استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على وفاة جاك دريدا

في العام 1993، كان من الشائع بعد صدور كتاب فرانسيس فوكوياما (مواليد 1952)، “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، المدافع عن أن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في شتّى أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان، وذيوع هذه الأطروحة التي انبهر بها كثير من المتحمسين للرأسمالية الغربية، إلى جانب سقوط الشيوعية التي نُظِر إليها كخاتمة لمرحلة تاريخية بدأت في أوائل القرن الـ20، أن نَشْرَ جاك دريدا لكتاب “أطياف ماركس” لدى دار “غاليله” كان نوعاً من الاستفزاز، فقد ذكر الفيلسوف بيار ماشُري في نص خصصه لهذا الكتاب صدر عام 2005 أن دريدا “فاجأ الجميع، إذ جاء بطرح مختلف” في وقت كان فيه ماركس “في القاع” “منتهياً وميتاً، مدفوناً بالصمت والإنكار”، لكن الكتاب الذي أصبح من كلاسيكيات الفكر الفلسفي السياسي المعاصر، والذي يُعاد إصداره بعد 30 عاماً على نشره في طبعة جديدة مزيدة ومنقحة تضم نقاشاً دار مع الفيلسوف إتيان باليبار في الكلية الدولية للفلسفة (مواليد 1942) صدر عام 1994 ومقتطفات من مراسلات دريدا، عاد إلى بعض أساسيات الفكر اليساري وإلى الاستعانة بمفاهيم ماركسية كالأطياف والأشباح والهواجس وغيرها.

اليوم، تتجلى الأطياف في كل مكان، وتسكن الفنانين والمفكرين، لكأننا بدريدا قد تنبأ بظاهرة معاصرة، ذلك أن مشاهد الدمار والخراب والمعاناة الاجتماعية على ما يقول عالِم الأنثروبولوجييا غريغوري دولابلاس في كتابه “صوت الأشباح” “يسهم في جعل عصرنا عصراً شبحياً بامتياز”.

 استقى دريدا نصّ كتابه هذا من محاضرة بعنوان “إلى أين تتجه الماركسية؟” ألقاها في نيسان (أبريل) عام 1993 في جامعة كاليفورنيا، أهداها إلى كريس هاني، المسؤول في الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي والمقرب من نيلسون مانديلا، الذي كان قد اغتيل قبل بضعة أيام على يد مهاجر بولندي يميني متطرف مؤيد لاستمرار نظام الفصل العنصري، اتهمه “بالشيوعية”.

مشاهد كبرى

ربط دريدا هذا العمل الإرهابي بثلاثة “مشاهد” كبرى في الثقافة الغربية: مشهد هاملت الذي يواجه طيف أبيه الذي يطارده مطالباً بالانتقام ومكلفاً إياه مهمة إنقاذ “العالم من العار”، ومشهد إصدار “بيان الحزب الشيوعي”، الذي يفتتحه ماركس بعبارته الشهيرة “شبح يطارد أوروبا، شبح الشيوعية، وقد اتحدت جميع القوى العظمى في أوروبا القديمة في تحالف مقدس لمطاردة هذا الشبح: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، المتطرفون في فرنسا وشرطة ألمانيا”، ومشهد عصرنا الحالي، عصر النظام العالمي الجديد الذي يقوم على السوق وتجارة السلع وتبادل البشر كأشياء، وهو عصر مفكك، تهيمن عليه أشباح الشيوعية المهزومة التي تطارد مستقبل عالم يبدو موحداً ولكنه في الواقع في “حالة كارثية”، عالم “في مرحلة جنونية”، غير قادر على الحداد على ما يدعي أنه قد قضى عليه.

فمثل الملك المقتول الذي يزعج حياة هاملت بالسير على أسوار إلسينور، أصبح ماركس شبحاً أو طيفاً يطارد المجتمع الغربي المكتئب، الذي يواصل إعلان موت الثورة لكنه يعجز عن القضاء على روحها، لكن هذه الروح بحسب دريدا كامنة في كل واحد منا، وكلما ادعينا موتها، عادت لتطارد خصومها. فجثة الماركسية لا تزال تتحرك وطيفها يزعج العالم الذي يعيش وفق وصف فيلسوف التفكيكية حال “حزن جيوسياسي”، مقترحاً إجراء “تحليل نفسي للمجال السياسي” بغية شرح “جراح” وآلام النظام الاقتصادي الجديد.

 في هذه المحاضرة، قدم دريدا تأملاً واسعاً حول حال الحضارة الغربية بعد سقوط جدار برلين (1989) ووفاة لويس ألتوسير (1918-1990) وانتصار الليبرالية العالمية، طارحاً السؤال حول إمكانية الأمل الثوري بعد الشيوعية في عالم أحادي القطب، ففي إطار تعليقه على سقوط جدار برلين، قال دريدا آنذاك إن هذا السقوط لم يدفن الماركسية.  شكلت هذه المحاضرة تحولاً سياسياً وأخلاقياً في أعمال الفيلسوف التي كانت تعتمد حصراً على مفهوم التفكيك والدفاع عن أهمية الكتابة وأولويتها، فبدأ منذ هذه المحاضرة بالاهتمام ببعض القضايا التي تجمع بين الأخلاق والسياسة كالعدالة الدولية وحقوق المهاجرين غير الشرعيين ومبدأ الضيافة غير المشروطة، إلخ.

 في هذه المحاضرة، وقف دريدا ضد “عصره المخزي”، داعياً إلى “أممية جديدة” لمواجهة النظام العالمي الجديد، وقد شكل كتابه إلى جانب كتب مفكرين آخرين، من أمثال توني نيغري وجورجيو أغامبن وجاك رانسيير وآلان باديو وإريك أولين رايت، مصدراً نقدياً مهماً لمفكرين يساريين في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الثانية.

إنجاز سياسي

ولئن كانت شهرة الكتاب تعود إلى هذا الإنجاز السياسي، فإنها عادت أيضاً إلى أسباب أخرى قد يفهمها البعض بصورة خاطئة، ذلك أن عودة دريدا إلى ماركس لا تعني أبداً تأييده الأعمى للماركسية كنظام فكري، فقد أشار الفيلسوف إتيان باليبار في معرض شرحه لهذا الكتاب الذي خُصصت له مئات المقالات وعدد من الكتب والأفلام، إلى فكرة دريدا البسيطة القائمة على ضرورة “العمل مع ماركس وضده”. والحق أن دريدا يرفض الماركسية الحرفية، لكنه يدافع عن “روحها”، فهو يقول بوضوح “أنا لست ماركسياً”. وقد أثار قوله هذا سخرية الماركسيين التقليديين، فدريدا يحتفي بروح الفكر الماركسي القريبة من روح والتر بنيامين، التي ترتبط بوعد ماركس التحرّري.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعبارة أخرى، لا يتعلق الأمر بانضمام دريدا متأخراً إلى الماركسية، بل بعودة ماركس وكل من عاشوا في نصوصه على شكل أشباح أو أطياف في النظام العالمي الجديد، إنه تفكيك، وفي الوقت نفسه وفاء لروح معينة من الماركسية، أو في الأقل لواحدة منها لأن هناك أكثر من روح في نصوص المفكر الألماني. ولعل دريدا أراد أن يقول لنا إن المصالحة ممكنة بين فكرة أصبحت شبحية و”تعلُّم كيفية العيش”، بين زمن مفكك وآخر مديد، أو بعبارة أخرى إن التفكير في المستقبل، يحتّم علينا إعطاء الكلمة لبعض الأطياف التي ستذكرنا دوماً بمسؤوليتنا.

وفباستخدامه مفهوم الأطياف، طرح دريدا فكرة أن الطيف ليس كياناً ثابتاً ولا موتاً نهائياً، بل كياناً قد يعود بصورة أو بأخرى في جدلية تقوم على الغياب والحضور، لتصبح الماركسية بذلك طيفاً حياً يعود إلى الحياة، مقارباً فكرة “شيوعية روحية” كتلك التي اقترحها باليبار في خاتمة الكتاب، داعياً الأجيال إلى التفاعل مع “أطيافها” التي لا تنتمي إلينا ولا تنفصل عنا، مما يساعدنا على مقاومة “الدولة العالمية المسيطرة اليوم”. فالتاريخ لم ينتهِ بعد، وقد علمنا دريدا ذلك محيياً في صفوف اليسار الفكري روح المقاومة من خلال نقده لدوغمائية نظام عالمي جديد يحاول تثبيت هيمنة هشّة إزاء ماركسية ميتة، لكنه يراهن في موقف ولفتة سياسية، على أن أطياف الماركسية تطارد هذا النظام العاجز عن التفكير في مستقبله.

يعيد نصّ الكتاب إذاً الاعتبار لبعض المفاهيم الماركسية ويفكر في تمثيلين للزمن، طارحاً الأسئلة المتعلقة بالحاضر والماضي وعما إذا كان الحاضر ينبثق من الماضي، باعتبار أن الزمن سلسلة متتابعة، أم أنه يجب النظر إلى الماضي من خلال الحاضر.

قراءة “أطياف ماركس” بعد 30 عاماً على صدوره تعني أيضاً إعادة التعلم أن “السهر على المستقبل والتفكير في ما يمكن أن يحدث، يتطلب منا أن نعطي الكلمة للأطياف”، لا سيما في هذه اللحظة الحَرِجة التي يواجهها العالم جراء الآثار المدمرة للرأسمالية على البيئة والفئات المُستضعفة والمهمشة في كل مكان.

نقلاً عن : اندبندنت عربية