مستقبل الدولار إلى الواجهة بعد عودة ترمب

حافظت أميركا على مكانتها المهيمنة الخاصة في النظام النقدي والمالي الدولي من خلال دور الدولار الأميركي كعملة احتياط عالمية منذ أن حل محل الجنيه الاسترليني في عشرينيات القرن الـ20، وصار الجميع ينظرون إلى الدولار الأميركي بوصفه مخزناً آمناً للقيمة بسبب الثقة في سيادة القانون في أميركا وقدرتها على الوفاء بمسؤوليتها الخاصة عن الإدارة السلسة للنظام النقدي الدولي، بما في ذلك من خلال خطوط المبادلة التي يقدمها بنك الاحتياطي الفيدرالي والتي تساعد البنوك المركزية الأجنبية بالسيولة بالدولار خلال أوقات الضائقة المالية الشديدة.

لكن اليوم من المتوقع أن تجلب رئاسة دونالد ترمب الثانية سياسات شعبوية قد تزيد من إساءة استخدام الامتياز الباهظ الذي تتمتع به أميركا، وقد تؤدي هذه السياسات إلى ارتفاع التضخم مع عجز مالي أكبر، وقد يبدأ المستثمرون الأجانب في المطالبة بعلاوة أخطار أعلى للاحتفاظ بأصول الدولار، وهو من المرجح أن يترجم إلى ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية.

معضلة تريفين

في عام 1959 تنبأ الاقتصادي الأميركي روبرت تريفين بأن معيار الدولار الأميركي والذهب غير قابل للاستمرار بسبب معضلة لا يمكن التغلب عليها، إذ كان يرى تريفين أنه إذا توقفت أميركا عن تزويد البلدان الأخرى بالدولار، فإن التجارة العالمية ستتجمد، مما يدفع العالم إلى دوامة انكماشية، وإذا استمرت، فإن الالتزامات الأجنبية لأميركا ستتجاوز مخزونها من الذهب، مما يؤدي إلى تآكل الثقة ويؤدي في نهاية المطاف إلى تهافت على الذهب الأميركي، وهنا تكمن معضلة تريفين.

واليوم لا تزال أميركا تواجه معضلة تريفين، فتقف بين تلبية الطلب المتزايد على الأصول الآمنة بالدولار الأميركي من قِبَل بقية العالم والحفاظ على سلامتها، لكن مع استمرار اتجاه حصة الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي نحو الانخفاض واستمرار توسع الثروة المالية العالمية خارج الولايات المتحدة، فهل تظل الأصول بالدولار الأميركي آمنة؟

نصف الديون العالمية

وفقاً لتحليل حديث لبنك “نومورا” الياباني، أعداه رئيس قسم أبحاث الاقتصاد الكلي بالبنك، روب سوبارامان وزميلته محللة أبحاث الاقتصاد الكلي ييرو تشين، تشكل الأصول الدولارية 58 في المئة من احتياطات النقد الأجنبي العالمية، ونصف الديون العالمية وفواتير التجارة الخارجية مقومة بالدولار الأميركي.

في ستينيات القرن الـ20، صاغ وزير المالية الفرنسي فاليري جيسكار ديستان عبارة “الامتياز الباهظ” لوصف الفوائد التي تعود على الولايات المتحدة من امتلاك العملة الاحتياط العالمية، وتشمل هذه الفوائد انخفاض كلفة الاقتراض بالنسبة للحكومة الأميركية، وعدم وجود أخطار لسعر الصرف على الالتزامات الخارجية الأميركية، وانخفاض كلفة الواردات بالنسبة للمستهلكين الأميركيين، وتقليل أخطار أزمة ميزان المدفوعات الأميركية، كما أن انتشار العملة يمنح أميركا القدرة على التحكم في النظام المالي العالمي، وخصوصاً في صورة عقوبات مالية.

شراء الدولار وبناء احتياطات

واليوم، يغذي الطلب العالمي المستمر على الأصول الآمنة بالدولار الامتياز الباهظ الذي تتمتع به أميركا، فيما يتوقف محللا “نومورا” عند علامات يمكن أن تضر بالسلامة المتوقعة لأصول الدولار إذا استغل الامتياز الباهظ الذي تتمتع به أميركا إلى حد كبير، فيقولان إن أميركا سمحت في الماضي لدول أخرى بتحقيق فوائض في الحساب الجاري، وشجعت البنوك المركزية الأجنبية على شراء الدولار وبناء احتياطات من النقد الأجنبي للحماية من خطر هروب رأس المال، وتشجيع كبار مصدري السلع الأساسية على إعادة تدوير فوائض حساباتهم الجارية وتحويلها إلى أصول آمنة بالدولار، لكن كل هذا أسهم في عجز الحساب الجاري الأميركي، الذي يخطط ترمب لمعالجته من خلال فرض رسوم جمركية أعلى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووفق تحليل البنك الياباني، فإن الطلب العالمي القوي على الأصول الآمنة بالدولار قد يفرض ضغوطاً هبوطية على عائدات السندات الأميركية، أو على الأقل يسمح للولايات المتحدة بالتخلص من قدر أقل من الانضباط المالي مقارنة بدول أخرى، وعلى رغم استطاعة أميركا أن تمارس امتيازها الباهظ في أوقات الأزمات لأن الهرب العالمي إلى الأصول السائلة بالدولار الأميركي يمنحها قدرة أكبر على تخفيف سياساتها الاقتصادية الكلية مقارنة بدول أخرى، لكن هذا يأتي على حساب إضافة مزيد من الديون وتوليد الأخطار في الأسواق المالية الأميركية.

ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية

وتحدث محللا “نومورا” عن إساءة الولايات المتحدة لاستخدام امتيازها الباهظ، ويشيران إلى سياسات ترمب القائمة على مبدأ “أميركا أولاً” التي قد تعزز معضلة تريفين من خلال سياسات شعبوية تتمثل في التعريفات الجمركية، والحملة الصارمة على الهجرة، والسخاء المالي، وربما سياسة خارجية مواجهة لا تراعي كثيراً النظام الدولي القائم على القواعد الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، ومن المرجح أن تؤدي سياسات كتلك إلى ارتفاع معدلات التضخم وعجز مالي أكبر.

لا يوجد شيء مقدس في ما يتصل بسلامة الأصول المقومة بالدولار الأميركي، بحسب ما يرى محللا “نومورا”، فإذا استمرت معضلة تريفين فإن المستثمرين الأجانب قد يبدأون في الأعوام المقبلة في المطالبة بعلاوة أخطار أعلى مقابل الاحتفاظ بالأصول المقومة بالدولار، وهو ما من شأنه أن يترجم إلى ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية.

لكن لا تزال فرص بيع أصول الدولار الأميركي على نطاق دولي تبدو بعيدة لثلاثة أسباب رئيسة، بحسب ما يخلصان في مذكرة البنك: أولاً، تنطلق أميركا من موقف قوة من حيث قوتها العسكرية واستثنائيتها الاقتصادية مقارنة ببقية العالم، وثانياً، يعمل بنك الاحتياطي الفيدرالي من موقع يتمتع باستقلالية تامة في السياسة النقدية، وأخيراً، لا توجد حتى الآن عملة احتياطي عالمية بديلة قابلة للتطبيق للدولار الأميركي.

نقلاً عن : اندبندنت عربية