هي واحدة من أشهر الثلاثيات في تاريخ الأدب الإنجليزي المعاصر ولو لمجرد أنها تميزت، من خارجها، بفوز مزدوج عبر الحصول على جائزة “بوكر” الأدبية التي طبعت الرواية الإنجليزية خلال العقود الأخيرة. ولأنها علاوة عن ذلك أعادت هذا الصنف الروائي، الرواية التاريخية، إلى الواجهة من جديد، كما أعادت في سياق ذلك سيرة توماس كرومويل إلى تلك الواجهة، ولكن تحت قناع آن بولين الملكة البريطانية التي عاشت وماتت تحت ظل الملك المزواج هنري الثامن الذي كان كرومويل نفسه مستشاراً له وبنى تحت حكمه أول قوانين إصلاحية في بريطانيا تخرجها من الكاثوليكية البابوية معطية للملك هنري الثامن حكماً مطلقاً يجعل سلطته من دون سقف. وذلك قبل أن ينقلب كرومويل عليه فيدفع الثمن غالياً.
3 إعدامات كبرى
والحقيقة أن الانطباع الأول الذي يخامر من يجابهه الجزء الأول من الثلاثية وعنوانه “المستشار: في ظل آل ثيودور” هو أن ذلك الجزء يتحدث في صفحاته التي تربو على الـ800 صفحة، إنما يتحدث عن أن المستشار المعني هنا إنما هو السير توماس مور الذي كان متعصباً لكاثوليكيته ومنافحاً عن سلطة الملك وحريته في اختيار مصيره ومصير الدولة قبل أن ينقلب عليه سيده ويأمر بإعدامه لمجرد أنه عارض زواجه من آن بولين كزوجة خامسة. من ثَم سجل بذلك، الإعدام الضخم الأول في الثلاثية كما سجل الفصول الأولى من سيرة كرومويل الذي كان هو المعني بالعنوان الإجمالي علماً أن الجزء الثاني من هذه الأخيرة يحمل عنوان “المستشار: السلطة” وينتهي بالإعدام الثاني وهو إعدام آن بولين نفسها بأمر من الملك، ولكن بإيعاز من كرومويل الذي كان يساند الملكة الحالية جين التي خرجت من تلك المعركة منتصرة. أما الجزء الثالث فعنونته الكاتبة “المستشار: المرآة والضوء” هو يشغل هذه المرة أكثر من 1000 صفحة بعدما شغل الجزء الثاني ما يزيد قليلاً على 400 صفحة. ولعل هذه الضخامة في حجم الجزء الأخير ناتجة من أن موضوعها هذه المرة “مغامرة المستشار نفسه” كرومويل وأعماله، الذي يشكل إعدامات في نهاية الأمر، ثالث إعدام ضخم في هذا العمل الجبار الذي أبدع في تحويل التاريخ إلى متخيل روائي من مستوى رفيع. والحقيقة أن هيلاري مانتل التي رحلت عن عالمنا في عام 2002 أي في العام نفسه الذي أنجزت فيه ترجمة الجزء الأخير من ثلاثيتها، إلى عدد لا بأس به من اللغات وبينها الفرنسية، رحلت مطمئنة النفس غير غاضبة لأن ذلك الجزء الثالث لم يفز ببوكر ثالثة، ما كان من شأنه أن يشكل سابقة فريدة من نوعها في تاريخ هذه الجائزة الأدبية الرفيعة. فالحال أن مجرد حصول هيلاري على بوكر مرتين عن الجزء الأول ثم الثاني شكل حدثاً نادراً ومعجزة أدبية كبيرة حافلة بالعطاء والنجاح.
في ثنايا التاريخ
منذ الجزء الأول من “المستشار” إذاً، تضعنا الكاتبة في دهاليز السياسات الكبرى في تلك الأمة التي كانت من أقوى أمم الأرض وقوية إلى درجة أن عاهلها عرف كيف يتصدى للقوة الأوروبية الأقوى: البابا وسلطته. ونعرف أن ذلك التصدي الذي طبع تاريخ بريطانيا كان يتخذ في ظاهره طابع الصراع الديني والعقائدي غير أنه سرعان ما يتكشف عن كونه أكثر خصوصية بكثير. إذ على مجرى صفحات الجزء البالغة كما قلنا 800 صفحة يتصاعد الصراع من دون أن تكون لهنري الثامن فيه توجهات دينية خاصة، بل رغبات نسائية، إذ إن شروع الملك في الزواج من امرأة بعد الأخرى حرك غضب الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تحظر الطلاق كما تمنع تعدد الزوجات. وفي ذلك المضمار لم يتردد الملك عن اللجوء إلى رجل العلم الأكبر في تلك الديار، حينها، المفكر والعالم توماس مور الذي سيكون كتابه الضخم “اليوتوبيا” من أعظم منتجات الفكر السياسي الإنساني، لدعمه لدى البابا والتخفيف من حدة اعتراض الكنيسة على سلوكه النسائي “المشين”. لكن مور سيفشل في مهامه وليس فقط لأنه وهو المقرب من البابا لم يتمكن من إقناع هذا الأخير بغض النظر عما يفعله الملك، بل لأنه هو نفسه لم يكن مقتنعاً بسلوك الملك وافترض أن مهمته الرئيسة تقوم في إقناع الملك بالتوقف عن استبدال كل زوجة جديدة له بتالية لها. ولسوف يأتي تدخل كرومويل في الأمر من منطلق عدائه الشخصي والفكري لتوماس مور ليصب تدريجاً الزيت على نار التناقض بين المفكر وهنري الثامن وصولاً إلى استصداره ذلك الأمر التاريخي بإعدام صاحب “اليوتوبيا”. وتم الإعدام بالفعل ليخلو الجو لكرومويل محققاً مأربه فيما الملك يلهو بزواجه الجديد. وكما أسلفنا يكون ذلك الإعدام خاتمة حياة توماس مور كما خاتمة الكاثوليكية في إنجلترا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إعدام امرأة
إذاً بعد الصفحات الطويلة، التي رسمت فيها هيلاري مانتل مناخات الحياة الملكية في لندن ومجرى الصراعات الدينية، تأتي الصفحات القليلة التي تشكل الجزء الثاني من “المستشار” كما تتقلص الأعوام الثماني التي وصفت الكاتبة تلك الحياة من خلالها، ليقتصر الأمر هنا على تسعة أشهر لم تخرج فيها الأحداث عن تصوير تلك الفترة التي تشهد توطيد كرومويل لسلطته مستفيداً من الغياب النسبي للملك الذي بات من الواضح أنه غير مهتم تماماً في تلك الحقبة بشؤون الحكم متخلياً لمستشاره الجديد عن التفاصيل فيما يعزز هذا علناً وفي الخفاء سلطاته النازعة إلى توطيد الإصلاح، المعتمد إلى حد كبير على انتصارات البروتستانتية في أنحاء عديدة من الشمال الأوروبي، لكن ليس لغايات عقائدية، بل لغايات تغلب عليها النزعة الشخصية كما يشير العنوان بكل وضوح. وكما بتنا نعرف، بل حتى من طريق السينما التي في نفس الحقبة التي ظهر فيها ذلك الجزء الثاني من الرواية، أعادت إلى الشاشة الكبيرة حياة آن بولين ومأساتها في فيلم تناول جانباً آخر من حكاية تلك المرأة البائسة هو المتعلق برغبة هنري الثامن في تزوجها وعينه تراقب أختها بكل اهتمام!
نهاية المستشار
وفي النهاية لئن كان الصراع الذي بين آن بولين وجين تحت مراقبة المستشار الداهية كرومويل، قد شغل صفحات عديدة من الجزء الثاني، فإن متابعة هذا الأخير صعود والملك لاه عنه بشؤونه النسائية المعتادة، تشغل المئات من صفحات الجزء الأخير من الثلاثية وقد باتت الأحداث تدور جميعها من حول كرومويل الذي يكثف من تحركاته، وقد بات يؤمن بأن الأمور ستؤول إليه في نهاية المطاف وصولاً إلى تحوله إلى السيد المطلق لتلك الأمة عبر حكم “جمهوري” إصلاحي يضحى هو وتحت قبة البرلمان الذي حلم بولائه المطلق له، ملك البلاد الجمهوري بالفعل. ولكن وكما يقول شاعرنا العربي الكبير أبو الطيب “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن” فالدائرة تدور ويقع كرومويل ضحية لانقلابه وتماماً كما تسبب في الماضي بإعدام توماس مور ثم راقب راضي النفس إعدام آن بولين، ها دوره يحل الآن ليعدم بدوره في وقت آفاق فيه الملك من لهوه الطويل وسباته العميق مستعيداً ملكه حتى حين انتهت الكاثوليكية وتحولت إصلاحية كرومويل شبه البروتستانتية إلى عقيدة وسطية سميت أنغليكانية، لا تزال تسود بلاد الإنجليز حتى اليوم.
نقلاً عن : اندبندنت عربية