لم يكن الرسام الهولندي رمبراندت مستشرقاً لا في رسومه ولا سلوكه بالحياة، وهذا الجانب الأخير نركز عليه هنا، بالنظر إلى أن القسم الأعظم من الذين يحسبون عادة من المبدعين المستشرقين غلب عليهم الخلط استشراقياً بين ممارساتهم الفنية وتلك الحياتية. ورمبراندت لم يكن من بينهم، بل هو لم يؤثر عنه أنه قد زار أي منطقة من مناطق الشرق سواء كان شرقاً أدنى أو أوسط أو أقصى.

كما أنه لم ير في شمال أفريقيا ولو بصورة عابرة. ومع ذلك ثمة جانب من عمله يمكن اعتباره استشراقياً وبعضه “أفريقياً” بصورة مباشرة. ولا ريب أننا نشير هنا تحديداً إلى لوحة له بالكاد يدرك الناظر إليها أنها من رسمه، وهي لوحة “أفريقيان” التي لم تكتشف باكراً على أي حال، بل إنها حين اكتشفت في وقت متأخر ثار جدل طويل حول ما إذا كانت أو لم تكن من رسم رمبراندت، وهو ما سنعود إليه بعد سطور.

 أما هنا فلا بأس من أن نعود إلى الجانب “الاستشراقي” من فن هذا المبدع المؤسس الذي سيدهشنا ذلك المزاج الاستشراقي غير المتوقع الذي قد لا يفوتنا أن نلاحظ وجوده حتى في بعض بورتريهاته الذاتية، هو الذي يحسب عادة من بين كبار رسامي الذات في تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، إلى جانب فينسنت فان غوخ وبابلو بيكاسو وماكس بيكان.

الذات من خلال الشرق

إذاً، حتى خارج إطار اللوحة التي نتناولها هنا، ثمة ملمحان أساسيان في فن رمبراندت يعطيان فكرة محيرة عن ذلك البعد الذي نتحدث عنه. أولهما يمكن إرجاعه بصورة عامة إلى الرسوم الدينية التي نجد منها كثيراً في لوحات معظم فناني ذلك النوع سواء علقت لوحاتهم في المعابد أو القصور أو في مؤسسات شعبية دينية.

فالواقع أن القسم الأكبر من تلك اللوحات ولدى العدد الأكبر من الفنانين من قبل رمبراندت ومن بعده، مجبرة على أن تتسم بالتشكيل الاستشراقي أو الذي يكاد يكون استشراقياً، وذلك لأنه من الطبيعي لتلك اللوحات سواء تناولت العهد القديم أو العهد الجديد، أن تحمل مشاهد يدور معظمها في فلسطين التاريخية، ما يفرض أن تلك الملابس والديكورات بل حتى ملامح الوجوه، شرقية خالصة حتى وإن عمد كثر من الرسامين إلى جعل السيد المسيح في بعض الأحيان غربي الملامح وما إلى ذلك.

 كما عمد بعض آخر منهم إلى تصوير المشاهد الفلسطينية في بيئة إيطالية كما فعل فيرونيزي في لوحته الكبرى “عرس قانا الجليل”، أو بروغل في معظم لوحاته الدينية، لا سيما “إحصاء بيت لحم” على سبيل المثال لا الحصر.

ولما كان من المستحيل أن يكون كل أولئك الرسامين، لا سيما في المراحل الأولى من عصر النهضة، قد زاروا الشرق حقاً واستلهموه عياناً، كان من الطبيعي لهم أن يتخيلوه أو أن ينقلوا عن بعضهم بعضاً. ومن البديهي أن ينطبق هذا على رمبراندت نفسه من دون أن يقلل من قيمته الفنية.

حيرة مضاعفة

كل هذا سيبدو حتى الآن من الأمور الطبيعية، لكن المشكلة ستبدأ مع 30 تخطيطاً لا تحمل فقط أسلوب رمبراندت وخطوطه المعهودة في عشرات الرسوم التمهيدية أو الدراسية التي أنجزها خلال مسيرته الفنية وتعد عادة من أعظم ما أبدع فنان في هذا المجال، بل إنها تتسم بقدر كبير من الروح الاستشراقية المباشرة.

صحيح أن تلك التخطيطات التي بدورها اكتشفت في زمن لاحق، معروفة بالنسبة إلى مصادرها بالنظر إلى أنه قد عثر في الجردة التي تلت رحيل رمبراندت على عدد لا بأس به من منمنمات مغولية ملونة وبالأسود والأبيض بدا واضحاً أن رمبراندت قد استلهمها في تحقيق تلك التخطيطات. وهنا، وللوهلة الأولى خيل للباحثين أن الفنان كان يتمرن بصورة ما.

 

غير أن الأكثر إلحاحاً من بين أولئك الخبراء قالوا بعد مناقشات وتأملات، إن القياسات المنتظمة لرسوم الفنان الهولندي وتتابع مواضيعها إنما تشي بأنه ربما كان من خلال تحقيق تلك الرسوم، بصدد مشروع فني معين من المثير أن أحداً لم يعثر إثر له، أو أية إشارة إليه لا بخط الفنان ولا لدى أي واحد ممن كتبوا عنه.

 إذاً سيبقى الأمر لغزاً يماثل لغز اللوحة “أفريقيان” التي افتتحنا المقال بذكرها، ولكن كذلك لغز بعض بورتريهات رمبراندت الذاتية، لا سيما تلك التي تلا إنجازها تحقيقه التخطيطات المنغولية في مرحلة متأخرة جداً من حياته.

وصية فكرية معينة

والحال أن الفنان الهولندي رمبراندت انتظر السنوات الأخيرة من حياته واكتمال اهتماماته بأساليبه التشكيلية التي قامت أساساً على ابتكارات المدهش في “ألعاب الظل والضوء” قبل أن ينصرف وبعد مرحلتين الأساسيتين، إلى مرحلة اللوحات الدينية ومرحلة الرسم الواقعي المتضمن تلك المرحلة التاريخية، فقد انتظر كل ذلك قبل أن يهتم بما سيبدو وإن بصورة غامضة أنه وصايا فنية إنما سياسية في عمله معبراً عن ذلك باهتمام كان غير متوقع لديه بالبعد الفكري الذي قد نسميه اليوم أيديولوجيا.

ويمكننا أن نرى هنا غرابة هذا الأمر وتحديداً من خلال ثلاثة أبعاد تتعلق في ما يعنينا هنا بالمواضيع الاستشراقية من ناحية والتركيز من ناحية ثالثة بسلسلة الرسوم المغولية، ثم وفي البعد الثلث بنوع من دمج يبدو لنا واضحاً أكثر بين بورتريهاته الذاتية والبيئة الشرقية.

 والمرء لا يحتاج في الحقيقة إلى الإمعان في التفكير والتحليل بأكثر مما ينبغي قبل أن يكتشف أن عليه أن يطرح تلك الأسئلة الشائعة والمحيرة. وما طرحها سوى إشارة إلى حقيقة متفق عليها تتعلق بخلو حياة الرسام نفسه وفي الحقيقة معظم مجايليه من أبناء بيئته من تلك الاهتمامات السياسية أو حتى الفكرية التي طغت على رسامين كبار مجايلين له ينتمون إلى بيئات أخرى تقع إلى الجنوب أكثر منه في جوار البحر الأبيض المتوسط وأقرب إلى الشرق في كل أبعاده.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رمبراندت والنقاد

يذكر أن رمبراندت فان راين (1606-1669) كان رساماً هولندياً بارزاً خلال العصر الذهبي الهولندي، ويعد من أعظم الفنانين في تاريخ الفن الغربي. تميزت أعماله بالقدرة على تجسيد المشاعر والتفاصيل الدقيقة، لا سيما من خلال استخدامه الفريد للضوء والظل في ما يعرف بتقنية “الشياروسكورو”.

ركز رمبراندت في لوحاته على مواضيع متنوعة، مثل البورتريهات الشخصية، والمشاهد الدينية، والمناظر التاريخية، مما يعكس اهتمامه بالجوانب الإنسانية والنفسية. من أشهر أعماله “دورية الليل” و”درس التشريح للدكتور تولب”، إذ أظهر قدرته الفائقة على تمثيل الشخصيات بتعابير واقعية.

عاش رمبراندت حياة متقلبة، حقق فيها شهرة وثراء في شبابه، لكنه عانى الإفلاس في سنواته الأخيرة. على رغم ذلك، ترك إرثاً فنياً عظيماً أثر في أجيال من الفنانين، وتظل لوحاته مصدر إلهام حتى اليوم بفضل عمقها التعبيري وبراعتها التقنية.

خلال حياة رمبراندت، انقسمت آراء النقاد والجمهور حول أعماله. في بداية مسيرته، حظي بإعجاب واسع نظراً إلى براعته في تصوير الشخصيات واستخدامه المبتكر للضوء والظل. نال شهرة كبيرة بفضل البورتريهات الفردية والجماعية التي كان يرسمها لنخبة المجتمع الهولندي، مثل “درس التشريح للدكتور تولب”.

وفي منتصف حياته، بدأت أعماله تواجه انتقادات بسبب توجهه نحو الأسلوب الأكثر ذاتية وتجريبية. واعتبر بعض النقاد آنذاك أن استخدامه للفرشاة أصبح “عشوائياً”، وأن لوحاته بدت غير مكتملة مقارنة بالأعمال التقليدية التي كانت تقدر الدقة والصقل.

 كما أثرت أزماته المالية وشخصيته المستقلة في سمعته، فتراجع الطلب على أعماله. في المقابل ينظر النقاد اليوم إلى رمبراندت كأحد أعظم الفنانين في تاريخ الفن. يشيدون بقدرته على التعبير العاطفي وبراعته في تحليل النفس البشرية، مؤكدين أن أسلوبه التجريبي كان متقدماً على زمنه. وتعد لوحاته اليوم كنوزاً فنية، وتحظى بدراسة عميقة بسبب تقنياتها المتميزة التي ألهمت عديداً من الفنانين عبر العصور.

نقلاً عن : اندبندنت عربية