رغم الحظر المفروض على استيراد السيارات وفرض رسوم جمركية تجاوزت 400%، لم تغب السيارات الحديثة والفاخرة عن الشوارع السورية في عهد الرئيس المخلوع بشار الأسد. تمكن أثرياء البلاد من الحصول عليها بطرق مختلفة، أبرزها المزادات العلنية التي كانت تجريها الحكومة لبيع السيارات المصادرة أو المهربة، والتي دخلت البلاد غالبًا من مدينة إدلب الخارجة حينها عن سيطرة الدولة. هذه السيارات بيعت بمبالغ طائلة، وأثارت قيمة بعضها وهويات أصحابها جدلاً واسعًا عبر الإعلام ومنصات التواصل، من دون أي تدخل أو مساءلة من الجهات الرسمية، التي كانت تعتبر المزادات وسيلة لتعزيز الخزينة العامة.

سوريا مكب للسيارات

ومع تسلم السلطة الجديدة زمام الأمور، رُفعت القيود الجمركية وتم السماح مجددًا باستيراد السيارات الحديثة والقديمة، مما أدى إلى تدفق المركبات عبر معبري الأردن وتركيا، ونتج عن ذلك وفرة كبيرة وانخفاض حاد في الأسعار، جعل امتلاك سيارة في متناول فئات أوسع من الشعب.

لكن هذا الانفتاح لم يكن بلا ثمن. فقد سمحت الحكومة بداية 2025 باستيراد السيارات بشرط ألا يتجاوز عمرها 15 عامًا، متغاضية عن معايير البيئة والسلامة، ومن دون تحديد دقيق لبلد المنشأ أو نظام فحص فني صارم. ووفق إحصاءات وزارة النقل، دخلت البلاد 100 ألف سيارة خلال 5 أشهر فقط، لتنضم إلى أسطول ضخم من السيارات القديمة المهترئة، مما فاقم التلوث والحوادث في المدن السورية، وعلى رأسها دمشق.

وبحسب مختصين، فإن سوق السيارات كانت قبل سقوط النظام إحدى أدوات التضخم، إذ بلغت قيمة سوق المستعمل في 2017 نحو 36 تريليون ليرة، في وقت لم يتجاوز فيه الدولار 560 ليرة، لتتفاقم الأزمة بعد قفز الدولار فوق 15 ألف ليرة لاحقًا. اليوم، توصف السوق بـ”الفوضوية” من حيث الاستيراد والتسعير، وسط غياب أي استراتيجية وطنية لتحديث منظومة النقل أو استثمار الموارد في مشاريع منتجة.

الخسائر التي تكبّدها تجار السيارات كانت فادحة، إذ انهارت أسعار السيارات المستعملة بشكل غير مسبوق، فسجّلت موديلات تعود لسنوات مثل 2011 انخفاضًا بنسبة تصل إلى 80%، بينما كان يُنظر للسيارات القديمة باعتبارها “ذهبًا متحركًا” يحتفظ بقيمته في بلد حُرم من الاستيراد لأكثر من عقد. فسيارة مرسيدس موديل 1970 التي كانت تُباع بآلاف الدولارات لم تعد تتجاوز قيمتها 500 دولار فقط. أما “كيا ريو” 2011، التي عُرفت بـ”خبز السوق”، فقد انخفضت من 12 ألفًا إلى 3 آلاف دولار فقط.

التاجر محمد شموط أكد أن هذا الانهيار تسبب في إغلاق شركات كثيرة وتكبد بعضهم خسائر بلغت مئات الآلاف من الدولارات، بينما اضطر هو للتحوّل إلى الاستيراد من دبي في محاولة لتعويض ما خسره. وبيّن أن السوريين خسروا فعليًا مئات الملايين من الدولارات، إذ تراجعت قيمة سياراتهم المستعملة بنسبة تتراوح بين 70 و90% مقارنة بما كانت عليه.

في خلفية هذا المشهد، كانت سوق السيارات تعاني من مشكلات مزمنة، أهمها احتكار تجارة قطع الغيار من قبل شخصيات نافذة قريبة من السلطة، رغم الحظر المعلن على الاستيراد. ففي حين كانت الحكومة تزعم الحفاظ على احتياطي النقد الأجنبي، كانت ملايين الدولارات تُنفق سنويًا على استيراد قطع التبديل.

وبحسب مدير استيراد السيارات في وزارة النقل، عبد اللطيف شرتح، فقد ساهم خفض الرسوم الجمركية بنسبة 80% في جعل سوريا من أقل الدول في نسب الجمارك على السيارات، ما أدى إلى إغراق السوق وزيادة كبيرة في العرض، وانخفاض الأسعار إلى ربع قيمتها السابقة، وهو ما لاقى ارتياحًا شعبيًا بحسب تعبيره.

لكن الخبير الاقتصادي عمار يوسف يرى في الأمر استنزافًا مباشرًا لموارد البلاد والمدخرات الفردية. فاستيراد 100 ألف سيارة بمعدل 10 آلاف دولار للواحدة يعني خروج مليار دولار من جيوب السوريين، فيما دخل إلى خزينة الدولة نحو 250 مليون دولار من الجمارك والرسوم الأخرى. وأشار إلى أن كثيرًا من هذه السيارات تعاني من عيوب كبيرة، بعضها متهالك أو “مقصوص”، وبعضها دخل بأوراق غير رسمية.

وأضاف يوسف أن السوريين لجأوا خلال الحرب إلى السيارات كملاذ آمن لمدخراتهم، لكن مع السماح بالاستيراد فجأة، تبخّرت هذه المدخرات بخسائر تتراوح بين 70 إلى 80%، محذرًا من أن البلاد تحوّلت إلى “مكب” للسيارات القديمة المستعملة، في وقت كان من الممكن توجيه هذه الأموال إلى مشاريع منتجة تنهض بالاقتصاد وتوفر فرص عمل.