ربما لا تكون بديلاً بالمطلق للـ”ناتو”، لكن يمكنها في الأقل أن تكون درعاً وسيفاً بالنسبة إلى الأوروبيين حال تخلي الأميركيين عنهم؟

حوارات أوروبا النووية

هل اليوم شبيه بالأمس؟ قبل 64 عاماً، وبينما كان العالم يسيطر عليه الخوف من المواجهة النووية بين القوى العظمى، قيل إن الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديغول طرح سؤالاً على نظيره الأميركي جون كيندي خلال زيارة لباريس “هل كان رئيس الولايات المتحدة على استعداد للتضحية بنيويورك لإنقاذ باريس؟”. من الواضح أن كيندي لم يجب بشكل مباشر على هذا السؤال، وقال إن ما يهم هو أن يصدق الروس ذلك؟

الآن، وبحلول عام 2025، يظل السؤال نفسه مطروحاً في قلب الدفاع النووي الجماعي. فقد دعا الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الدول الأوروبية الأخرى وكل من يعيش في عواصمها إلى طرح سؤال مماثل عليه.

في خطاب ألقاه خلال وقت الذروة مساء الأربعاء الخامس من مارس (آذار) الجاري، تناول ماكرون أبعاد الأزمة الأوكرانية الأخيرة، والعلاقات الأميركية– الأوكرانية المتوترة للغاية، مشيراً إلى أنه سيفتح محادثات مع الحلفاء الأوروبيين حول ما إذا كان من الممكن تمديد مظلة الترسانة النووية الفرنسية لتشملهم أيضاً، وذلك في ظل التهديد المتزايد الذي تشكله روسيا بقيادة فلاديمير بوتين لأمن القارة. وقال ماكرون “أود أن أصدق أن الولايات المتحدة ستبقى إلى جانبنا، لكن يتعين علينا أن نكون مستعدين إذا لم يكن الأمر كذلك”.

 

على النقيض من بريطانيا التي يتم تسليم رؤوسها النووية عبر الصواريخ الأميركية، والتي ترتبط أنظمتها القيادية والتحكمية ببعضها بعضاً. ذكّر ماكرون مواطنيه بأن النظام النووي الفرنسي منفصل تماماً. مضيفاً أن “القوة النووية الفرنسية الضاربة ذات سيادة كاملة، وفرنسية بالكامل، مع ذلك، واستجابة للدعوة التاريخية من المستشار الألماني القادم فريدريس ميرز، قررت فتح النقاش الاستراتيجي حول حماية حلفائنا في القارة الأوروبية من خلال ردعنا”.

فماذا عن المقاربات النووية الآنية بين أوروبا وأميركا وروسيا؟

وفقاً لاتحاد العلماء الأميركيين، وفي آخر أرقام منشورة لديهم عام 2024، فإن روسيا الاتحادية تمتلك نحو 5500 رأس نووية، بينما لدى الولايات المتحدة الأميركية 5000 رأس نووي. وتأتي فرنسا في مرتبة تالية بكثير، ذلك أنها تمتلك نحو 290 رأساً نووياً، وبريطانيا 225 رأساً نووياً، وهما بذلك تحتلان المركزين الرابع والخامس على التوالي من حيث أكبر ترسانات الأسلحة النووية في العالم.

لكن الخبراء الذين درسوا سياسات الردع النووي يقولون إن الأمر لا يتعلق بالضرورة بعدد الرؤوس النووية الحربية التي تمتلكها كل دولة، بل هو موصول بما إذا كان خصمك يعتقد أنك سوف تستخدمها إذا وصل سلم التصعيد إلى القمة، أو بلغ حافة المواجهة النووية بالفعل.

في هذا الصدد يقول ديفيد بلاغين، أستاذ الأمن الدولي والاستراتيجية في جامعة “إكستر” في إنجلترا “السؤال الآن هو هل يمكن أن يخاطر رئيس وزراء بريطاني بباريس أو لندن من أجل تأمين تالين في إستونيا على سبيل المثال؟ هذا هو التحدي الحقيقي؟”.

يعتبر بلاغدين أنه بالمقارنة بين فرنسا والمملكة المتحدة، القوتين النوويتين في أوروبا، فإن فرنسا في وضع أفضل لتزويد القارة بما سماه ماكرون “المظلة النووية”، فلديها مزيد من الطرق لنشر مثل هذه الأسلحة، بالتالي مزيد من الوسائل لممارسة الردع. على سبيل المثال، يمكنها أن تجهز بعض طائراتها المقاتلة بصواريخ نووية، ويمكن بعد ذلك نشرها في بلدان أخرى لإرسال رسالة محددة وربما لردع أي عمل روسي محتمل.

واقعية دفاع فرنسا نووياً

على أن السؤال الحيوي والاستراتيجي الذي بات يشغل عقل الأوروبيين هو: هل فرنسا في وضع يسمح لها بتولي الدفاع النووي في أوروبا؟ وهل يمكنها أن تردع بالفعل العدوان من جانب زعماء مثل بوتين؟

يتوجب هنا الإشارة بداية إلى أن فرنسا هي واحدة من القوتين النوويتين في أوروبا، إلى جانب بريطانيا التي لم تعد جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وتعتمد على المدخلات الأميركية للحفاظ على ترسانتها النووية. ويبدو الردع الفرنسي مصمماً بشكل صارم على أنه دفاعي، ومصمماً أيضاً لحماية “المصالح الحيوية” للبلاد. كما أن الطبيعة الغامضة المتعمدة لهذه المصالح منحت فرنسا تقليدياً مجالاً أكبر للمناورة مقارنة ببريطانيا التي تم تخصيص قدراتها النووية صراحة للدفاع عن حلف شمال الأطلسي.

والمعروف أنه منذ خطابه الرئيسي عام 2020، قال ماركون إن “المصالح الحيوية” لفرنسا لها “بعد أوروبي”، وهي التعليقات التي كررها في الأيام الأخيرة. وقد أدلى أسلافه بتصريحات مماثلة في الماضي، حيث أشاد الرئيس السابق فرانسوا ميتران ذات مرة بالحاجة إلى “عقيدة أوروبية” في شأن الردع النووي.

في هذا الصدد يقول آلان دي نيف، الباحث في المعهد الملكي العالمي للدفاع في بروكسيل إن “الحفاظ على قدر معين من الغموض في شأن المصالح الحيوية لفرنسا هو جوهر الغموض الاستراتيجي الذي يدعم الردع النووي”. مضيفاً أن الفكرة “هي إبقاء المعارضين في الظلام حيال نطاق المظلة النووية الفرنسية”.

 

يتضمن الردع النووي الحفاظ على الغموض في شأن الظروف التي قد تؤدي إلى استخدام الأسلحة النووية، وذلك لمنع المعتدي المحتمل من حساب المخاطر. في هذه الحال، فإن هذا يعني إيجاد توازن بين إعطاء مضمون للمطالبات الفرنسية في شأن مصلحة راسخة في الدفاع عن أوروبا، وتجنب التفاصيل حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه باريس للدفاع عن القارة.

لكن هل الغموض الفرنسي النووي خلاق في جميع الأحوال؟ تجيب إيمانوئيل ميتر، الباحثة البارزة في مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية الفرنسية بأن “فرنسا تحب تذكير الناس بقدراتها حتى تكون ذات مصداقية في ردعها، لكن هناك أيضاً عنصراً من الغموض، لأن الأمر لا يتعلق بإخبار خصمنا بالضبط ما هي خطوطنا الحمراء، لا توجد قوة نووية تفعل هذا”.

من جانب آخر، يحاجج بعض المفكرين الاستراتيجيين مثل بافيل بودفيج، وهو محلل مستقل في جنيف يدير موقع “القوات النووية الروسية” الذي يتابع القضايا المتعلقة بالأسلحة النووية بأن “هذه فكرة مضللة”. فهل يعني بذلك أن فرنسا غير قادرة على بسط مظلتها النووية لحماية عموم أوروبا؟

يقول لودفيج إن الردع النووي مفهوم مشكوك فيه على وجه التحديد، لأنه يعتقد أن من غير المرجح أن تضحي دولة واحدة بمدنها لمحاولة إنقاذ المدن في دولة أخرى. ويزعم بودفيج أن ما حافظ على السلام بين السوفيات والأميركيين طوال عقود متوترة عديدة لم يكن التهديد بالحرب النووية، بل كان “نظام المعايير والتفاهمات والاتفاقيات بين الدول”.

هنا وبالفعل يتفق المؤرخون على أن عدم ثقة ديغول في الولايات المتحدة هو الذي أدى إلى تطوير فرنسا ترسانة نووية “سيادية”، وفي أعقاب خطاب ماكرون أول مارس سارع الساسة الفرنسيون من مختلف ألوان الطيف السياسي إلى الإصرار على أنه مهما تطور الأمر فسيظل رئيس فرنسا هو الذي يضع أصبعه على الزر.

فهل يلقى هذا التوجه الفرنسي إجماعاً أوروبياً، على رغم أي قصور يمكن أن يوجه لفكرة المظلة النووية الأوروبية بقيادة فرنسية؟ يبدو أن ذلك كذلك، إذ يؤيد فريدريش ميرز المستشار الألماني المنتخب حديثاً، هذه المناقشة، وهو ما فعله أيضاً زعماء دول البلطيق والدنمارك وبولندا والسويد. ولعل التفكير الفرنسي في هذا الاتجاه أزعج الروس بالفعل، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية سيرغي لافروف بالقول إن “خطاب ماكرون النووي يشكل تهديداً”.

أما فرنسا فيبدو أنها تجاوزت مرحلة التفكير في الأمر إلى حدود صدور بيان من وزارة الخارجية الفرنسية جاء فيه “لقد انكشفت طموحات باريس في أن تصبح الراعي النووي لأوروبا بأكملها. ولن يؤدي هذا إلى تعزيز أمن فرنسا فقط، بل أمن بقية حلفائها”.

على أنه ووسط هذا النقاش المثير يظل التساؤل يطل برأسه من نافذة الأحداث “هل يمكن أن نرى ألمانيا نووية من جديد؟ وهل آن أوان تجاوزها للحدود والقيود المفروضة عليها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية؟ ثم ويبدو أن هذا هو الأهم: هل هناك من يخشى من صحوة عسكرية ألمانية جديدة عما قريب، لا سيما إذا انسحبت القوات الأميركية التي يبلغ قوامها نحو 35 ألف جندي من القواعد العسكرية الأميركية فوق الأراضي الألمانية، ناهيك عن سحب الأسلحة النووية؟

ألمانيا وزمن ما بعد القيود

في الثامن من مايو (أيار) عام 1945، دخل الاستسلام الألماني غير المشروط حيز التنفيذ، ومنذ ذلك الوقت بدا أن هناك قيوداً وحدوداً على ملامح التسليح الألماني التقليدية. عانت ألمانيا منذ ذلك الحين من شروط الحلفاء المجحفة طوال عشر سنوات، وذلك قبل أن يسمح لها بتأسيس جيش حديث في الخامس من مايو عام 1955. مع ذلك فرضت حدود بعينها على عدد أفراده ونوعية تسليحه، ذلك أنه بعد أن كان عدد جنوده خلال الحرب العالمية الثانية يتجاوز النصف مليون جندي، إضافة إلى قوات احتياط أخرى تبلغ نصف مليون، وجد الألمان أنفسهم أمام اشتراطات اتفاقية (2+4) الموقعة مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وفيها ألا يزيد عدد الجيش الألماني على 285 ألف فرد.

طويلاً اطمأنت ألمانيا للحماية النووية والتقليدية الأميركية، لا سيما خلال عقود الحرب الباردة، غير أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، دفعت المستشار الألماني المنتهية ولايته أولاف شولتز، لتغيير طريقة تفكير ألمانيا وربما تجاوز ما تم فرضه على بلاده قبل نحو ثمانية عقود.

في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، تعهدت وزيرة الدفاع الألمانية هايكو ماس، بتعزيز جيش ألمانيا، لا بهدف الدفاع عن بلادها فقط، بل – بحسب تعبيرها – ليضحى العمود الفقري للردع والدفاع الجماعي في أوروبا، في الوقت الذي أصدرت فيه برلين إرشادات جديدة للسياسة الدفاعية للمرة الأولى منذ أكثر من عقد.

 

في هذا التوقيت بدأت مرحلة جديدة من إعادة العسكرة في الداخل الألماني، وكخطوة أولى لإعادة الجيش الألماني إلى مرحلة متقدمة أنشأت برلين صندوقاً خاصاً قيمته 100 مليار يورو (109.22 مليار دولار) لشراء الأسلحة الحديثة، وتعهدت بالوصول إلى هدف حلف شمال الأطلسي بإنفاق ما لا يقل عن 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني على الدفاع.

ينظر الألمان الآن إلى أنفسهم بوصفهم الدولة الأكثر سكاناً في عموم أوروبا، والأقوى اقتصادياً في قلب القارة العجوز، وعليه يتعين أن تكون العمود الفقري للردع والدفاع الجماعي في أوروبا.

خلال الفترة التي استمرت نحو ثلاثة عقود، أي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، والتي عرفت باسم “عائد السلام”، انخفضت القدرات العسكرية الألمانية بشكل كبير إلى الحد الذي جعل الجيش الألماني “يقف عارياً إلى حد ما”.

ووفقاً لمفتش الجيش الألماني ألفونس مايس، في فبراير (شباط) 2022، أي عندما بدأت روسيا حربها على أوكرانيا، كانت المدخرات الألمانية الناتجة من خفض التسليح بعد انتفاء الخوف من هجوم الاتحاد السوفياتي على أوروبا الغربية، قد وصل إلى أرقام تتراوح بين 400 و600 مليار يورو.

من هنا بدا واضحاً أن الألمان قد بدأوا في التفكير جدياً في العودة إلى بلورة إجراءات حاسمة لإعادة التسليح وبكفاءة عالية. غير أن هذا كان يعني لأوروبا عودة الصناعات العسكرية الألمانية، ربما إلى سابق عصرها قبل هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.

هذا التوجه ربما كان يخيف بقية أوروبا، غير أن استراتيجيات الرئيس ترمب لعموم القارة الأوروبية ربما تجعل من فكرة تكامل الصناعات الألمانية العسكرية مع نظيرتها في فرنسا والمملكة المتحدة وبقية دول القارة رصيداً مضافاً، لا خصماً من القدرات العسكرية الأوروبية، وربما بمعنى أدق تقليص الهواجس التاريخية من ألمانيا على رغم صعود التيار اليميني هناك بعد فوز حزب البديل من أجل ألمانيا بنحو 20 في المئة من الأصوات، ومحاولة تعويض الخلل الذي يمكن أن ينشأ حال تنفيذ ترمب تهديداته بإلقاء أوروبا فريسة للذئاب الروسية.

على أنه وإن كانت الاستراتيجية العسكرية الألمانية، العائدة حتماً وبقوة، تجد ترحيباً أوروبياً بدرجة أو بأخرى، فهل يعني ذلك أنه يمكن السماح لألمانيا بأن تمتلك عند لحظة تاريخية بعينها سلاحاً نووياً أم أن هذا خط أحمر لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال؟

قوة مدنية أم نووية؟

أشرنا سلفاً إلى أن غالبية الألمان حتى الساعة يفضلون أن تكون بلادهم خالية من صناعات الأسلحة النووية، مع الاعتماد بشكل مطلق على القدرات النووية الأميركية لحماية البلاد. غير أن هذا التوجه من المؤكد أنه سوف يتوارى عما قريب، وبخاصة مع صحوة التيار الشعبوي الألماني، الذي يرفض حال الخنوع التي طالت لعقود بعد الهزيمة أمام دول الحلفاء.

اليوم هناك نزعة صقور جديدة تهيمن على الخطاب الإعلامي الألماني. فبفضل عشرات من المفكرين والسياسيين المتشددين بات يُنظر إلى ضبط النفس بكل أشكاله، بما في ذلك القيود الواضحة لعلاقة الردع المتبادل مع روسيا، باعتباره ضعفاً وعلامة على الخوف من روسيا. والردع الذاتي هو التهمة الرئيسة الموجهة إلى شولتز لرفض كل اعتبار لمسار التصعيد المحتمل في مواجهة روسيا.

وعلى رغم استطلاع الرأي السابق، فإن هناك استطلاعات أخرى، مثل ذلك الذي أجرته مؤسسة Infratest-dimp الألمانية، تقول إن كثيراً من الألمان باتوا ينظرون إلى الأسلحة النووية بشكل أقل سلبية بكثير مما كانوا يرونه من قبل.

لكن هل يمكن لألمانيا أن تدخل دائرة إنتاج الأسلحة النووية عما قريب؟ من الناحية النظرية يمكن أن تنتج أسلحة نووية بالفعل لتوافر أمرين مؤكدين: الأول هو الإمكانات العلمية التي تحوزها، ما يعني أن لديها من العلماء ما تحتاجه للحصول على مثل هذا السلاح متى شاءت، والثاني هو قدرتها على تحويل مفاعلاتها النووية السلمية إلى أداة للحصول على اليورانيوم المخصب اللازم بأسرع وقت. وعطفاً على هذا وذاك فإن لديها مخططات لتغيير مسارات مصانعها المدنية وجعلها مصانع عسكرية في توقيت سريع جداً لا يتجاوز ستة أشهر.

لكن من الناحية العملية، يمكن أن يكون قرار إنتاج أسلحة نووية أمراً مرفوضاً من بقية أطراف أوروبا النووية لا سيما فرنسا والمملكة المتحدة، حيث الخوف من تحول ألمانيا مرة جديدة إلى سيرتها النازية السابقة، ناهيك عن رفض الروس حكماً لمثل هذا التوجه الكفيل بإشعال حرب عالمية بالفعل.

هل من خلاصة؟

أوروبا بعمومها تمر بلحظات أنتروبية مثيرة ومخيفة تنذر بتطورات استراتيجية لا سيما مع التقارب الروسي – الأميركي، فانظر ماذا ترى.

نقلاً عن : اندبندنت عربية