الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات 

في مدخل الكتاب يحرص الناقد إسماعيل ضيف الله على تأكيد انحيازه لاستخدام كلمة النسوية، وليس النسائية لوصف النماذج الروائية التي انتقاها كما يقول بعناية، “للبحث عن إجابات محتملة للسؤال البحثي لهذا الكتاب”. وحرص كذلك على إلقاء الضوء على أسباب انشغاله في الدراسة التي احتواها الكتاب بين مفهوم الأمة و”الرواية التاريخية” (وإن ظل المفهومان ملتبسين ومعهما مفهوم النسوية، باختلاف تعاريفها من ناقد إلى آخر)، وكيف كان تفكيره في الصلة بينهما وراء اختياره نصوصاً روائية بعينها، “لتحليل ما يربط بين النساء والأمة فيها”.

وعلى أية حال فقد أوضح ضيف الله في مدخل دراسته أنه إذا كانت الأمة مجتمعاً سياسياً متحيلاً بحسب بندكت أندرسون الذي عول على اللغة والتراث المكتوب في بلورة هذا التخيل في أذهان أفراد لم يتقابلوا وجهاً لوجه بالضرورة، فإن الروايات التاريخية النسوية تسعى إلى الكشف عن عدم تجانس تصورات الأمة بتمثيلها لعلاقات القوى الاجتماعية والثقافة بين الشخوص في سياقها التاريخي، ولا سيما بالاعتماد على مخططات سردية تتمكن بها الأصوات المهمشة لتعود العدالة الجندرية بين الأصوات السردية في المجالين الخاص والعام. ويضيف في هذا السياق: “لعل هذا سبب التفات النظرية النسوية للرواية وللنقد الثقافي بما يتيحه التحليل الثقافي للنصوص الروائية من إمكانات توظيف لمفهوم التمثيل والمنظور والصوت على نحو يفيد في الكشف عن سلطة التمثيل في تشكيل الهويات والمنظور المهيمن على هذا التشكيل في كل نص عن علاقات القوى فيه”، وفق ما ورد في بحث لهالة كمال عنوانه “النقد الأدبي النسوي والترجمة النسوية” نشر عام 2015.

آلية تحليل  

وفي خاتمة الدراسة نفسها رأى فضل الله أنه عثر على آلية تحليل للنصوص الأدبية، “تنسجم مع تقاطعات في المجتمعات العربية إزاء الهويات الجندرية والاجتماعية والدينية والوطنية”. واعتبر أن ذلك جاء منسجماً مع غاية هذه الدراسة، “وهو التمكين لصوت النساء العربيات لكي يكون مسموعاً وهن يقدمن تصوراتهن عن الأمة، ربما يكون له صدى يسهم في اتخاذ خطوات باتجاه مجتمعات عقلانية أكثر عدالة من الناحية الجندرية” ص 156. وهو أمر يفتح بلا شك مجالاً لسجال، “في الأقل في سياق استكمال التفاوض مع النقد الأدبي النسوي، بشكل أو بآخر”. وهو ما يحبذه فضل الله نفسه عبر مقترحات عديدة اشتملت عليها دراسته، من قبيل تقديم إعادة قراءة تاريخ الرواية التاريخية في كل دولة عربية، “في ضوء تقاطعات الهوية الجندرية مع الطبقة الاجتماعية والهوية الدينية والوطنية بغرض كتابة تاريخ للرواية من منطلق تعدد التصورات الموجودة باستمرار حول الأمة التي ينتمي لها المبدعون والمبدعات”. ولاحظ فضل الله كذلك أن النقد الأدبي النسوي هو أكثر الاتجاهات النقدية سوء حظ في البيئة العربية لارتباطه بفزاعتين: الأولى تشويهه بربطه بتبني الخطاب الاستعماري منذ بدايات القرن الـ20، وحتى الآن، والثانية تتعلق بالأرض الرخوة التي تقف عليها التطورات النسوية وما بعد النسوية في الغرب في ما يتعلق بدراسات الجندر والأديان، بشكل لا يسمح للناقد بأن يقف عليها لأنها ليست الأسئلة التي تطرحها النصوص الأدبية والسياق الثقافي المنتج لها، والذي ينتج معرفة نقدية في إطاره. 

وتعدد زوايا معالجة العلاقة بين النساء والأمة وتباينها من فصل لآخر في هذه الدراسة يشير إلى أن تباين واقع النساء ومستوى الوعي النسوي والقومي بين البلدان العربية على نحو قد تعكسه النصوص الروائية المختارة لاستكشاف أبعاد هذه العلاقة المركبة بين النساء العربيات والأمة العربية في تجلياتهما في سياقات وطنية متباينة، بحسب ما أورده ضيف الله في مستهل الفصل الثاني من الكتاب. وقبل ذلك لاحظ ضيف الله في الفصل الأول أن العلاقة بين الجندر والعرق تعد مدخلاً مناسباً للسياق العماني الذي قامت رواية “سيدات القمر” لجوخة الحارثي بتخييله، ومن ثم تقديم رواية تاريخية نسوية تبلور رؤية مناهضة للرؤية الذكورية للتاريخ العماني والمهيمنة – على حد تعبير فضل الله نفسه – سواء في الكتابة الرسمية للتاريخ أو في نصوص أخرى تتوافق مع تلك الرؤية، فتحظى بمكانة في التراث الروائي المعتمد في عمان.

ولاحظ سيد فضل الله، وهو أستاذ مساعد للنقد الأدبي في معهد النقد الفني التابع لأكاديمية الفنون بالقاهرة، في ختام الفصل الأول الذي خصصه لمقاربة “سيدات القمر” (دار الآداب – بيروت، 2010)، أن هذه الرواية تعيد بناء تاريخ الذات العمانية من منظور نسوي، مما سمح بتفكيك علاقة المرادفة بين الذكورية وذات الأمة، بحسب قوله، إضافة إلى ذلك فإنه اعتنى في ذلك الفصل بالكشف عما قامت به الرواية من النظر بعين الاعتبار للقيمة الثقافية للهجنة بالكشف – على حد قول ضيف الله – عن تقاطعات الهوية الجندرية والهوية العرقية، “مما لا يصلح معه النظر لهوية الأمة على أنها ثابتة وجامدة، أو أنها متجانسة بين كل أفراد الأمة” ص 66، 67. وخلص إلى أن إدارة جوخة الحارثي لتفاوضات كل شخصية على هويتها الذاتية وبناء علاقتها الخاصة بالأمة المتخيلة في ذهنها كانت ناجحة في الكشف عن واقع التداخل بين الخطوط التي تنسج منها الأمة العمانية المتخيلة في “سيدات القمر”، هويتها الحديثة بسبب توظيفها تقنيات عديدة كالمونولوغات الخاصة بالرجال والبناء الفني للشخصيات النسائية القوية وتفسير مصائر الشخصيات بالربط بين الواقع والأساطير التي تسكن العقول، والتوظيف الفني للأماكن وجغرافيتها الثقافية.

بين الجندر والاستعمار

وخصص فضل الله الفصل الثاني لمقاربة رواية الكاتبة العراقية أنعام كجه جي “النبيذة” (دار الجديد، بيروت 2017)، منطلقاً من النظر إلى علاقة النساء بالأمة من زاوية تطرحها تلك الرواية، وهي زاوية العلاقة بين الجندر والاستعمار. وخلص فضل الله إلى أنه يمكن القول إن تلك الرواية نسجت من خلال توظيف الراوي العليم عالماً روائياً يجسد صوت العقل الذكوري المقيد للهوية الجندرية للأنثى، ويكشف في الوقت نفسه عن تواطؤ الذكورية في المجالين الخاص والعام عبر تاريخ سياسي ممتد منذ لحظة استقلال العراق وبلورة أمة متخيلة بمنظور ذكوري وحتى لحظة انتهاك الذكورة التعويضية مع سقوط بغداد في يد الاحتلال الأميركي. ومن ثم يقول ضيف الله كانت الهوية الأنثوية المتمردة منذ لحظة استقلال الأمة يحرر أنثى الحاضر الخاضعة من وعيها الذكوري بذاتها، بالتالي “تنتقل روح الأنثى المتمردة إلى الأنثى فتواجه الراوي العليم المتواطئ مع الذكورية وتنقذ الأنثى المتمردة من بين يديه وتتولى هي مهمة السرد على النحو الذي يضمن بقاء التمرد حلية الوجود الأنثوي لاستعادة أمة مغتصبة” ص 117.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقارب فضل الله في الفصل الثالث رواية “غيوم فرنسية” (دار ابن رشد – القاهرة، 2020) للمصرية ضحى عاصي، لتوضيح كيفية تشكيل الهويات (في تلك الرواية) من خلال الوقوف على نقاط التقاطع بين الدين (الإسلامي والمسيحي) وتصورات الشخصيات النسائية في هذا النموذج الروائي للأمة المتخيلة لدى كل منها. وانطلق تحليل فضل الله لهذه الرواية على هذا النحو، من فرضية أنها – كما يقول – تقدم قراءة من منظور نسوي لتاريخ مصر الحديثة لحظة تبلور هوية لأمة كانت تتأرجح بين خلافة إسلامية عثمانية ودولة وطنية حديثة. ولاحظ فضل الله أن قارئ رواية “غيوم فرنسية” يجد نفسه أمام عالم زاخر بالمفارقات، فالمماليك أخذوا يدافعون عن مصر، داعمين للخلافة العثمانية في مواجهة الحملة الفرنسية (1798 – 1801)، وفي الوقت نفسه تحاف المماليك مع العثمانيين في الجور على المصريين وحرمان الطرف المسيحي منهم من حق الدفاع عن مصر في ظل وعي جمعي لدى الطرف الآخر من المصريين يعزز هذا الأمر.

ومن هنا، تنسج ضحى عاصي – كما يقول فضل الله – تراكمات سنوات من التمييز داخل نفس ذاك الطفل “فضل” (من شخصيات الرواية) الذي لا ينسى مقولة المملوكي له حين اكتشف أنه مسيحي يحلم بأن يكون جندياً: “اشمل يا نصراني”، في إشارة إلى ما كان يفرض على المسيحيين من أمور تعكس التمييز ضدهم، ومنها وجوب ارتداء ملابس بألوان محددة، والسير على يسار الطريق، وليس على يمينه! ومن ثم لا يجد الفتى “فضل” في النهاية مفراً من أن ينضم إلى كتيبة مسيحية تشكلت بواسطة “المعلم يعقوب”، وهو شخصية تاريخية تمردت على ذلك التمييز واختارت نصرة المحتل الفرنسي. أما شخصية “محبوبة” في الرواية نفسها فإن وعيها بجسدها باعتباره وطناً، وبالوطن باعتباره جسد أنثى هو نفسه – كما يقول سيد فضل الله – وعي من سينتهك هذا الجسد لينتقم من الأنوثة التي تنافس ذكورته الجندرية في جندرة الأمة التي تجمعهما. وتالياً، كانت مساهمة “محبوبة” في جندرة الأمة أكثر فاعلية وذكورية من مساهمة كل من قام بتعذيب جسدها، ومن تخلى عن ذلك الجسد، بحسب ما خلص إليه سيد فضل الله في هذا الصدد.

نقلاً عن : اندبندنت عربية