البنوك المركزية تعيد النظر في قراراتها لمواجهة السياسات الحكومية

مع اقتراب العام من نهايته أرسلت البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى إشارات واضحة إلى أنها قد تعيد النظر في سياسة التيسير النقدي التي بدأتها هذا العام، بسبب مؤشرات الاقتصاد الكلي من ناحية واستمرار معدلات التضخم مرتفعة من ناحية أخرى. وتخشى البنوك المركزية، المسؤولة عن السياسة النقدية بصورة مستقلة عن الحكومات، أن السياسات المالية للحكومات ربما تؤدي إلى ضغوط تضخمية تعقد مهمة البنوك المركزية في الحفاظ على استقرار الأسعار بتوازن العرض والطلب في الاقتصاد.

يعد سعر الفائدة الأداة الأهم لدى البنوك المركزية لضبط الأسعار وكبح جماح معدلات التضخم، إضافة إلى حريتها في شراء وبيع السندات بما فيها سندات الدين السيادية (الخزانة)، أي ضبط وضع السيولة في السوق. ويستهدف غالب البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى نسبة تضخم عند اثنين في المئة كنقطة توازن للأسعار ومعادلة العرض والطلب في الاقتصاد.

حين ارتفعت معدلات التضخم بقوة وباستمرار بعد أزمة وباء كورونا، على عكس تقديرات البنوك المركزية وكثير من المحللين، بدأت سياسة التشديد النقدي برفع أسعار الفائدة وبيع السندات لسحب السيولة من السوق. وقبل عامين أخذت معدلات التضخم في الهبوط نتيجة التشديد النقدي فبدأ غالب البنوك المركزية سياسة تيسير نقدي بخفض أسعار الفائدة.

سياسات مالية تضخمية

في الآونة الأخيرة بدأت الحكومات في عدد من الاقتصادات الكبرى طرح سياسات مالية تهدد بعودة معدلات التضخم إلى الارتفاع، ويضع ذلك البنوك المركزية أمام معضلة صعبة في شأن استمرار سياسة التيسير النقدي من دون الإضرار بالاقتصاد الكلي من ناحية، والحفاظ على معدلات التضخم متدنية وفي نطاق المستهدف من ناحية أخرى.

بدا ذلك واضحاً في بريطانيا مع إعلان وزيرة الخزانة في الحكومة العمالية التي انتخبت في يوليو (تموز) الماضي، أول موازنة لها نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ومع أن بيان موازنة الوزيرة راتشيل ريفز تضمن زيادة في الضرائب بنحو 40 مليار جنيه استرليني (50 مليار دولار) إلا أن خطط الإنفاق الحكومي التي أعلنتها لتحفيز النشاط الاقتصادي وزيادة معدلات النمو يمكن أن تزيد الضغوط التضخمية.

هذا ما جعل محافظ بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) أندرو بايلي يكرر الثلاثاء الماضي تحذيره من أن البنك المركزي “سيعيد النظر في مسار خفض أسعار الفائدة” بعد بيان الموازنة وسيلجأ إلى الخفض “التدريجي”، وهو ما يعني عدم تسريع خفض الفائدة، أي ليس في كل اجتماع للجنة السياسات النقدية وأيضاً ربما الخفض بمقدار أقل مما تتوقعه الأسواق. ويرى بايلي أن زيادة الضرائب في الموازنة واحتمالات فرض إدارة دونالد ترمب الجديدة في الولايات المتحدة رسوماً على الصادرات سيؤدي إلى “ارتفاع الأسعار بوتيرة أسرع”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جاءت تصريحات محافظ بنك إنجلترا بعد الإعلان هذا الأسبوع عن الأرقام الرسمية للتضخم في بريطانيا التي أظهرت ارتفاعها بنسبة 2.3 في المئة أكتوبر الماضي من نسبة 1.7 في المئة سبتمبر (أيلول) السابق عليه، ومع أن المحللين أرجعوا ارتفاع التضخم إلى إلغاء الحكومة “مساعدات الوقود” التي كانت تقدم للأسر الفقيرة في الشتاء لتمكينهم من دفع فواتير الغاز والكهرباء، إلا أن معدل التضخم الأساس الذي يستبعد أسعار الطاقة والغذاء يظل مرتفعاً بسبب زيادة نسبة التضخم لقطاع الخدمات.

ومع رفع سقف فواتير الكهرباء والغاز بدءاً من يناير (كانون الثاني) 2025، يتوقع استمرار ارتفاع معدلات التضخم بما يجعل البنك المركزي متردداً في الخفض السريع لأسعار الفائدة، على رغم أن قرار البنك خفضها مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري بربع نقطة مئوية (0.25 في المئة) لتصبح نسبة الفائدة في بريطانيا عند 4.75 في المئة.

السياسات الأميركية

في الولايات المتحدة شهد أكبر اقتصاد في العالم ارتفاعاً طفيفاً أيضاً في معدلات التضخم على عكس منحى الانخفاض في الأشهر الأخيرة، وهذا ما جعل رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي جيروم باول يكرر في أكثر من مناسبة في الأسابيع الأخيرة أن البنك سيكون “حذراً” في مسار التيسير النقدي، أي إنه ربما لا يخفض سعر الفائدة مرة أخرى قبل نهاية هذا العام وحتى مطلع العام المقبل، وذلك بانتظار إشارات من الاقتصاد بصورة عامة إلى أن الضغوط التضخمية تتراجع.

ويتوقع على نطاق واسع أن تؤدي سياسات إدارة ترمب القادمة بفرض رسوم على الواردات إلى ارتفاع الأسعار، إذ إن الشركات والأعمال أصبحت تمرر كل زيادات عليها إلى المستهلك النهائي بصورة أكبر وبوتيرة أسرع من ذي قبل، كما أن سياسة الحد من الهجرة واحتمال تهجير العمالة الوافدة سيزيدان الضغط على سوق العمل الأميركية.

وحذر أحد كبار مسؤولي “الاحتياطي الفيدرالي” من أن الاقتصاد الأميركي أصبح عرضة لصدمات تضخمية أكبر مع احتمالات السياسات الحمائية للإدارة القادمة. وفي مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” قال رئيس احتياطي ريتشموند، توم باركين إن الشركات والأعمال أصبحت “تمرر الكلفة على المستهلك بصورة أسرع من ذي قبل”، متوقعاً استمرار ارتفاع الأسعار على رغم التراجع في زيادة معدلات التضخم عالمياً في الآونة الأخيرة.

في أحدث بيانات التضخم في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، ارتفع معدل التضخم في أكتوبر إلى نسبة 2.6 في المئة مقارنة مع 2.4 في المئة لسبتمبر السابق عليه، وجاء ارتفاع التضخم أعلى من النسبة التي توقعتها الأسواق بحسب استطلاعات الاقتصاديين والمحللين قبل صدور البيانات الرسمية.

اليابان والصين

في الاقتصادات التي تعاني ما يشبه “الكساد السعري” مثل الصين واليابان شهدت معدلات التضخم ارتفاعاً طفيفاً، ربما نتيجة حزم التحفيز الاقتصادي التي تزيد السيولة في السوق مما يعني زيادة الطلب في الاقتصاد مقابل ثبات العرض إلى حد ما وهو ما يرفع الأسعار.

بحسب مسح وكالة “رويترز” ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين في طوكيو هذا الشهر إلى نسبة 2.1 في المئة، مقابل نسبة 1.8 في المئة أكتوبر الماضي، وبحسب الأرقام الرسمية الصادرة في طوكيو فإن معدلات التضخم إجمالاً متضمنة أسعار الطاقة كانت عند نسبة 2.3 في المئة أكتوبر الماضي، ويعود الارتفاع الطفيف إلى وقف بعض أشكال دعم المواطنين المستمرة منذ أزمة وباء كورونا ومنها دعم أسعار الوقود.

ويتوقع أن تؤدي حزمة التحفيز التي أعلنتها الحكومة اليابانية بمقدار 21.9 تريليون ين (141.8 مليار دولار) إلى زيادة الضغوط التضخمية في الاقتصاد، بخاصة أن قدراً كبيراً من حزمة التحفيز عبارة عن دعم نقدي مباشر للأسر اليابانية لمواجهة ارتفاع الأسعار.

أما بالنسبة إلى ثاني أكبر اقتصاد بالعالم في الصين التي تشهد في العامين الأخيرين كساداً سعرياً يجعل معدلات التضخم أقل من المستويات المستهدفة في المتوسط عالمياً، فقد ارتفع معدل التضخم بصورة طفيفة أيضاً، ووصلت إلى 0.3 في المئة في أكتوبر مقابل نسبة 0.2 في المئة العام الماضي. وعلى عكس بقية الاقتصادات تسعى الحكومة الصينية إلى تشجيع الإنفاق الاستهلاكي بزيادة الطلب عبر حزم تحفيز بمليارات الدولارات أعلنتها أخيراً.

تبقى دول الاتحاد الأوروبي الأكثر توازناً في حركة معدل التضخم وأيضاً اتساق السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي إلى حد كبير مع السياسات المالية للاتحاد، في الأقل في الجانب الذي تتحكم به المفوضية الأوروبية في بروكسل، وإن اختلفت السياسات المالية لحكومات الدول الأعضاء بعضها عن بعض.

نقلاً عن : اندبندنت عربية