في مشهد يومي متكرر عبر شاشات التلفزيون ولايفات منصات التواصل الاجتماعي، اعتاد المصريون مشاهدة أشخاص مجهولين يرتدون زي الطبيب أو بدلات رسمية، مقدمين نصائح واستشارات ووصفات طبية لعلاج أمراض عدة، بينها السمنة وآلام الظهر والكلى والسكري والتخسيس وغيرها من الأمراض، علاوة على ترويج مستحضرات وأدوية وعقاقير مجهولة المصدر.
ويصحب الترويج المعتاد الذي غالباً ما يأتي على هيئة فواصل إعلانية طويلة أثناء عرض أفلام على الشاشة، أرقام هواتف للتواصل مع سرد قصص نجاح تلك العلاجات من قبل مواطنين متقدمين في السن، بما يخالف لائحة آداب مهنة الطب في مصر.
وبينما تتفرق مسؤولية منع هؤلاء المجهولين من الظهور بين وزارة الصحة المصرية ونقابة الأطباء والهيئة الوطنية للإعلام، فإن ثمة إجماعاً من قبل المتخصصين ممن تحدثت “اندبندنت عربية” إليهم، على أن معظم مقدمي البرامج الطبية على الشاشات “خريجي كليات العلوم والعلاج الطبيعي والصيدلة”، علاوة على أن كثيراً منهم “ينتحلون صفة أطباء”.
قنوات استثمارية
ويقول نقيب عام أطباء مصر الدكتور أسامة عبدالحي إن “النقابة حذرت كثيراً من القنوات الاستثمارية التي تؤجر ساعات من الهواء لعرض تلك الأفكار الخادعة للمشاهدين”، مشيراً إلى أنه جرى عقد اجتماع مع مسؤولي المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام قبل ثلاثة أعوام وكان المطلب الرئيس هو “عدم استضافة أي طبيب على الشاشة إلا بعد الاستعلام عنه من النقابة أو أي جهات أخرى معنية، للتعرف على ما إذا كانوا حاصلين على ترخيص مزاولة مهنة من عدمه، ومؤهلين لتقديم خدمات طبية للجمهور”.
ويضيف عبدالحي أن “هؤلاء الأشخاص منتحلو صفة، والنقابة لا تملك معاقبة منتحلي الصفة، بينما هي ملزمة بمراقبة أعضائها فقط ولديها الإجراءات النقابية والتأديبية التي تستخدمها لمحاسبتهم في حال ارتكاب أي أخطاء”.
وكان المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المصري، وهو الجهة المسؤولة عن ضبط عمل القنوات الفضائية، دشن في أغسطس (آب) 2021 كود البرامج الطبية الذي تضمن عدم قبول برامج مهداة أو بنظام تأجير الوقت أو الإنتاج المشارك إلا بعد العرض على المجلس، وعدم الإعلان عن مستشفيات أو مراكز علاجية إلا بعد التأكد من تسجيلها بوزارة الصحة والسماح لها بالعمل، وعدم الإعلان عن أدوية إلا بعد الحصول على موافقة إدارة الصيدلية بوزارة الصحة، وعدم السماح بظهور الضيوف الأطباء إلا بعد الحصول أيضاً على موافقة نقابة الأطباء ووزارة الصحة والجامعة التابع لها الطبيب لتحديد درجة العلمية.
ويرى نقيب الأطباء أن “قنوات التواصل الاجتماعي أصبحت أكثر خطورة وكارثية من شاشات الفضائيات”، مرجعاً ذلك “لعدم وجود قوانين منظمة لعملها وعدم القدرة على السيطرة عليها”، ومشيراً إلى أن “لائحة آداب المهنة بالنقابة وضعت قبل ظهور قنوات التواصل الاجتماعي، وبالتالي لم تتطرق لتلك المشكلة في بنودها، لكننا بصدد إعداد بروتوكول وتعديلات في لائحة آداب المهنة لتنظيم مسألة الظهور على وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي لمواجهة حال الفوضى المنتشرة عبر تلك المنصات”.
وأقرت المادة (10) من لائحة آداب مهنة الطب أنه “لا يجوز للطبيب أن يقوم بالدعاية لنفسه على أية صورة من الصور، سواء كان ذلك من طريق النشر أو الإذاعة المسموعة أو المرئية أو عبر وسائل الإنترنت أو أية طريقة أخرى من طرق الإعلان”.
كما ألزمت المادة (19) الطبيب عند مخاطبة الجمهور في المواضيع الطبية عبر وسائل الإعلام أن يلتزم بتنجنب ذكر مكان عمله وطرق الاتصال به، والإشادة بخبراته أو إنجازاته العلمية، ويكتفى فقط بذكر صفته المهنية ومجال تخصصه وتجنب ذكر الآراء العلمية غير المؤكدة أو غير المقطوع بصحتها.
منتحلو صفة
ويقول المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء محمود فؤاد إن “التقارير الرسمية والإحصاءات تشير إلى وجود 63 قناة فضائية تبث 112 إعلاناً مجهولاً عن مستحضرات طبية محظورة وغير مرخصة، غالبيتها عن المكملات الغذائية وأدوية السمنة والنحافة والمسكنات والمنشطات الجنسية”، لافتاً إلى أنها “تستهدف الفئات التي تزيد أعمارها على 50 سنة للسيطرة عليهم وكونهم أكثر سهولة في الاستقطاب”.
ويؤكد فؤاد أن “كثيراً من مقدمي تلك البرامج منتحلو صفة أطباء وغير مؤهلين للحديث في القضايا الطبية”، واصفاً إياهم بـ “مافيا وعصابات تمارس تلك العمليات المشبوهة عبر قنوات فضائية غير مرخصة، تُبث من داخل شقق سكنية على ترددات أقمار اصطناعية مصرية وعربية، تعرض أفلاماً ومسلسلات تتخللها فواصل إعلانية طويلة تروج لمنتجات ومستلزمات طبية ودوائية ومنزلية مجهولة المصدر، من أجل أن تربح أموالاً طائلة”.
وعلى رغم ضبطيات وزارة الداخلية المصرية لمرتكبي تلك الجرائم وصدور أحكام قضائية بحقهم فإنها لا تزال مستمرة، وهو ما يفسره فؤاد بأن “معظم من يخرجون من السجون يعودون مجدداً لمواصلة نشاطهم الإجرامي بسبب أموالها المربحة، نحن ندور في حلقة فمفرغة ليس لها نهاية”.
وفي فبراير (شباط) 2022 ألقت الأجهزة الأمنية بمصر القبض على أحمد أبو النصر الصيدلاني الشهير بـ “طبيب الكركمين” من داخل مقر إقامته بكومباوند سكني في مدينة الشيخ زايد غرب القاهرة، وبحوزته أعشاب وأدوية مجهولة المصدر وغير معتمدة من الجهات الرسمية، والإعلان عنها عبر عدد من القنوات الفضائية قصد تحقيق أرباح مادية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإلى جانب تلك المحطات المجهولة يرى المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء أن “قنوات التواصل الاجتماعي أصبحت متهماً رئيساً وأكبر مصدر لترويج تلك الأدوية غير المصرح بتداولها والتي تفتك بكثير من المواطنين”، مشيراً إلى أن قانون تنظيم الإعلان عن المنتجات والخدمات الطبية ولائحته التنفيذية حظرا الإعلان والترويج عن المستحضرات والعقاقير الطبية غير المرخصة، ومشدداً على ضرورة مواجهة تلك المعضلة بـ “تشريع رادع لمعاقبة مرتكبي تلك الجرائم”، خصوصاً أن تلك الممارسات حديثة النشأة وظهرت عقب إعداد القانون.
ويحظر القانون رقم (206) لسنة 2017 الذي يواجه الفوضى والعشوائية في أنشطة الإعلان عن المنتجات والخدمات الصحية بصورة تخدع المواطنين، ومواجهة الخدمات الطبية التي يعلنها أطباء غير متخصصين، نشر أية معلومات أو بيانات عن منتج صحي أو خدمة صحية أو بثها عبر أية وسيلة مقروءة أو مسموعة أو مرئية أو إلكترونية من دون الحصول على ترخيص من اللجنة العليا المتخصصة في منح التراخيص برئاسة وزير الصحة.
مخالفات مهنية
وفي شأن مسؤولية وزارة الصحة في تلك القضية، يُعقب الرئيس السابق للإدارة المركزية للعلاج الحر والتراخيص بوزارة الصحة الدكتور على محروس بأن “وزارة الصحة لا تملك سلطة على الفضائيات لمنع استضافة هؤلاء الأشخاص ومعاقبتهم في حال ارتكاب أية مخالفات مهنية”، مدللاً على ذلك “بانتشار عدد من المنتجات والعقاقير والمستحضرات الطبية المحظورة بقرار رسمي من الوزارة على تلك القنوات الفضائية”.
وفي رأي محروس فإن المشكلة الرئيسة في تلك القضية “تكمن في الفضائيات التي تبيع وتؤجر ساعات الهواء لأشخاص غير مؤهلين لتقديم الاستشارات والنصائح الطبية للجمهور”، منوهاً بأن تلك القضية “متشعبة ومسؤولية مشتركة وجماعية لعدد من الأطراف وليس جهة بعينها”.
وفي أغسطس (آب) الماضي أعلن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أنه تقدم بمشروع قانون لضبط الإعلانات الصحية والطبية قبل عام ونصف العام لمجلس النواب، ولم يقرّ أو يحسم مصيره حتى الآن، موضحاً أهمية التأكد من هوية ومؤهلات الضيوف قبل السماح لهم بالظهور والتحدث في قضايا شائكة.
ويضيف محروس أن “نقابة الأطباء صاحبة الاختصاص في معاقبة أعضائها في حال الظهور الإعلامي والحديث عن قضايا غير متخصصة أو تقديم معلومات مغلوطة للجمهور”، مطالباً بضرورة تطبيق الضوابط المهنية لـ “منع استضافة غير المتخصصين من الأطباء للظهور على الشاشات، ومعاقبة من يقدمون معلومات مضللة للمواطن مع حظر عرض المنتجات الطبية الممنوعة بقرار من وزارة الصحة”.
وفي السياق ذاته يرى أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة صفوت العالم أن مواجهة تلك الفوضى “تتطلب تضافر كل الجهود، بدءاً من مراقبة الفضائيات التي تجيز تأجير مساحات هواء لضيوفها ومنع ظهور غير المتخصصين ومن لا يحملون تصريح مزاولة مهنة الطب على الشاشات، وصولاً إلى حظر تداول العقاقير والأدوية غير المصرح بها من وزارة الصحة على منصات التواصل الاجتماعي”.
وألزمت المادة (18) من الدستور المصري “أن تخضع جميع المنشآت الصحية والمنتجات والمواد ووسائل الدعاية المتعلقة بالصحة لرقابة الدولة، وأن تشجع الدولة مشاركة القطاعين الخاص والأهلي في خدمات الرعاية الصحية وفقاً للقانون”.
ويشير العالم إلى أن “جهاز حماية المستهلك يجب عليه مواجهة الإفراط الواضح في تلك الإعلانات الطبية المضللة، علاوة على نقابة الأطباء التي ينبغي عليها معاقبة الأطباء في حال الحديث في قضايا غير متخصصة، إضافة إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الذي ينبغي أن يمارس دوره في مراقبة تلك الفضائيات المجهولة وحظر تداول أدوية غير مسجلة أو مصرح بها طبياً”.
وكان جهاز حماية المستهلك (حكومي) أعلن في يناير (كانون الثاني) 2016 إحالة 16 قناة فضائية للنيابة بعد رصد إعلانات مضللة تبث على شاشاتها للترويج لمنتجات طبية بادعاء قدرتها على علاج عدد من الأمراض خلاف الحقيقة.
كارثة التطبيقات الإلكترونية
وترى عضو لجنة الصحة بمجلس النواب الدكتورة إيرين سعيد أن الحل “يكمن في تجريم ظهور منتحلي الصفة على الشاشات، وأن تصرف الأدوية بوصفات من قبل متخصصين، وتطبيق فكرة التطبيب عن بعد كونها إيجابية وهدفها التسهيل على المريض والطبيب على حد سواء، لكن يجب أن تطبق بالشكل السليم مثلما يحدث في بلدان الخارج”.
وتلفت سعيد إلى أن بيع الدواء عبر التطبيقات الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي “يمثل كارثة حقيقية”، بعدما أصبحت “مواقع التواصل الاجتماعي ساحة مفتوحة لعرض خدمات الاستشارات الطبية للمرضى في مخالفة لقانون مزاولة مهنة الطب، علاوة على وجود صيدليات تمارس نشاطها عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي فقط، وليس لها مكان محدد، مما يجعل هناك صعوبة في إحكام الرقابة والسيطرة عليها”.
وكانت نقابة الأطباء أعلنت في يوليو (تموز) الماضي إجراء تعديلات على لائحة آداب المهنة لتقنين “التطبيب عن بعد” لتقديم الخدمات الطبية عبر وسائل التواصل عن بُعد، بما يتناسب مع المعايير العلمية المعمول بها عالمياً.
وأشارت النقابة إلى أن تداول المعلومات الطبية وتقديم الاستشارات والخدمات الطبية عبر وسائل الاتصال والتواصل المختلفة توسعت خلال الأعوام الأخيرة، بخاصة بعد جائحة كورونا والواقع الذي فرضته من محاذير التجول وارتياد المنشآت الصحية.
نقلاً عن : اندبندنت عربية