ينظر أحمد طه إلى التجرية السبعينية تلك، على أنها إحدى موجات تطور الشعر المصري التي بدأت مع نهايات القرن الـ 19 بحركة الإحيائيين، وتلاها التيار الرومانسي، ثم الموجة القومية أو الواقعية التي طبعت شعر الخمسينيات والستينيات. ويضيف طه في حوار أجرته معه “اندبندنت عربية” أن اللافت في الموجة السبعينية أنها كانت أكثر تطرفاً من الموجات السابقة، التي لم يمثل أي منها نقيضاً لما قبلها. ويرجع طه تفرد الموجة السبعينية إلى كارثة 1967 وانهيار النظام الناصري الذي رعى الموجة القومية، وثورة الشباب العالمية 1968 التي اتخذت في كل منطقة شكلاً خاصاً وحراكاً مختلفاً، ففي بعض المجتمعات كانت سياسية وفي مجتمعات أخرى كانت جنسية وحقوقية، ولكنها كانت في الأحوال كافة ثقافية بامتياز. وفي مصر اتخذت هوية سياسية تمثَّلت في رفض هزيمة 1967 والدكتاتورية الناصرية، والتمرد على ثقافة المد القومي. ويؤكد طه أن الثورة الشعرية التي بدأها شعراء السبعينيات ما زالت قائمة، فالسبعينيون كانوا موجة أولى وتأسيسية ثم کانت موجتها الثانية في التسعينيات، وكل ما جاء بعد ذلك هو امتداد للحركة السبعينية وليس نقيضاً لها.
انقسام شعري
ورداً على سؤال عن السمة المميزة لجيل السبعينيات، يبين طه أنه أولاً لم يكن كتلة واحدة ولا كياناً واحداً. ويضيف أنه عندما نشير إلى سمة ما لدى هذا الجيل، فنحن نشير إلى العنصر المهيمن فيه. والسبعينيون كان يجمعهم رفض الدكتاتورية، ولكن كان بينهم ما لا يعد من الاختلافات والانقسامات، فعلى سبيل المثال كان شعراء جماعة “إضاءة” يقيمون علاقات وثيقة مع التجمعات الأدبية مع دول العربية، بينما كانت جماعة “أصوات” لا تهتم إطلاقاً بمثل هذه العلاقات، وترى أن مسارات الثقافة في مصر هي شأن محلي خالص، وأن التحولات السياسية أو الاقتصادية لا ترتبط بالكيانات العربية المحيطة بنا.
ويرى طه أن هناك الكثير من شعراء السبعينيات كانوا خارج الجماعتين، ولكنهما مثلتا رأس رمح هذا الجيل وطليعته، كذلك فإن شعراء مجلتي “الجراد” و”الكتابة الأخرى” مثَّلوا طليعة جيل التسعينيات، على رغم وجود العديد من الشعراء الذين لا علاقة لهم بهاتين المجلتين. وينبه طه في هذا الصدد إلى شدة التناقضات بين موجة شعراء السبعينيات حتى بين أعضاء الجماعة الواحدة، ما جعل جماعة “أصوات” مثلاً أن تصدر كتاباً شعرياً لكل عضو فيها ولم تستطع أن تنشئ مجلة، بما أن “الكتابة السوداء” كانت جهداً خاصاً به، بينما بقية أعضاء الجماعة كانوا مجرد مستشارين لا أكثر.
ويرفض طه القول بتأثره وبقية شعراء “أصوات” بأمل دنقل؛ لأن مرتكزات الجيل السبعيني الشعرية كانت تقوم على رفض المباشرة في الشعر، بخاصة المباشرة السياسية، ولهذا اتهم هذا الجيل بالشكلانية والغموض، وكان أمل دنقل يمثل نقيضاً لما يعتقده معظم شعراء السبعينيات، وكان صدامهم به صريحاً وواضحاً، ولهذا لم يكن مؤثراً على الإطلاق بالنسبة للسبعينيين، على رغم تأثيره الكبير والواضح على عدد من شعراء ما بعد الحقبة السبعينية.
ويعتقد طه أن نفوره من التعقيد والغموض واعتماد الوضوح والبساطة اللغوية، هو ما يسبب الظن بأن شعره متأثر بدنقل ويصنع هذا الالتباس، أو هذا الربط بين كتابته وكتابة مَن يعتمدون هذا التكنيك الشعري، سواء كان صاحب قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” أو غيره.
الرؤى الصوفية
يكشف طه عن أسباب ولعه بالنزعة الصوفية في شعره قائلاً إن اهتمامه بالتصوف الإسلامي جاء عبر البحث في الفلسفة الإسلامية. وكان دافعه وراء ذلك الانزعاج من انتشار ما أطلق عليه وقتها الصحوة الإسلامية مع بداية عصر السادات ودحض دعاوى مفكري الأصولية. وقادته الفلسفة إلى التصوف الذي يراه “أعظم ما أنتجته الحضارة الإسلامية، التي صنعتها الشعوب المتحضرة التى دخلها الإسلام، بما كانت تضمه من ثقافة روحية ومادية مثل بلاد فارس والعراق والشام ومصر والأندلس وشمال أفريقيا”. ويضيف أن سبب اهتمامه الخاص بالنفري يرجع لقراءته لمحيي الدين بن عربي عندما أشار إليه في “الفتوحات المكيَّة” على أنه صاحب کتابي “المواقف” و”الأقوال”، وهما في الحقيقة كتاب واحد، وبالبحث تمكَّن من العثور على كتابه المهم “المواقف والمخاطبات” تحقيق المستشرق البريطاني آرثر يوحنا آربري (1905- 1969). ويلفت طه إلى أنه نشر دراسة تعد الأولى في مصر، عن إلهامات النفري وإبداعاته عام 1978 في مجلة “الكاتب” عندما كان صلاح عبد الصبور رئيساً لتحريرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى أن الرؤى الصوفية التي كانت واضحة في كتابه الشعري الأول “لا تفارق اسمي”، كانت سمة تفرّد بها، فلم يكن شعراء جيله يهتمون بالفلسفة الإسلامية أو الإلهامات الصوفية، لأن التصوف تجربة ذاتية تماماً، ولا يمكن أن تكون تجربة عامة إلا إذا كانت مُدَّعاة، موضحاً أن العديد من الشعراء في الأجيال التالية اهتموا بالتصوف الإسلامي، ولعل أبرزهم أحمد الشهاوي.
موقف سياسي
وينفي طه أن يكون موقف شعراء السبعينيات من سياسة السادات أدى إلى عدم احتفائهم بحرب 1973، مشيراً إلى أن معظم جيل السبعينيات كانوا في عداد الجيش المصري خلال تلك الحرب، وما تحقق من إنجازات فيها هو من صنع المنتمين إلى هذا الجيل عموماً. ويضيف أنه شخصياً شارك حرب 1973 وحرب الاستنزاف التي مهّدت لها. ويرى طه أنه إذا كان السادات “قد تاجر بهذه الحرب وجعلها تعطي شرعية لاستبداده وإكمال تخریب نتائجها، فهذا لا علاقة له بصناع الانتصار العسكري، وبالطبع لم يشارك السبعينيون في حفلات التضليل، التي افتعلها السادات ونظامه، بل كانوا ضدها على طول الخط”.
وعن سبب اختلاف الموضوعات والتشبيهات والأسماء الحاضرة في قصائده بعد سفره إلى أميركا، مقارنة بما سبقها، يقول طه إن الحياة في مجتمع مفتوح وديمقراطي تكسب المرء خبرة لا يمكن اكتسابها في المجتمعات المغلقة والتي تعاني من الهيئة المزدوجة لأسوأ ما أنتجه التاريخ البشري، الدكتاتورية السياسية من جانب والهيمنة الاجتماعية للأصولية الإسلامية من الجانب الآخر. ويوضح أنه ولحسن حظه عاش في المجتمع المدني الجامعي المكتظ بالثقافة والمثقفين في حي هايد بارك في مدينة شيكاغو الذي يضم جامعة شيكاغو، “إحدى أعظم الجامعات على مستوى العالم”، وأنه تشرف بالتدريس في قسم دراسات الشرق الأوسط لسنوات عدة على رغم أنه ليس أكاديمياً، وكل هذا أكسبه على حد قوله رؤية مختلفة في وجهة النظر إلى الحياة وإلى الثقافة وإلى الشعر. ويشير إلى أن تجربته في أميركا لم تقتصر على هذا الجانب فقط، بل إنه منذ وصوله إلى الولايات المتحدة عمل في وظائف عدة، الاختلافات بينها تثير الدهشة، لذا فقد كوَّن ذخيرة ضخمة من الأصدقاء من أطياف المجتمع الأميركي كافة.
ويحكي طه عن تجربة اعتقاله في أواخر 1984 واصفاً إياها بالطرافة؛ سواء في حوادثها أو ما تمَّ في المحاكم خلالها، فما زالت التهم التي ساقتها مباحث أمن الدولة معمولاً بها حتى الآن، “وهي تهم هزلية لا يمكن وجودها إلا في مجتمعات لا تنتمي للعالم الذي نعيشه ويحيط بنا”. ويوضح أن هذه التجربة لم تهزه مطلقاً ولم تكن هي السبب الذي دفعه لمغادرة مصر، وإنما جاء سفره لأسباب شخصية وهي الزواج من المستشرقة كلاريسا برت أم ابنتيه لیلیا وإمیلي، وقد عاد إلى مصر عند أول فرصة أتيحت له. لكنه يستطرد: “قراري بالعودة والاستقرار في مصر كان قراراً غبياً، ولو عاد بي الزمن فلن اتخذه مطلقاً”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية