في غرفة ضيقة بالطابق الأرضي داخل أحد العقارات السكنية بمنطقة المهندسين، جلس محمد حامد عبدالله ممسكاً بيده عصا خشبية يرافقه زوجته وأبناؤه الأربعة، يطالعون الأخبار على شاشة التلفزيون التي كانت تستعرض آنذاك اعتزام الحكومة المصرية إصدار “تشريع جديد” لتقنين أوضاع العمالة المنزلية، ومنحها شهادات مزاولة المهنة لضمان حقوقها المستقبلية.
لم تفارق علامات التعجب والدهشة وجه الرجل الخمسيني الوافد من محافظة أسوان (جنوب مصر) الذي يعمل بمهنة حارس عقار منذ نحو ستة أعوام متشككاً في صحة تطبيق تلك المساعي. ويقول “سمعت مراراً وتكراراً تصريحات عديدة من المسؤولين عن تقنين أوضاعنا، لكن لم تكن هناك إجراءات فعلية وملموسة تضمن حقوقي وتؤمن مستقبل أسرتي”.
لا أمان وظيفياً
يصف الرجل الخمسيني معاناته “لا أشعر مطلقاً بالأمان في وظيفتي. وليس لدي تأمينات أو معاشات أو حوافز أو بدلات، ولا أعلم ماذا سأترك لأبنائي بعد رحيلي؟”، مردفاً “حاولت كثيراً عند انتقالي للعمل بالقاهرة الالتحاق بوظيفة حكومية بدخل ثابت وعقود موثقة، إلا أن كل محاولاتي لم تجد نفعاً”، مما أضطر معه للعمل بتلك الوظيفة “غير المستقرة” من أجل توفير نفقات أسرتي الشهرية.
يعمل محمد من التاسعة صباحاً إلى السابعة مساء خلال ستة أيام أسبوعياً ويتقاضى راتباً شهرياً يقارب 2000 جنيه (40.27 دولار أميركي)، بخلاف أجرة يومية يحصل عليها من سكان العقار.
وبصوت خافت يقول “أشعر أنني مهدد طوال الوقت أثناء عملي، تعرضت لتهديدات عديدة بالطرد من ملاك العقار أكثر من مرة لولا تدخل الوسطاء والمقربين الذين وقفوا إلى جواري”. موضحاً أنه يسعى إلى البحث عن وظائف إضافية في الوقت الراهن من أجل زيادة دخله الشهري وادخار مبلغ لتأمين مستقبل أبنائه.
وأعلن وزير العمل المصري محمد جبران أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2023 أن الوزارة بصدد إعلان قانون العمالة المنزلية لضمان حقوقهم، ويستهدف القانون تقديم الحماية والرعاية لهؤلاء وتقنين أوضاعهم ودمجهم في سوق العمل الرسمية وتدريبهم وتأهيلهم ومنحهم شهادات مزاولة مهنة، والتعامل القانوني مع شركات الاستقدام وأصحاب الأعمال بعقود عمل رسمية وتراخيص قانونية.
الرواية السابقة تتطابق مع رؤية رئيس نقابة العاملين بالقطاع الخاص شعبان خليفة الذي يرى أن تلك الفئة في “حاجة ملحة” إلى تشريع ينظم عملهم ويحمي حقوقهم ويحدد واجباتهم المنوطة، وأن يكون هناك نسخ من العقود موثقة في مكاتب العمل، مشيراً إلى أن تلك الفئات كانت تعمل بلا أية ضمانات أو مزايا أو حقوق.
وينوه خليفة خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية” أن تعداد تلك الفئة بمصر يقارب الـ800 ألف عامل وهو عدد ليس قليلاً، موضحاً أن هناك عديداً من الفئات التي تندرج تحت مسمى “العمالة المنزلية”، وتعمل في مهن تنظيف أو كي الملابس وغسيل الأطباق والطبخ وحراسة أمن المنازل وقيادة السيارات للآخرين ورعاية الأطفال والمسنين والمرضى وذوي الحاجات الخاصة والحيوانات والمساعدة في الأعمال المنزلية والتشجير.
ووفقاً لما يقول خليفة فإنه من الأجدى أن يتم إدراج باب خاص في مشروع قانون العمل الجديد الذي تجرى مناقشته حالياً في شأن العمالة المنزلية، بدلاً من إعداد تشريع منفصل لهم. مستشهداً بالدستور الذي أقر في نص المادة 53 حظر التمييز بين المواطنين ومساواتهم في الحقوق والحريات والواجبات العامة، وهو ما يتطلب ضرورة أن يكون هناك قانون موحد يجمع تحت مظلته جميع العاملين في الدولة بكل أطيافهم، مردفاً “عاملو المنازل الأفارقة حينما يتعرضون لأية مشكلات يلجأون على الفور إلى سفاراتهم من أجل جلب حقوقهم، بينما العمالة المنزلية المصرية حقوقهم مهدرة طوال السنوات الماضية”.
واستبعد قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003 العمالة المنزلية من نصوصه، إذ أقر في مادته الرابعة على أنه “لا تسري أحكام هذا القانون على العاملين بأجهزة الدولة، بما في ذلك وحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة، وعمال الخدمة المنزلية ومن في حكمهم، أفراد أسرة صاحب العمل الذين يعولهم فعلاً، ما لم يرد نص على خلاف ذلك”.
من سيتولى علاجي في حالة المرض؟
معاناة أخرى يعيشها أيمن الزغبي (35 سنة) الوافد من محافظة أسيوط (جنوب مصر) الذي اضطر للعمل بمهنة خدمات تنظيف المنازل عقب وفاة والده للإنفاق على والدته وأشقائه الخمسة، إذ يقول “أعمل في تلك المهنة منذ قرابة خمسة أعوام وأحصل من الزبائن على مقابل الأجرة باليومية”، موضحاً أنه لم يكمل تعليمه الدراسي وفضل العمل في سن مبكرة لمساعدة أسرته على مواجهة أعباء الحياة وغلاء المعيشة.
ويقول الزغبي الذي يقطن بحي فيصل الشعبي (غرب القاهرة) إنه يتقاضى يومياً 250 جنيهاً (5.03 دولار أميركي) مقابل تنظيف الشقة الواحدة، وأحياناً تختلف قيمة اليومية حسب المنطقة ومساحة الشقة وبعد المسافة، مردفاً “أنظف ثلاث شقق يومياً في مناطق مختلفة، وأقصى عدد وصلت إليه كان خمساً خلال يوم واحد، وأحياناً أسافر إلى محافظات بعيدة لخدمة الزبائن مقابل الحصول على سعر أعلى في تنظيف الشقة”.
ويعيش الزغبي أوقاتاً من القلق والخوف بسبب ظروف مهنته غير المستقرة، قائلاً “العمل في مهنة تنظيف المنازل مرهق وشاق ومتقلب أيضاً، أحياناً أقوم بتنظيف أكثر من شقة خلال اليوم نفسه وفي مرات كثيرة لا يعرض علي أي عمل”، متسائلاً “لو تعرضت للإصابة أو المرض أثناء العمل من سيتولى علاجي والإنفاق على أسرتي؟”.
ويأمل الشاب المصري في إصدار تشريع قريب يمنح أرباب مهنته حقوقاً وضمانات ومزايا مستقبلية “أتمنى أن تقف الحكومة إلى جوارنا، وتشعر بمعاناتنا وأوجاعنا وتساندنا في مهنتنا وتحمينا من بطش أصحاب العمل”.
حال السيدة الأربعينية بدور يوسف لا يختلف كثيراً عن التجارب السابقة، إذ اضطرت إلى الانتقال من محافظة المنيا في صعيد مصر إلى القاهرة عقب وفاة زوجها، للبحث عن فرصة عمل ملائمة للإنفاق على نجلها الوحيد.
وبعد رحلة طويلة من البحث وجدت بدور ضالتها في الحصول على وظيفة “مربية أطفال” بأحد مكاتب توريد العمالة المنزلية، مقابل الحصول على راتب شهري يقدر بنحو 3500 جنيه (70.46 دولار أميركي)، علاوة على يومين إجازة أسبوعياً.
وتوضح السيدة الأربعينية التي تعمل في تلك المهنة منذ نحو ثلاثة أعوام أنها تقضى غالب ساعات اليوم خارج المنزل بحثاً عن الرزق، وتعمل أحياناً في ظل ظروف غير إنسانية وشديدة القسوة “تعرضت لكثير من الأمراض الصحية بسبب العمل بتلك المهنة، مثل الانزلاق الغضروفي نتيجة تربية الأطفال علاوة على المساعدة في الأعمال المنزلية وإعداد الطعام”.
كان أكثر ما يؤرق بدور هو تفضيل عديد من الزبائن العمالة الأجنبية الوافدة من الخارج والاستعانة بهم في تلك المهنة على رغم غلو أسعارهم وتقاضي بعضهم الأجر بالعملة الصعبة، مشيرة إلى أن أقصى طموحاتها هو الحصول على عقد عمل رسمي وموثق يحمي حقها الوظيفي في المستقبل من أجل عيش حياة كريمة.
وتشير تقديرات رسمية صادرة عن منظمة العمل الدولية خلال عام 2013 إلى أن ما لا يقل عن 52 مليون شخص في جميع أنحاء العالم معظمهم من النساء يعملون كخدم في المنازل، وأن العمالة المنزلية تشكل 7.5 في المئة من أجور النساء في جميع أنحاء العالم، وما بين منتصف عامي 1990 و2010 ارتفع عدد عمال المنازل بنحو 19 مليون عامل في جميع أنحاء العالم.
وفي شأن المنافسة مع العمالة المنزلية الأجنبية، يقول رئيس لجنة القوى العاملة بالبرلمان المصري عادل عبدالفضيل إن قانون العمالة المنزلية الجديد سيتضمن بنوداً للعمالة الأجنبية والمحلية، وستكون هناك قواعد منظمة لطبيعة عمل تلك الفئات داخل المنازل، مشيراً إلى أن الحكومة رأت أثناء مناقشة مشروع قانون العمل الجديد أن يجري إعداد تشريع منفرد للعمالة المنزلية ولا يُدرج داخل بنود مشروع قانون العمل، نظراً إلى “حساسية طبيعة عمل تلك الفئات واحتراماً للحقوق والحريات”، ولأنه يمس “حرمة البيوت وخصوصيتها” بحسب تعبيره، مستشهداً بمثال “طبيعة عمل حارس العقار خارج المنزل تختلف عن عمل الطباخ داخل المنزل”، مؤكداً أن العمالة المنزلية ملاصقة دائماً لصاحب العمل.
ويضيف عبدالفضيل خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية” أن البرلمان في انتظار مسودة مشروع القانون الذي تعده الحكومة في شأن تلك الفئات، الذي سينظم ويحمي حقوق العمالة المنزلية وسيُستعان بتجارب الدول الأخرى في مجال العمالة المنزلية أثناء مناقشة المشروع.
وبحسب مسودة مشروع القانون العمالة المنزلية الذي كشفت الحكومة النقاب عنه، أقرت بحظر تشغيل العامل المنزلي سخرة أو تشغيله في أعمال أو بشروط تؤدي إلى القيام بعمل جبري، وتأكيد حظر كل عمل أو سلوك أو إجراء يكون من شأنه إحداث تمييز أو تفرقة بين الأشخاص في شروط أو ظروف العمل المنزلي أو الحقوق والواجبات الناشئة عن عقد العمل المنزلي، ومتابعة تدريب وتشغيل العاملين المنزليين مع عدم جواز مزاولة عمليات تدريب العمال المنزليين إلا بعد الحصول على ترخيص مزاولة هذا النشاط من الوزارة المتخصصة، لضمان جدية العمل وتحديد حد أدنى للعمل في الخدمة المنزلية لا يقل عن الحد الأدنى لسن التشغيل 15 سنة، وحماية خاصة لعمل الأطفال دون سن الـ18 وحق العامل المنزلي في الحصول على راحة أسبوعية لا تقل عن 24 ساعة في الأقل، وإجازات سنوية ومرضية وإجازة زيارة الأماكن المقدسة والإجازات الدراسية.
أعوام من التهميش
“أمامنا مشوار طويل قبل إقرار القانون في صورته النهائية ومن المتوقع إصداره خلال دور الانعقاد الحالي”، يعقب وكيل لجنة القوى العاملة بالبرلمان المهندس إيهاب منصور موضحاً أن الحكومة تجري حالياً بعض التعديلات الإضافية على مشروع قانون العمالة المنزلية خلال الوقت الراهن قبل إرساله إلى البرلمان.
ويختلف منصور مع ما طرحه رئيس لجنة القوى العاملة بالبرلمان، إذ يؤكد أنه لم يتحدد حتى الآن ما إذا كان مشروع قانون العمالة المنزلية سيكون متضمناً داخل مواد مشروع قانون العمل الجديد أم سيكون تشريعاً منفصلاً، منوهاً بأن الأمر “لا يزال” قيد النقاش حالياً داخل أروقة البرلمان وأن اللجنة ستسعى جاهدة لإصدار تشريعات تحمى وتنظم حقوق تلك الفئات، بعد فترات طويلة عانوا خلالها التهميش وعدم وجود ضمانات حقيقية أثناء عملهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فيما يرى نائب رئيس اتحاد العمال مجدي البدوي ضرورة أن يكون هناك تشريع خاص ينظم عمل تلك الفئات، وبخاصة أنهم يتنقلون من مكان إلى آخر وليس لهم دخل ثابت، موضحاً أنه طالب مراراً وتكراراً بإصدار تشريعات لحماية تلك الفئات طوال الأعوام الماضية تنظم علاقات العمل بينهم وتؤمن حقوقهم وتمنحهم مزايا مستقبلية، كاشفاً عن أن العمالة المنزلية ليست مدرجة ضمن فئات العمالة غير المنتظمة وأنهم لا يخضعون لقانون التأمين الاجتماعي.
وأقرت المادة الـ17 من الدستور على “تكفل الدولة توفير خدمات التأمين الاجتماعي ولكل مواطن لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي الحق في الضمان الاجتماعي بما يضمن له حياة كريمة إذا لم يكن قادراً على إعالة نفسه وأسرته، وفي حالات العجز عن العمل والشيخوخة والبطالة. وتعمل الدولة على توفير معاش مناسب لصغار الفلاحين والعمال الزراعيين والصيادين والعمالة غير المنتظمة”.
من جهته، يعقب وكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان المصري الدكتور أيمن زهري بأن العمالة المنزلية تعد من أكثر الفئات التي كانت عرضة دائماً للانتهاكات والمخالفات الجسيمة طوال الأعوام الماضية، نظراً إلى طبيعة عملهم “غير المرئية” داخل المنازل وخلف الأبواب المغلقة التي تكون بعيدة من الرقابة، علاوة على أن إمكانية الإبلاغ عن تلك المخالفات كان يعد أمر صعباً، خشية أن يفقدوا عملهم وعدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم أمام أصحاب العمل.
ويضيف زهري خلال حديثه إلى “اندبندنت عربية” أن وجود تشريع قانوني ومظلة تحمي تلك الفئات بعد أعوام طويلة من التهميش وعدم إدراجهم في قانون العمل المصري “بادرة إيجابية”، وهو أمر متبع في جميع بلدان العام ويندرج تحت منظومة حماية العمالة بصورة عامة، مشدداً على ضرورة أن يكون هناك تشريع منفرد لتلك الفئات، ويكون مكملاً لقانون العمل الجديد الذي تُجرى مناقشته حالياً.
يتوافق الطرح السابق مع دراسة سبق وأعدها مركز دراسات اللاجئين والهجرة بالجامعة الأميركية خلال يونيو (حزيران) 2010، أظهرت أن الإناث العاملات في المنازل اللاتي تقل أعمارهن عن 16 سنة، بمثابة مجموعة “غير مرئية” و”ضعيفة” و”أكثر عرضة” للأخطار داخل قطاع الخدمة المنزلية في مصر.
وتوصلت الدراسة إلى أن عمل البنات في خدمة المنازل ممارسة “مخزية” من الناحية الأخلاقية، سواء بالنسبة إلى المخدومين أو الأسر التي ترسل بناتها إلى العمل في هذا المجال أو السماسرة، الذين يستقدمون الفتيات للعمل في الخدمة المنزلية، ووجدت الدراسة أن الأسر الأكثر فقراً التي ليس لديها سوى مصادر “شحيحة” وغير مستقرة للدخل هي الأكثر إرسالاً لبناتها إلى العمل في قطاع الخدمة المنزلية مقارنة بالأسر التي لديها دخل ثابت.
نقلاً عن : اندبندنت عربية