في اليوم التالي لإعلان فوز دونالد ترمب بانتخابات 2024 سارع المؤيدون المتحمسون لشعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” إلى منصات التواصل الاجتماعي لنشر تعليقات ساخرة، وبدأوا “يحثون” معارضيهم على مغادرة البلاد إلى أي مكان آخر في العالم. وتضمنت تعليقاتهم التهكمية اقتراحات بشركات نقل ومخازن للأثاث وتذاكر سفر ذهاباً دون عودة إلى سيبيريا، مختتمين منشوراتهم بعبارات غير لائقة.
وعلى رغم الطابع الساخر لهذه التعليقات فإنها جاءت رداً على تصريحات جادة، إذ أعلن عديد من مؤيدي كامالا هاريس المحبطين من نتيجة الانتخابات عزمهم على مغادرة الولايات المتحدة حال فوز ترمب. ولم يقتصر الأمر على الناخبين العاديين إذ انضم إلى قافلة المهددين بالرحيل عدد من المشاهير، من بينهم الثنائي الشهير ترافيس وتايلور والممثلة باربرا سترايسند والمغنية شير والممثلة أميركا فيريرا.
أتفهم تماماً مشاعرهم وأتذكر القرار المصيري الذي اتخذته قبل نحو 20 عاماً حين ساد اعتقاد خلال ذلك الوقت بأن لا رئيس يمكن أن يكون أسوأ من جورج دبليو بوش، حينها قررت أنا وزوجي الهجرة إلى نيوزيلندا برفقة ابنتنا محاولين الهرب من المناخ السياسي المشحون داخل الولايات المتحدة.
لست نادمة على قرار الهجرة، لكنني أود تحذير كل من تدفعهم نتائج الانتخابات للتفكير في الرحيل النهائي عن الولايات المتحدة، أن يحرصوا على فهم أمر لم أدركه آنذاك ألا وهو أن السياسة لا تعترف بالحدود، بل تتخطاها.
بدأت رحلة استقرارنا في “أوتياروا” -الاسم الماوري لنيوزيلندا- كمقيمين دائمين مع بداية الولاية الثانية للرئيس بوش. وسجلنا ابنتنا فيث التي كانت في سن الحضانة آنذاك، في مركز تعاوني للعب يديره مجموعة من الآباء والأمهات. وشعرت منذ الوهلة الأولى بتوجس شديد من قبل الأهالي في تعاملهم معي. فقد كنت أقضي معظم أيامي وحدي أراقب ابنتي فيث من كثب، وأتقبل بامتنان أية مهمة غير مرغوبة يكلفني بها الآباء الآخرون، حتى لو كانت تنظيف المراحيض، ممتنة لأي تفاعل ولو بسيط معهم. ولم أفهم سر هذه المعاملة إلا بعد تولي أوباما الرئاسة، ففي أعقاب فوزه مباشرة أشارت إليَّ مشرفة المركز وطلبت مني المساعدة في إمساك حبل القفز لمجموعة من الأطفال. ويبدو أن الدهشة كانت واضحة على وجهي وأنا أتلفت حولي لأتأكد من أنها تقصدني فعلاً، فقالت لي وهي تناولني طرف الحبل “نحن نحبك الآن… لأننا نحب رئيسك”.
وكانت لهجتنا الأميركية بمثابة بطاقة هوية تكشف عن أصولنا، وغالباً ما كانت تؤدي إلى السؤال المعتاد البريء، من أية ولاية أنتم؟ وكانت الإجابة عن هذا السؤال أسهل خلال فترة رئاسة أوباما، نظراً إلى الشعبية والقبول اللذين يحظى بهما حول العالم.
بيد أن الأمور تغيرت جذرياً بعد عام 2016، إذ تحول السؤال البسيط إلى ما يشبه التحقيق لمعرفة ما إذا كنا من مؤيدي ترمب في الخارج. وكانت الأسئلة تنهال علينا، هل يمتلك كل سكان كاليفورنيا أسلحة نارية؟ هل نؤيد فكرة حقن المطهرات في الأوردة؟ هل نحن مع الإجهاض أو ضده؟
وشكلت الاستقالة المفاجئة لجاسيندا أرديرن من رئاسة وزراء نيوزيلندا عام 2023 منعطفاً سياسياً حاداً في البلاد. فقد عُرفت أرديرن بمواقفها التقدمية وقراراتها الحازمة في تشديد قوانين حيازة الأسلحة، واحترامها للتعددية الثقافية وإتقانها للغة الماوري (لغة السكان الأصليين) ودعمها لقضايا المساواة والتنوع المجتمعي. وفتحت استقالتها الباب أمام كريستوفر لوكسون الذي يشترك مع دونالد ترمب في كونه بعيداً من العمل السياسي التقليدي. وأطلق لوكسون شعار “لنعد نيوزيلندا إلى المسار الصحيح”، في صدى واضح لشعار ترمب الشهير “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”.
وشكل لوكسون حكومة ائتلافية ضمت تحالفاً مع ديفيد سيمور زعيم حزب “آكت”، وونستون بيترز زعيم حزب “نيوزيلندا أولاً”. وعلى رغم أن ثقافة شعب الماوري تمثل حجر الأساس في هوية نيوزيلندا (أوتياروا) فإن بيترز تبنى حركة مثيرة للجدل تحت شعار “الإنجليزية أولاً”، تهدف إلى إقصاء لغة الماوري من المؤسسات الحكومية. وتجلت هذه السياسة حين أصدر بول غولدسميث وزير الفنون والثقافة والتراث توجيهاته بحذف لغة الماوري من الدعوات الرسمية للاحتفال بـ”ماتاريكي”، وهو عيد تقليدي مقدس لدى شعب الماوري. ولم يقف الأمر عند هذا الحد إذ تقدم سيمور بمشروع قانون مثير للجدل حول “مبادئ معاهدة وايتانغي” والذي يهدف في جوهره إلى تقييد حقوق شعب الماوري وتقليص فرص وصولهم إلى العدالة، من خلال إعادة تفسير هذه المعاهدة التاريخية (التي تنظم العلاقة بين السكان الأصليين والمستوطنين).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن السلوك السياسي المثير للجدل في نيوزيلندا لم يكن وليد عهد لوكسون أو نتيجة لتأثير ترمب. فخلال دراستي داخل كلية الحقوق في جامعة أوكلاند، كانت قضية “فيتزجيرالد ضد مولدون” – وهي قضية دستورية تاريخية- جزءاً أساساً من المنهج الدراسي خلال العام الأول.
ففي عام 1974 خاض روبرت مولدون حملته الانتخابية لرئاسة الوزراء، متعهداً بإلغاء نظام المعاشات التقاعدية الممول من الضرائب في نيوزيلندا. وما إن فاز بالانتخابات حتى ظن أن بإمكانه إلغاء البرنامج دون انتظار موافقة البرلمان. وبهذا التصرف خرق مولدون وثيقة الحقوق النيوزيلندية لعام 1688 التي تنص صراحة على أن “تنفيذ القوانين دون موافقة البرلمان يعد إجراء غير قانوني”. وفي تشابه لافت مع القضايا القانونية العديدة التي واجهت ترمب انتهت المحكمة إلى إعلان خرق مولدون للقانون، إلا أن مولدون وفي سيناريو يذكرنا بترمب أيضاً استمر في منصبه كرئيس للوزراء دون إبداء أي ندم، بل على العكس راح يشكو للرأي العام سوء المعاملة التي تعرض لها.
بعبارة أخرى، فإن نيوزيلندا — وأي مكان آخر في العالم تحدث الأميركيون عن الانتقال إليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة — ليس بالضرورة المدينة الفاضلة التقدمية التي قد يتصورها البعض.
وفي هذا السياق، قدم المذيع الأميركي الشهير جيمي كيميل نصيحة مغايرة للديمقراطيين الساخطين إذ دعاهم إلى عدم الهجرة خارج البلاد، مقترحاً عليهم بدلاً من ذلك الانتقال إلى ولايتي بنسلفانيا أو فلوريدا، إذ الحاجة ماسة لأصواتهم. وبالنسبة لي ولزوجي فنحن ما زلنا نواصل التصويت في الانتخابات الأميركية، وفي النهاية نحن مواطنان أميركيان. لكن السؤال الذي يؤرقني حين نجد أنفسنا وسط نقاشات سياسية حادة في بلدنا المستضيف -وهي النقاشات التي هاجرنا أصلاً لتجنبها- هل من واجبنا تثقيف الآخرين أم نلتزم الصمت؟ لقد وجدت نفسي ذات مرة في مواجهة حادة مع إحدى السكان المحليين خلال حديث عابر، حين أبدت رأياً مفاده أنه لا يمكن لأحد -حتى لو كان ترمب الذي فاز بولاية ثانية- أن يكون أسوأ من بايدن. فرددت عليها بانفعال كديمقراطية غاضبة “إن لم تعيشي التجربة بنفسك، فليس من حقك التعليق عليها”.
وفي موقف مشابه تحولت مكالمة هاتفية عادية بين زوجي وأحد موظفي البنوك في أوكلاند، بدأت بحديث ودي عن عطلة إلى نقاش سياسي استمر 45 دقيقة، حاول خلالها زوجي تفنيد الاعتقاد أن ترمب هو أعظم سياسي عرفه التاريخ.
وسألت زوجي لاحقاً “هل نجحت في تغيير رأيه؟”
فأجاب “لا، لكنني قررت من الآن فصاعداً حين يسألني أي شخص عن ترمب، أن أكتفي بالقول إنني سعيد بوجودي هنا”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية