على مدى عقود من الزمان، كان التحالف عبر الأطلسي يشكل حجر الأساس للأمن الأوروبي. ولكن اليوم أصبحت شراكة أوروبا مع الولايات المتحدة أمام منعطف حاسم. فمع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، هناك خطر حقيقي بأن يتراجع التزام الولايات المتحدة تجاه أوروبا بصورة كبيرة. وإذا أوقفت واشنطن مساعداتها العسكرية لكييف فإن العواقب ستكون وخيمة، سواء بالنسبة إلى الحرب في أوكرانيا أو إلى بقية الدفاعات الأوروبية ضد التهديدات الخارجية، وعلى رأسها روسيا الطامحة للانتقام.
وعلى رغم أن ولاية ترمب الثانية ستؤدي على الأرجح إلى تحول جذري في السياسة الأميركية، فإن الواقع هو أن الاستياء من مساهمة أوروبا في الشراكة عبر الأطلسي ظل يتصاعد في الولايات المتحدة لأعوام عديدة. ومع ذلك، أهدرت أوروبا وقتاً كان يجب أن تستغله في الاستثمار بصورة أكبر في هذه العلاقة، بما في ذلك تعزيز دفاعاتها الخاصة. وكان من المفترض أن يكون غزو روسيا لأوكرانيا خلال عام 2022 بمثابة التحذير الأخير الذي يولد زخماً حقيقياً يدفع أوروبا نحو تعزيز دور أمني موثوق ومستقل في حد ذاته، لكن بدلاً من ذلك اعتمدت أوروبا مرة أخرى على الولايات المتحدة لتقود زمام الأمور في حرب أوروبية. والآن، بات هذا الخيار البديل [المتمثل في الاعتماد على الولايات المتحدة] مهدداً بالتلاشي، ولا يمكن للقادة الأوروبيين ببساطة تحميل واشنطن وحدها مسؤولية وضعهم الحالي.
يجب على القادة الأوروبيين التحرك بحزم من أجل تطوير استراتيجية موحدة تضمن سلام القارة واستقرارها. وعليهم أن يسرعوا الدعم الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا، ويبدأوا في بذل جهود جادة لإنشاء صناعة دفاعية أوروبية متكاملة، ويثبتوا للولايات المتحدة أن أوروبا مستعدة للوفاء بدورها في الشراكة ذات المنفعة المتبادلة. ومن الآن فصاعداً يجب أن يكون أمن أوروبا مسؤولية أوروبية بحتة، وإلا فلن يستتب في القارة على الإطلاق.
لا عودة إلى الوراء
منذ دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، عدت الأمن الأوروبي مصلحة أساس لها. فدعم الاستقرار والسلام في أوروبا كان شرطاً أساساً لتمكينها من ممارسة نفوذها على المستوى العالمي. لكن انخراط واشنطن مع أوروبا لم يكن مسألة استراتيجية فحسب، بل كان أيضاً تحالفاً قائماً على القيم يرتكز على التزام مشترك بالدفاع عن الديمقراطية ضد الديكتاتورية. وخلال الحرب الباردة تعززت الشراكة عبر الأطلسي بصورة أكبر. وأدى تشكيل حلف شمال الأطلسي خلال عام 1949 إلى إنشاء مظلة أمنية أميركية مكنت أوروبا من إعادة الإعمار والازدهار، وعلى مدى العقود العديدة اللاحقة حققت الشراكة الاقتصادية والعسكرية بين الولايات المتحدة وأوروبا نجاحاً هائلاً.
ومع نهاية الحرب الباردة وبداية حقبة جديدة من الهيمنة الأميركية الأحادية، ظهرت حال خطرة من التراخي على جانبي الأطلسي، ودفع الاستقرار النسبي خلال هذه الفترة دولاً أوروبية متعددة إلى تقليص إنفاقها الدفاعي، معتقدة أن الحرب انتهت إلى الأبد داخل القارة. وأعيد تشكيل معظم الجيوش الأوروبية للتركيز على التدخلات الخارجية، فأهملت قدراتها على الدفاع عن الوطن. وفي الوقت نفسه، تورطت الولايات المتحدة في صراعات مكلفة في الشرق الأوسط أدت إلى استنزاف مواردها بصورة كبيرة.
وخلال تلك الأعوام، تجاهلت أوروبا والولايات المتحدة التهديدات المتصاعدة أو قللت من أهميتها. فمنذ نحو عقد من الزمن بدأت التحديات الروسية والصينية للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة تتزايد. وفي عام 2014 ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وشنت حرباً داخل منطقة دونباس في أوكرانيا. وبعد تولي شي جينبينغ زعامة الصين عام 2012 أجرى إصلاحات في سياسات الصين الاقتصادية والخارجية، وعزز مكانة البلاد كقوة عالمية عازمة على الوقوف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة. وفي الداخل، واجهت الدول الغربية الآثار السلبية للعولمة بما في ذلك التراجع الصناعي وانخفاض القدرة التنافسية، وانهيار التماسك الاجتماعي والاستياء من الوضع السياسي القائم.
من الآن فصاعداً يجب أن يكون أمن أوروبا مسؤولية أوروبية بحتة، وإلا فلن يستتب في القارة على الإطلاق
خلال حملته الانتخابية للرئاسة الأميركية عام 2016، استطاع ترمب أن يستغل بفعالية الاستياء العام الناجم عن هذه المشكلات. وفي الواقع، شعر عدد كبير من الأميركيين بالإحباط من القيادة العالمية، وغضبوا من إنفاق مبالغ طائلة من أموال دافعي الضرائب على الأنشطة الأميركية في الخارج، بينما كانت بعض المناطق في البلاد تعاني. ولاقى تعهد ترمب بوضع “أميركا أولاً” ومطالبة الحلفاء بدفع نصيبهم من الكلف تأييداً واسعاً. وما لم يدركه كثر على الجانب الآخر من الأطلسي إلا بعد فوات الأوان أن صوت ترمب على رغم أنه الأكثر صخباً ربما، كان يعبر عن شعور واسع الانتشار داخل المؤسسة السياسية الأميركية، في الأقل في ما يتعلق بأوروبا. وحتى سلف ترمب الرئيس باراك أوباما كان استنتج أن الولايات المتحدة يجب أن تقلص وجودها في أوروبا والشرق الأوسط لكي تتمكن من تحويل تركيزها نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
في الواقع، يجب التخلي عن الآمال الواهية التي تمسك بها عديد من القادة الأوروبيين منذ عام 2016، بأن أوروبا يمكنها ببساطة الانتظار حتى تنقضي فترة رئاسة ترمب. على رغم أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا جعلت إدارة بايدن تعيد ترتيب أولوياتها في ما يتعلق بالأمن الأوروبي، فإن هذا كان انحرافاً موقتاً في الاستراتيجية الأميركية وليس تغييراً عاماً. واليوم، لن يتراجع جميع القادة الأميركيين عن التزام واشنطن تجاه أوروبا بالسرعة نفسها التي تراجع فيها ترمب، ولن يتحدثوا عن التحالف بنفس حدة نبرته. ولكن بغض النظر عن هذه الاختلافات فمن المرجح أن يتفقوا مع مطلب ترمب الأساس بأن تتحمل أوروبا مسؤولية أكبر بكثير عن أمنها الخاص.
بالنسبة إلى أوروبا، لم يعد هناك وقت لإضاعته. وأعرب ترمب مراراً عن دعمه لوقف فوري لأية مساعدات عسكرية تقدمها الولايات المتحدة لأوكرانيا، ويجب على أوروبا أن تستعد لاحتمال أن تصبح للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية الطرف الرئيس المكلف إنهاء نزاع كبير في القارة. ويتمثل الخطر الأكبر في أن يسعى ترمب إلى التوصل إلى اتفاق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتجميد القتال. وفي الحقيقة، يدرك بوتين أنه بمجرد دخول ترمب في المفاوضات فسيواجه ضغوطاً محلية لإبرام صفقة، وهو أمر لا يواجهه بوتين. وهذا التفاوت يمنح الرئيس الروسي نفوذاً، وأي اتفاق ينتج من مثل هذه المفاوضات من غير المرجح أن يتضمن حماية كافية لأوكرانيا –من ثمَّ لأوروبا– من العدوان الروسي المستقبلي. إن قبول واشنطن بأهداف موسكو العسكرية سيقوض صدقية حلف شمال الأطلسي بصورة كبيرة، ويزعزع أسس البنية الأمنية في أوروبا.
بناء القدرات
لم يعد أمام أوروبا خيار سوى إدارة أمنها بنفسها. ولا شك في أنها تمتلك القدرات الاقتصادية اللازمة للقيام بذلك، فالناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي يعادل 10 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي الروسي. ولكن ما يعوق أوروبا هو الافتقار إلى الإرادة السياسية. ويتجلى هذا النقص في الإرادة بصورة واضحة عندما يتعلق الأمر بالدعم العسكري لأوكرانيا، إذ تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية المتخلفة تكنولوجياً والمتهالكة اقتصادياً زودت روسيا بعدد من قذائف المدفعية خلال العام الماضي يفوق ما قدمه الاتحاد الأوروبي بأكمله لأوكرانيا خلال الفترة نفسها. ونشأ هذا الوضع المؤسف على رغم أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بقاعدة صناعية قوية ويضم بين أعضائه أربعاً من أكبر 10 دول مصدرة للأسلحة في العالم.
إذاً، تحتاج أوروبا إلى تعزيز قدراتها الدفاعية، وبسرعة. لكن هذا المشروع يتطلب قيادة سياسية، وهو أمر يصعب تحقيقه حالياً. ففي ألمانيا، انهار الائتلاف الحكومي وسيقضي السياسيون داخل البلاد الأشهر المقبلة مشغولين في الانتخابات المبكرة المقررة خلال الـ23 من فبراير (شباط) 2025 ثم بعملية بناء الائتلاف الجديد. وفي فرنسا خسر الرئيس إيمانويل ماكرون غالبيته البرلمانية هذا الصيف، مما جعله في وضع ضعيف سياسياً. وفي الوقت نفسه، لا تزال علاقة الاتحاد الأوروبي بالمملكة المتحدة إحدى أكبر القوى العسكرية في أوروبا مليئة بالتوترات، على رغم الجهود الصادقة من كلا الجانبين لتحسين التعاون.
ولحسن الحظ هناك أعضاء آخرون في الاتحاد الأوروبي مثل بولندا ودول البلطيق والدول الإسكندنافية على استعداد لتولي زمام المبادرة. ويحاول رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك بالفعل جمع الدول الأوروبية الكبرى في حلف شمال الأطلسي لتحسين التنسيق في شأن أوكرانيا وزيادة الدعم لكييف. لكن أي تعزيز دفاعي كبير سيحتاج إلى قوة ألمانيا الاقتصادية ونفوذها السياسي لكي يكون ناجحاً، وهذا يعني أن الحكومة الجديدة في برلين ستحتاج إلى التعامل بجدية مع التحديات الأمنية في القارة وأن تكون على استعداد لتمويل جهود أوروبية أوسع نطاقاً.
إن ما يعوق أوروبا هو الافتقار إلى الإرادة السياسية
استعداداً لاحتمال تراجع الدعم الأميركي، تحتاج أوروبا أيضاً إلى زيادة دعمها المالي والعسكري لأوكرانيا بصورة كبيرة. ووفقاً لمؤشر دعم أوكرانيا الصادر عن معهد “كيل للاقتصاد العالمي”، فإن المساعدات العسكرية الإجمالية التي قدمتها ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة لأوكرانيا منذ بداية الحرب الشاملة تقل عن نصف ما أسهمت به الولايات المتحدة. وعلى رغم أنه قد لا يكون من الممكن سد الفجوة التي خلفتها الولايات المتحدة على الفور وبصورة كاملة، فإن الهدف يجب أن يكون الاقتراب قدر الإمكان من ذلك. بداية، ستحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى التوجه إلى الأسواق الدولية بما في ذلك الولايات المتحدة، لشراء أنظمة الأسلحة والذخيرة التي لا تستطيع أوروبا حالياً إنتاجها بكميات كافية. وينبغي لألمانيا على وجه الخصوص أن تتخذ خطوات كانت تؤخر تنفيذها لفترة طويلة للغاية، على غرار إرسال صواريخ “توروس” البعيدة المدى إلى أوكرانيا وإزالة القيود المتبقية التي تمنع كييف من استخدام الأسلحة الغربية لضرب أهداف عسكرية في عمق روسيا. ورفعت الولايات المتحدة أخيراً هذه القيود المفروضة على استخدام صواريخها من طراز “أتاكمز”، ويبدو أن فرنسا والمملكة المتحدة اللتين سلمتا بالفعل صواريخ كروز الخاصة بهما إلى أوكرانيا تحذوان حذوها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى المدى المتوسط والطويل، سيتعين على الاتحاد الأوروبي إعادة هيكلة قدراته الدفاعية وصناعته العسكرية إذا كانت أوروبا تريد دعم أمنها بصورة فعالة. وفي الوقت الحالي تشتري أوروبا الجزء الأكبر من أسلحتها من الخارج وهذه الممارسة يجب أن تنتهي، فالمزود الأمني الموثوق به يجب أن يكون قادراً على تلبية معظم حاجاته الدفاعية الخاصة. وسوف يتعين على أوروبا أن تتغلب على المصالح الذاتية الوطنية التي تعامل الصناعات الدفاعية على أنها مجرد امتدادات للسياسة الصناعية المحلية، وبدلاً من ذلك لا بد من إعادة تشكيل هذه الصناعات لخدمة المصالح الأمنية الأوروبية المشتركة. وسيتطلب ذلك من القوى العسكرية الرائدة في القارة، أي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا والمملكة المتحدة، قيادة عملية وضع استراتيجية أوروبية مشتركة. وعملياً، سيتضمن ذلك زيادة الإنتاج وتقليص الكلف من خلال دمج كل جزء من دورة الإنتاج، بدءاً من تخطيط القدرات ووصولاً إلى التطوير والمشتريات. وإذا أدير هذا التكامل بنجاح فستتمكن صناعة الدفاع الأوروبية من المنافسة على مستوى القطاع الدفاعي الأميركي.
تأمين مستقبل أوروبا
إن الفشل في إعطاء الأولوية للجهود الدفاعية الآن سيترك أوروبا عرضة للعدوان الروسي المستمر. وعلاوة على ذلك، فإن أي تردد في تحمل مزيد من عبء الدفاع القاري من شأنه أن يسبب توتراً في العلاقات عبر الأطلسي في وقت حرج. ولا شك أن الحفاظ على الولايات المتحدة كشريك أمني يصب في مصلحة أوروبا. ولكن من أجل تحقيق ذلك يتعين على أوروبا أن تكون استباقية، وأن تتعامل بصورة بناءة مع واشنطن للتوصل إلى توازن جديد في المسؤوليات ومناقشة الأهداف الأمنية المشتركة.
ويشمل هذا تحسين التعاون عبر الأطلسي في القضايا التي تتجاوز نطاق أوروبا. أولاً وقبل كل شيء يجب على الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك المفوضية الأوروبية والعواصم الوطنية، والولايات المتحدة تنسيق استراتيجياتهما لمواجهة محور القوى العدائية التي تعمل على تحدي النظام الدولي. فالصين وإيران وكوريا الشمالية تدعم الحرب الروسية في أوكرانيا من خلال توفير الأسلحة والبضائع ذات الاستخدام المزدوج، بينما تقدم روسيا دعماً للحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. إضافة إلى ذلك، استغلت الصين انشغال الغرب لكي توسع قوتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وخارجها. وتراقب بكين من كثب الاستجابة الغربية في أوكرانيا، معتبرة غزو روسيا نموذج خطة محتملة لشن هجوم على تايوان. وسيكون من غير الحكمة من جانب الولايات المتحدة وأوروبا النظر إلى هذه التهديدات بمعزل عن بعضها أو محاولة مواجهتها بمفردهما. إذا كان القادة على جانبي الأطلسي يريدون للنظام الليبرالي الدولي أن يستمر مع الولايات المتحدة في مركزه، فيجب عليهم معالجة هذه التحديات معاً.
بات من مسؤولية الأوروبيين الآن تحقيق إمكانات القارة كجهة أمنية موثوقة، من ثم إنقاذ العلاقات عبر الأطلسي وكبح جماح طموحات روسيا الإمبريالية. وإذا فشلت هذه الجهود وتراجع الدعم الأميركي فإن الثمن سيكون باهظاً. فمن دون دفاعات قوية تعترض طريقه لن يجد بوتين سبباً للتوقف عند أوكرانيا. وبعد عقود من السلام النسبي قد تصبح الحرب مرة أخرى سمة ثابتة من سمات السياسة الأوروبية.
• نوربرت روتغن عضو في مجلس النواب الألماني (البوندستاغ) ولجنة الشؤون الخارجية فيه. شغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بين عامي 2014 و2021، وكان الوزير الاتحادي المعني بالبيئة وحماية الطبيعة والسلامة النووية بين عامي 2009 و2012.
مترجم عن “فورين أفيرز” 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024
نقلاً عن : اندبندنت عربية