مدن المغرب تختنق وسكانها يعانون شتى أنواع الأمراض

يقف المكي المتقاعد في نهاية عقده الخامس أمام صيدلية دأب على شراء ما يلزمه منها من أدوية، وينتظر دوره ليقتني بخاخ الربو الذي يلازمه منذ أعوام طويلة، بمدينة المحمدية غرب المغرب، والمعروفة بـ “عاصمة الزهور”.

ويُرجع المكي مرض الربو والحساسية التنفسية الذي يكابده إلى تلوث هواء المدينة الذي يستنشقه جراء وجود معامل بتروكيماوية غير بعيدة من بيته.

غير أن المكي ليس وحده من يشعر بالاختناق من الهواء الملوث، فإذا كان سكان المحمدية يشكون الاختناق فإن آلافاً من قاطني مدينة القنيطرة ليسوا بحال أفضل، فضلاً عن سكان مدن صناعية كبرى وعلى رأسها الدار البيضاء.

وتفيد أرقام جمعيات مدنية بأن تلوث الهواء يكبد المغرب خسائر بشرية ومادية كبيرة، إذ يفضي إلى وفاة أكثر من خمسة آلاف شخص، مما يعني 15 حالة وفاة في اليوم، كما يستنزف خزينة الدولة بخسائر مالية تقدر بـ11 مليار درهم كل عام (1.1 مليار دولار أميركي).

المحمدية… ذبول الأزهار

يلخص المكي، ابن مدينة المحمدية التي ولد وشبّ وشاب فيها، ما سماها كارثة الهواء الملوث التي تخنق أنفاس السكان بأشكال مختلفة، بسبب انبعاث غازات سامة من مصانع بتروكيماوية، مشيراً إلى أنه على رغم توقف أحد المصانع منذ أعوام، “فإن مصانع أخرى لا تزال تحيط بخاصرة المدينة وتتسبب في تلويث الهواء بصورة فادحة، بل تسهم حتى في ذبول أزهار المدينة التي اشتهرت بها”، ويستطرد المكي قائلاً إنه لما كان في عقده الثالث لم تكن تظهر عليه أعراض المرض، غير أنه مع توالي الأعوام تفاجأ بأن شرايين صدره بدأت تضيق وبات يتنفس بصعوبة، ليكتشف أنه أصيب بداء الربو الشديد، مورداً أن الطبيب أبلغه أن هذا الربو هو نتيجة للجسيمات الملوثة التي يستنشقها يومياً في “مدينة الزهور”.

ويسجل الرجل الخمسيني ملاحظة تتمثل في انتشار قوارير بخاخ الربو ملقاة على الأرض وفي قمامات المدينة، استدل بها على معاناة قاطني المحمدية من مشكلات التنفس بسبب تلوث الهواء، مما جعلهم يختنقون شيئاً فشيئاً ويطلبون هواء نقياً بعيداً من الغازات السامة المنبعثة من تلك المعامل.

أمراض الأطفال

وأكد الناشط البيئي في المدينة عمر بنحساني ما ذهب إليه الرجل الخمسيني، بل زاد بأن أكثر الأدوية التي تنال منها الصيدليات أرباحاً كبيرة هي بخاخ الربو وأدوية التنفس والحساسية الصدرية، حتى اعتاد الناس هذا الوضع الذي لم يجدوا له حلاً سوى الرحيل لمن يستطيع، وليست لديه التزامات مهنية أو أسرية تحتم عليه البقاء وسط مدينة الزهور التي بدورها “ذبلت بسبب التلوث والإهمال”، واضاف “الأصعب ليس مرض الأشخاص الكبار، فهؤلاء يستطيعون مقاومة الربو أو الحساسية التنفسية بشكل أو آخر، غير أن المصيبة هي تلك التي تحل بالأطفال الصغار الذين تتربص بهم مشكلة تلوث الهواء في هذه المدينة، فالوضع سيفرز أجيالاً قادمة مريضة”.

وسبق لدراسة رسمية أجرتها الوزارة المكلفة بالبيئة أن أكدت هذه المعطيات والتحذيرات التي أعلنها نشطاء البيئة، من خلال دراسة تتبعت مؤشرات التلوث الهوائي متمثلة في أول أوكسيد الكربون وأوكسيد الأزوت وثاني أوكسيد الكبريت والمواد الدقيقة المنقولة.

ووفق نتائج الدراسة فقد تبين ارتفاع نسبة حالات نوبات الربو 41 في المئة والسعال الجاف الليلي 54 في المئة، لتخلص نتيجة الدراسة إلى أن “الأطفال أكثر عرضة لتأثيرات التلوث الهوائي في الصحة، وعلى رأسها الربو”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلوث الدار البيضاء

مدينة الدار البيضاء بدورها تعد إحدى أكثر المدن المغربية تعرضاً للاختناق الهوائي، بالنظر إلى طبيعتها الاقتصادية المعتمدة أساساً على الصناعة، إذ تضم أكبر عدد من المعامل والأحياء الصناعية المختلفة في البلاد.

وذكر موقع “نومبيو” المتخصص في رصد مؤشر جودة الحياة وتتبع المؤشر الدولي للتلوث العالمي أن مدينة الدار البيضاء جاءت في المرتبة الرابعة عالمياً عام 2023 من بين 248 مدينة حول العالم.

وأفادت الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة بأن سكان جهة الدار البيضاء التي تؤوي ما يعادل نصف النشاط الصناعي بالمغرب، معرضون أكثر من غيرهم للإصابة بالأمراض التنفسية بسبب تلوث الهواء، كاشفة عن أن “الدار البيضاء تضم قرابة 20 في المئة من المصابين بالأمراض الناتجة من تلوث الهواء”.

وأظهرت دراسة رسمية سابقة أنه عند ارتفاع نسبة التلوث إلى مستوى مرتفع (87 ميليغراماً من الأدخنة السوداء في المتر المكعب من الهواء)، سُجل ارتفاع مؤشرات صحية عدة في الدار البيضاء، منها تسعة في المئة من الوفيات وستة في المئة من الاستشارات الطبية الخاصة بالربو، و8.7 في المئة من الاستشارات الطبية لأمراض القصبات الرئوية.

ولمواجهة التلوث الهوائي وأخطاره أفردت الإدارة المعنية بتسيير شؤون مدينة الدار البيضاء زهاء 1.5 مليون دولار لرصد جودة الهواء ومحاربة التلوث المتفشي في أرجاء المدينة.

سر الغبار الأسود

بدورها تواجه مدينة القنيطرة (غرب البلاد) تلوثاً خطراً للهواء يحكي عنه ابن المدينة لحسن العجل بالقول إن “غباراً أسود يتراكم على واجهة المنازل وفي الأسطح، وتتسخ الملابس وتتحول الأماكن والفضاءات إلى مشاهد سوداء”.

وأرجع المتحدث ذاته انتشار هذا الغبار الأسود في سماء مدينة القنيطرة إلى ما تفرزه مصانع تحرق المطاط والعجلات مع معامل النسيج وغيرها، من أدخنة سوداء تتحول إلى غبار تنقله الريح إلى كل مكان في المدينة.

وأطلقت فعاليات بيئية ولا تزال حملات رقمية وميدانية تروم التحذير من أخطار الآفة، وتضم نداءات إلى المسؤولين من أجل إنقاذ مدينة القنيطرة من أخطار هذا التلوث الهوائي الذي أزكم الأنوف وخنق الصدور.

وأكد الباحث البيئي أيوب كرير، ابن مدينة القنيطرة، وجود طبقات رقيقة من غبار أسود متكونة من شظايا وحبيبات دقيقة تنتشر على أسطح البيوت وفوق سيارات المواطنين وزجاج النوافذ، مما يتسبب في مشكلات بيئية وصحية خطرة. وعزا كرير هذا التلوث الهوائي الذي يظهر للعيان على شكل غبار أسود صُور في فيديوهات كثيرة إلى “انبعاثات المحطات والمصانع الموجودة في المناطق الصناعية بمدينة القنيطرة”.

وإلى جانب النشطاء البيئيين أخذت أحزاب سياسية على عاتقها دق ناقوس الخطر في شأن أخطار تلوث الهواء داخل كثير من مدن المملكة، إذ نقلت هذه التخوفات والتوجسات إلى قبة البرلمان لمساءلة وزراء الحكومة المكلفين بملف البيئة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية