ما علاقة الكتابة بالمدينة وهل يمكننا تفسير انهيار الكتابة جمالياً وفلسفياً بانهيار جماليات العمران فيها؟ وكيف يتجلى تأثير العمران المادي والبشري على الكتابة؟.
للجغرافيا شعريتها ولها سلطانها الخفي على الإبداع.
حين كانت أرجل القصيدة العربية تغرق بلذة في صهد الرمال، كانت الكتابة الشعرية في كامل الأناقة وهي تتأمل مشي الناقة، فتترنح على وقع خطاها الكلمات، منها تخلق موازينها وبحورها وقاموسها وأنفاسها، وكانت الكتابة متماهية مع محيطها الطبيعي بصورة طبيعية، فكانت صادقة وكانت خالدة، منحتنا عشرات الشعراء، بل المئات الذين خلّدوا الإبداع وخلّدهم تاريخ الإبداع، وما زلنا نقرأهم بكثير من الإعجاب والإمتاع على رغم الاختلاف الحضاري والبعد الزمني.
تلك مرحلة زمنية إبداعية ولّت
ولأن الحضارة اليونانية قامت داخل أسوار المدينة بكل عمرانها البشري والمادي، فقد خلفت للبشرية كنوزاً من الشعر والملاحم والفلسفة لا تزال تقرأ جيلاً بعد جيل بكثير من الدهشة والفائدة، ولا تزال هذه الكتابة مؤثرة كثيراً في الكتابة والكتّاب المعاصرين حتى الآن، في الشعر والرواية والفلسفة والأخلاق، بل إن النهضة الأوروبية الحديثة برمتها قامت على إرث المدينة الإغريقية اليونانية قلباً وعقلاً ومنهج تفكير.
الإبداع الأدبي، شعراً كان أو رواية، تتحكم فيه اللغة ما في ذلك شك لأنه يقوم على وداخل لعبة تفكيك فقه سحر اللغة في المقام الأول، في علاقة أخرى بعيداً من البيداغوجية والنحو والصرف، فاللغة هي أعظم أسطورة أنتجها الإنسان لترويض الطبيعة وترويض العقل والنفس، وتقوم العملية الإبداعية أيضاً على القراءة والتراكم لأن الكتابة هي حوار متواصل مع نصوص سابقة أو معاصرة، قبولاً ورفضاً وتفكيكاً، والكاتب الناجح لا يكتب مقطوعاً من شجرة، بل هو فرع حي في شجرة الإبداع الإنسانية الكبرى، وما يجب الانتباه إليه هو أن هذه العملية الإبداعية المعقدة، من التحكم في سحر اللغة إلى التواصل القطائعي مع الموروثات الإنسانية، تتشكل داخل سيكولوجيا المبدع الخاصة، فلكل مبدع سيكولوجيا يتميز بها، فهي مثل بصمات أصابعه أو مثل الـ ADN الخاص به، وهي حالة مرتبطة بالمحيط العام، وفي مركز هذا المحيط تقوم الجغرافيا العمرانية بدور كبير في تشكيلها وبنائها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالعودة للكاتب أو الشاعر العربي أو المغاربي، فإنه إذا ما تحقق له ذلك التحكم الإبداعي في جنون أسرار اللغة وكان على اتصال اجتهادي بتراث الإنسانية من خلال القراءة الفاعلة والمثمرة، فإن هناك محيطاً عمرانياً، من حوله وفيه، مدمراً للعملية الإبداعية، إنه ذاك العمران الهجين والمخترق والقبيح.
المدينة العربية المعاصرة وبصورة عامة مدينة هجينة، فضاء متحلل، مبتذل، من دون ملامح عمرانية واضحة ولا مريحة ولا متطورة على نحو طبيعي، حتى لتبدو مثل تجمع أو خليط بشري في فضاء مقفل، قرية كبيرة تسكنها مجموعات بشرية تعيش غالباً بعقلية القبيلة والعرش وبأخلاقيتهما.
حتى تلك المدن التي عرفت تاريخياً بحضارتها، وتأسست فيها عبر التاريخ إمارات وأسواق وحدائق وقصور وعمران مميز وثقافة وموسيقى، وعمّرتها لزمن طويل مجموعات بشرية منسجمة على شاكلة دمشق والقاهرة وتلمسان وبغداد وبجاية وفاس قد تريّفت اليوم وتهجنت وبلعها العمران القبيح المستورد على عجل. في البدء انسحبت المدينة الأصل، تقلصت أو تكمشت نحو المركز، ثم شيئاً فشيئاً اختفت وتم اختراقها وقرظها بؤرة بؤرة، وانتهت بأن مسحت من مكانها وخرجت من جلدها، وحتى اللهجات أو بالأحرى اللغات التي كانت تميّز ساكنة هذه المدن والتي كانت تمنحها جمالاً وتمثل عاملاً مهماً في هويتها وجمالها وجزءاً من تعريفيتها، تم اختراقها بلغات أخرى غريبة وعنيفة.
حوصرت المدن العريقة بأحياء كثيرة في إطار سياسات استعجالية وطنية تجسّدت من خلال برامج للتسكين العشوائي القائمة على فلسفة “المعونة” السياسية الأيديولوجية لا على “العمران” بمفهومه الحضاري، وهذه التجمعات البشرية غير المتجانسة في غالبيتها شكلت قلقاً حضارياً وسياسياً في المدينة وفي سيكولوجيا الساكنة برمتها.
حتى الأحياء الشعبية العريقة التي كانت تقوم على بيوت بسيطة تشبه الخيام القصديرية والتي من فوضاها الخلاقة ومن فقرها، ظهرت نصوص كبيرة ووُلد كتّاب كبار، حتى هذه الأحياء العشوائية، تم اختراقها ومحوها مادياً، وحولوها إلى أحياء قصديرية جديدة وغريبة، عشوائيات جديدة في شكل عمارات شاهقة بلا روح ولا ثقافة. وجراء ذلك فقدت هذه الأحياء الشعبية القصديرية العريقة إبداعها وبهجتها وطريقة حياتها اليومية المميزة في بساطتها وحتى في فقرها وتمّ سجن الأهالي في أقفاص من أسمنت مسلح وشبابيك حديد.
هكذا تم تفريغ المدينة من روحها من الأطراف حتى المركز، وجراء هذا الاختراق أو الاكتساح فقدت المدينة ذاكرتها وأصبحت غريبة وهي في مكانها الذي هو اللامكان، وفقد المواطن علاقة التواصل مع مدينته، كما تعرّض المبدع فيها لقلق سيكولوجي عميق سواء كان في المركز أو في الهامش، وهذه الوضعية من القلق العمراني واللغوي أثّرت في العملية الإبداعية بصورة كبيرة وفي تشكل النخب.
إن العمران المادي والبشري ليس حيادياً في العملية الإبداعية، بل هو محرك مركزي في كل عملية جمالية لغوية أدبية أو بشرية، وما عرفته المدينة بأحيائها الشعبية القصديرية وبمركزها التاريخي، وما عرفه الريف من تشويه في جماليات المكان بخصوصياته المختلفة جعلنا نعيش نصوصاً بلا جغرافيا حضارية، وربما يكون نجيب محفوظ هو آخر شاهد على مدينة القاهرة أدبياً، ويكون محمد ديب آخر شاهد على مدينة تلمسان، وعبدالكريم غلاب آخر شاهد على مدينة فاس العتيقة، ومولود معمري ومولود فرعون الشاهدان الأخيران على منطقة القبائل بكل عنفها وجمالها ولو في فقرها.
لقد قتلت سياسة “المنفعة” روح المدينة، وتم تجريف أسوارها وذاكرتها وتحوّلت إلى فضاء غريب بين أهلها، وقتلت السوق المنمطة المدينة، ليست السوق بمفهومها القديم التي كانت جزءاً طبيعياً في المدينة، بل المدينة كلها تحولت إلى سوق مفتوحة بتنافس لا روح فيها.
أليس هذا الوضع الذي يعيشه عمراننا في المدن وفي القرى على حد سواء من التهجين والتسويق والتجريف والمنفعة المجنونة هو من العوامل التي أثّرت سلباً في إبداعنا وجعلت مبدعينا من دون جغرافيا بشرية وعمرانية يمكن تأملها وقراءتها والكتابة عنها وفيها؟.
وحين يغادر المبدع العربي أو المغاربي بلده أو مدينته باتجاه مدينة أجنبية أوروبية أو أميركية للإقامة فيها، يحدث أن يكتب مدينته أو قريته لكنها كتابة تصدر عن صوت الـ”نوستالجيا”، وحين ندقق سنجد هذه المدينة المكتوبة هي مدينة “الخيال”، مدينة “الطفولة” أو “الأجداد” بعيدة كل البعد من الواقع المهووس، وحين يكتب عن المدينة الأجنبية التي يقيم فيها مثل باريس أو لندن أو نيويورك أو برلين سنجد هذه الكتابة في غالب الأحيان مليئة بالحنين إلى مدينته أو هي رثاء مستتر لمدينة أو ريف تلاشى بكل ما كان يحويه من قيم وعمران وسيكولوجيا ساكنته.
لبنية العمران المادي والبشري تأثير سحري في عمران الكتابة في شقائها مع مسيرة تاريخ الإبداع، إلا أنه لا يمكن اكتشاف تلك العملية ببساطة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية