لا يزال اسم نجيب محفوظ أحد الأركان الثابتة في صرح الأدب العربي الحديث، ليس فقط بفضل تتويجه بجائزة نوبل، بل لأنه أسّس لرواية عربية ذات طابع فلسفي وواقعي واجتماعي، استطاعت أن تعبّر عن تحولات المجتمع المصري والعربي بعمق ورصانة.
ورغم شهرة محفوظ ككاتب جاد، عميق التأمل، فإن جانبًا مهمًا من إبداعه كثيرًا ما يُغفل، وهو الفكاهة. نعم، تلك اللمحات الساخرة التي تلوح في ثنايا السرد، وتمنح النص حياة إضافية، كانت جزءًا لا يتجزأ من أدواته الفنية والفكرية.
هذا الجانب تتبعه الباحث والكاتب الصحفي مصطفى بيومي في كتابه «الفكاهة عند نجيب محفوظ»، والذي يقدّم من خلاله قراءة تحليلية جديدة لأعمال الأديب الراحل، كاشفًا عن طبقات من السخرية والتعليق اللاذع على الواقع، ربما آن أوان اكتشافها من جديد… لكن هذه المرة بابتسامة مصاحبة.
الفكاهة كأداة سردية لا ترف لغوي
يرى بيومي أن محفوظ لم يكن يهدف إلى إضحاك القارئ بشكل مباشر، بل استخدم الفكاهة كأداة سردية عميقة، تنبع من الحدث والموقف واللغة، وتُسهم في تشكيل رؤية نقدية للمجتمع والسياسة والدين. ويؤكد أن هذه السخرية لم تكن هامشية أو زائدة، بل كانت ضرورة فنية وفكرية تتجلى في شخصياته وسياقاته المختلفة.
عشرة فصول تضيء جوانب الظل
ينقسم الكتاب إلى مقدمة وعشرة فصول، تتناول الفكاهة في أعمال محفوظ من زوايا متنوعة، منها:
- السخرية من السلطة والسياسة
- التهكم من مظاهر التدين الشكلي
- الحياة اليومية للموظفين
- الإدمان والكحول
- الشتائم واللغة الشعبية
- الطفولة والغناء والموسيقى
- حتى الموت لم يسلم من الكوميديا السوداء
الكوميديا السوداء… الضحك من عمق المأساة
يشير الكتاب إلى أن محفوظ أتقن توظيف الكوميديا السوداء، أي خلق الضحك من قلب التراجيديا، ومن أبرز الأمثلة على ذلك رواية «ثرثرة فوق النيل»، حيث تتحول عوامة المثقفين إلى مسرح ساخر للانهيار الذاتي قبل هزيمة 1967. ومن خلال شخصية كمال عبد الجواد في «الثلاثية»، يرصد محفوظ التحولات النفسية والوجودية لشخصية مثقفة تتأرجح بين التمرد والخذلان، في انعكاس حاد للواقع المصري.
في أحد الحوارات الساخرة في رواية “عصر الحب”، تسأل بدرية: “هل نعرض رواياتنا الهزلية في الكلوب المصري؟”
فيجيب حمدون: “ليست هزلية بالمعنى المتعارف عليه، فمن خلال الهزل أقول أشياء لها قيمتها.”
وهذا هو بالضبط ما يفعله محفوظ.
الضحك كوسيلة للإفاقة لا الترفيه
لا يكتفي محفوظ باستخدام الشخصيات الهزلية كعنصر تزييني، بل يوظفها بمهارة لتقديم نقد لاذع ومبطّن. فشخصيات مثل سي السيد والشيخ عبد ربه التائه ليست مجرد صور كاريكاتورية، بل نماذج ساخرة تسلط الضوء على خلل القيم والتناقضات المجتمعية.
ويؤكد الكتاب أن هذه الفكاهة لم تكن سطحية، بل جاءت محملة برسائل نقدية تمس السياسة والدين والعلاقات الاجتماعية. إنها فكاهة تُضحكك لتجعلك تفكر… وربما تتألم.