تجليات القلق في المدونة الروائية العربية

 في “قلق السرد” يتقصى نبيل سليمان موضوعه في مدونة روائية تتألف من روايات عربية عديدة، ويضع حيثيات التقصي والأحكام المترتبة عليها في مقدمة وسبعة فصول مختلفة، نتعرف فيها إلى أنواع من القلق في الرواية العربية، سواء منها المتعلق بالشكل أو المضمون، وإلى تمظهراته المختلفة. على أن ليس ثمة منهج نقدي محدد يتبعه سليمان في قراءته النقدية بل نراه ينطلق فيها من تجربته الروائية والنقدية الطويلة، ومن ثقافته الأدبية الواسعة، مما يجعل الموضوعي مشتبكاً بالذاتي، والمنهجي مختلطاً بالانطباعي، ويخفف النص من صرامة المنهج وجفاف الأكاديميا. وفي هذا السياق، تندرج آلية استثماره روايات المدونة التي تختلف من فصل إلى آخر، وقد تتعدد آليات الاستثمار في الفصل الواحد.

 ففي الفصل الأول المعنون بـ”الجغرافيا الروائية”، يستخدم المقاطع القصيرة في الروايات المتعلقة بالهند ولبنان، ويدرجها في سياق علائقي للتعبير عن استنتاجاته وأحكامه. ويستخدم المقاطع المتوسطة الطول في الروايات التي تحيل على العراق. ويستخدم التحليل النقدي في الروايات التي تتخذ من الصين عالماً مرجعياً لها، مما يوفر للفصل التنوع في العوالم المرجعية وتقنيات الاستثمار، على سبيل المثال. وهو في حين يفرد في الفصل الثاني المعنوان بـ”الرواية العربية والفنون” دراسة وافية لكل من الروايات المدروسة في هذا الفصل، نراه في الفصل الثالث المعنون بـ”في الفن الروائي”، وهو عنوان عام يصلح لكتاب أكثر مما يصلح لفصل، يتناول مسائل فنية ويرصد تمظهراتها في الروايات، من خلال مقاطع محددة، وهنا تتحول الرواية المدروسة إلى وسيلة لتظهير المسألة المدروسة، ولا تعود غاية بذاتها تحظى بالحيز الكافي من التحليل. وبذلك، تتعدد تقنيات الاستثمار وآليات المقاربة والعوالم المرجعية في الروايات المدروسة. على أن التعدد الأهم في الكتاب يتعلق بأنواع القلق السردي، بدءاً من القلق الجغرافي، مروراً بالقلق العلائقي والقلق الروحي والقلق الأجناسي، وصولاً إلى قلق الهوية. ولكل من هذه الأنواع تمظهراته في المدونة المدروسة. وهو ما يشكل موضوع هذه القراءة.

 القلق الجغرافي في الكتاب يتناوله سليمان من خلال اختيار عوالم مرجعية قلقة، على المستوى الجغرافي، وآلية التعاطي مع الروايات التي تحيل إلى هذه العوالم، وفي هذا السياق، يختار المكونات الجغرافية، العراقي واللبناني والهندي والصيني، وهي مكونات قلقة لأسباب مختلفة، تتعلق بالحروب المندلعة فيها وعليها أو بالموقع الجغرافي، ويرصد تمثلات هذه المكونات في الرواية العربية من خلال روايات لواسيني الأعرج وأمين الزاوي وحنا مينا وميسلون هادي وغيرهم. على أن آليات الرصد تختلف بين مكون جغرافي وآخر، وتراوح ما بين تعداد الأماكن الكبرى والصغرى في المكون العراقي، وتلمس صورة بيروت، ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها، في المكون اللبناني، وتقصي صورة الهند في التراث السردي العربي والروايتين الرائدة والمعاصرة، والتحليل النقدي لروايات المكون الصيني. وهذه الآليات تجمع، على المستوى النوعي، بين التوثيق المكاني والدرس النقدي والانطباع العابر والحكم المبرم. وتراوح، على المستوى الكمي، بين الخلاصة الموجزة والتحليل المسهب للرواية المدروسة.

 القلق العلائقي في الكتاب يتقصاه المؤلف في تعالق الرواية مع عدد من الفنون التشكيلية والأنواع الأدبية، وفي هذا الإطار، يتناول علاقتها بالنحت من خلال روايات لحسن صقر وزياد كمال حمامي وريم الكمالي وحسين السكاف. ويتناول علاقتها بالموسيقى من خلال روايتين لواسيني الأعرج وأحمد عبداللطيف. ويتناول علاقتها بالرسم من خلال رواية لأمين الزاوي. ويتناول علاقتها بالشعر من خلال روايات لخليل الخوري وفرنسيس المراش وحبيب عبدالرب سروري وممدوح عدوان. ويتناول علاقتها بالسيرة من خلال روايات لحسين البرغوثي وهالة البدري وحسن صقر. وفي هذا التناول، غالباً ما تكون الرواية في موقع المتأثر بالفن أو النوع وليست في موقع المؤثر فيه. لذلك، يتمظهر التأثر في عنوان الرواية أو في جعل الفنان شخصية روائية أو في تناول الرواية شخصية موسيقية معينة أو في تمحور الرواية حول شاعر معين. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن تأثير الشعر في الرواية يتعدى هذا التمحور إلى التعدد اللغوي وتعزيز الهجنة اللغوية والتزيين والإيحاء بشعبية الفضاء الروائي أو نخبويته من خلال استخدام الشعر الشعبي أو الكلاسيكي. وهو ما يرصده نبيل سليمان في الروايات ذات الصلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 القلق النفسي

 النوع الثالث من القلق الذي نقع عليه في الكتاب هو قلق الروح والعبارة الناجم عن تأثر الرواية الحديثة بالصوفية، منذ ثمانينيات القرن الـ20، وهو ما يتمظهر في المعجم الصوفي، أو الشخصية الروائية، أو تبني بعض روايات الدعوة الصوفية، أو تمحور بعضها الآخر حول شخصية تاريخية صوفية. على أن اشتغال الرواية الحديثة بالصوفية شكل مصدر إغناء لها، وهو ما يشير إليه نبيل سليمان بالقول، “لقد اغتنت جماليات الحداثة الروائية باشتغال الصوفية في الرواية، سواء تعلق الأمر بالتخييل أم بالحفر في التراث أم باللغة، من دون أن نغفل أن من ذلك الاشتغال ما كان تحت وطأة الهزائم السياسية والاضطرابات الفكرية والاجتماعية” (ص 81، 82). ويضرب الأمثلة على ذلك بروايات للطاهر وطار وجمال الغيطاني والميلودي شغموم وسالم حميش وغيرهم.

 أما النوع الرابع من قلق السرد في الكتاب فيتعلق بالتجنيس النصي. وتتعدد المصطلحات التي تطلق على النوع الأدبي الواحد، وتراوح ما بين القصة الطويلة والرواية القصيرة والرواية العادية والرواية الطويلة والمطولة الروائية. وغني عن التعبير أن معيار التمييز بين هذه المصطلحات هو معيار كمي يتعلق بعدد صفحات الرواية بينما المفروض أن يكون المعيار نوعياً يتعلق بروائية الرواية، وهو ما يذهب إليه سليمان في كتابه من أن ما يحدد النوع الروائي هو روائية الرواية وليس حجمها. ويشير، في هذا السياق، إلى أن “الأجنحة المتكسرة” 1912 لجبران خليل جبران هي رائدة الرواية القصيرة العربية والعالمية، وأن نجيب محفوظ وسليمان فياض وعبدالحكيم قاسم ومحمد البساطي في مصر، وغسان كنفاني في فلسطين، وغالب هلسا في الأردن، هم من أوائل كتاب الرواية القصيرة في بلدانهم. وفي المقابل يشير إلى أن واسيني الأعرج الجزائري، وعبدالرحمن منيف العراقي/ السعودي، وأحمد إبراهيم الفقيه الليبي، وأحمد المديني المغربي، ونبيل سليمان السوري، هم من أوائل من كتبوا المطولات الروائية في بلدانهم.

 أنواع أخرى

  إلى ذلك، ثمة أنواع أخرى من القلق في الكتاب من قبيل: أ ـ قلق الهوية، لا سيما الفلسطينية منها، وهو ما يفرد له سليمان الفصل السادس الذي يرسم فيه صورة فلسطين في الروايتين الفلسطينية والسورية. ب ـ قلق العنوان الذي يعانيه الروائي. ويتمظهر في: تشابه بعض العناوين، واشتراك بعضها في الكلمة الأولى من العنوان، وتكرار بعضها الآخر حرفياً. ويضرب الأمثلة على هذه التمظهرات، ويعد جدولاً مفصلاً بها. ج ـ قلق الإيقاع الذي يتمظهر في التكرار النصي أو المكاني أو الزماني أو الشخصي أو الحدثي، والإيقاع “قد يكون كلمة أو جملة أو صورة أو حدثاً أو شخصية” (ص 91). وهو ما يؤدي إلى “ضبط بنية النص ومعماره وإضفاء الحيوية وروح الحركة والنظام عليه” (ص 88)، كما ينقل الدارس عن إيكو.

 “قلق السرد” كتاب يستند إلى مدونة روائية واسعة، ويعكس تجربة طويلة في معاقرة الرواية، سواء من موقع الكتابة أو القراءة، مما يجعله محفوفاً بالمؤانسة والإمتاع.  

نقلاً عن : اندبندنت عربية