على نحو يعيد إلى الأذهان ما شهدته العاصمة الأوكرانية من أحداث “ثورتها البرتقالية” في عام 2014، تعيش العاصمة الجورجية تبليسي مواجهات دامية بين قوات الأمن والشرطة، وفصائل المعارضة للشهر الثاني على التوالي. ووفق ما يسمى بالسيناريو الأوكراني، تتجدد المواجهة بين أنصار حزب “الحلم الجورجي” الحاكم، ومعارضيه من أنصار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تحت شعارات غربية الهوى، يقابلها في الاتجاه المعاكس ما يحمل بين طياته رفض التوجهات التي سبق ورفعتها أوكرانيا إيذاناً بالتحول إلى المعسكر الغربي. وذلك في الوقت الذي ثمة من يشير إلى بدء عودة فصائل المتطوعين الجورجيين، ممن كانوا قد انضموا إلى المقاتلين الأوكرانيين منذ بدء “العملية الروسية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، “بغية تنظيم الصفوف والتأهب لاستخدام القوة في معركة المعارضة ضد الحكومة الجورجية بهدف الإطاحة بها”.
عضوية الاتحاد الأوروبي
كانت الأحداث التي تتواصل في جورجيا قد استمدت بدايتها من إقرار حزب “الحلم الجورجي” الحاكم، لقانون “العملاء الأجانب” الذي أقره برلمان البلاد في مواجهة الأحزاب المعارضة التي رفعت راية الاحتجاج والمعارضة ضد هذا القانون، وهو ما تناولته “اندبندنت عربية” في تقرير سابق لها من موسكو. كما جاءت الانتخابات البرلمانية التي أكد فيها الحزب الحاكم الذي يؤيد الحفاظ على علاقات ودية مع روسيا، صدارته وفوزه الساحق، لتزيد من حدة التوتر، وتدفع فصائل المعارضة إلى المزيد من الاحتجاجات المدعومة من جانب الاتحاد الأوروبي، الذي أعلن أن إقرار القانون سوف يؤثر سلباً على انضمام جورجيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. وكان إيراكلي كوباخيدزه رئيس حكومة جورجيا قد أعلن صراحة “أنه من غير المقبول بشكل قاطع بالنسبة لنا أن نعتبر الاندماج في الاتحاد الأوروبي نعمة يجب أن يوفرها لنا هذا الاتحاد”.
وها هي تبليسي وقد تحولت الى ساحة معارك بين القوات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية الجورجية والمتظاهرين الذين خرجوا، احتجاجاً على كل ما تتخذه الحكومة والبرلمان من قرارات، وفي مقدمتها قانون العملاء الأجانب، الذي أقره البرلمان بأغلبية أعضاء حزب “الحلم الجورجي” الحاكم. وذكرت وزارة الداخلية الجورجية أن أعمال الشغب أمام برلمان البلاد، استهدفت إضرام النيران في المبنى، حيث قام المتظاهرون بإلقاء الزجاجات الحارقة على المبنى، كما استخدموا المفرقعات والألعاب النارية، ما أسفر عن إصابة الكثيرين من ضباط الشرطة وقوات الأمن ونقلهم إلى المستشفيات، واعتقال زهاء مئتين من المتظاهرين”.
السيناريو الأوكراني
على النحو ذاته الذي استخدمته المعارضة الأوكرانية، لجأت المعارضة الجورجية إلى التشكيك في نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أسفرت عن فوز “حزب الحلم الجورجي” الحاكم المتهم من جانبها بموالاة روسيا، بنسبة تبلغ زهاء 55 بالمئة، مقابل ما يقل عن 40 بالمئة لكل ائتلاف أحزاب المعارضة الأربعة المؤيد للانضمام إلى الأتحاد الاوروبي. وذلك ما أكده مراقبون كُثُر ومنهم فلوريان فيليبو، زعيم حزب الوطنيين في فرنسا، الذي قال “إن بعض الدول الغربية تحاول تنظيم انقلاب في جورجيا على غرار انقلاب (الميدان الأوروبي) في أوكرانيا عام 2014”. وكتب على منصة “إكس” للتواصل الاجتماعي “انقلاب مؤيد للناتو ومؤيد لأوروبا، وضد خيار الناخبين. يتم تنفيذ الاضطرابات المنظمة، وزعزعة الاستقرار المدبرة، في حين أوضح الجورجيون في الانتخابات التشريعية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أنهم يرفضون الاتحاد الأوروبي”.
وأشار السياسي الفرنسي إلى أن “الرايات الأوروبية الجديدة تظهر فجأة في المظاهرات، وتنهمر الأموال من مصادر مجهولة لتمويل كل ذلك، وتأتي وسائل الإعلام الغربية مسرعة وتجعل الناس يعتقدون أن هذه ثورة شعبية، على الرغم من أنها في الواقع مجرد انقلاب تنفذه وكالة المخابرات المركزية”. وأشار فيليبو كذلك إلى أن رئيسة جورجيا سالومي زورابيشفيلي، التي قالت إنها لن تتخلى عن منصبها وصلاحياتها، ودعت إلى الاحتجاجات، تعتزم “البقاء في السلطة بشكل غير قانوني”. وقال “هي تشبه بذلك، فلاديمير زيلينسكي، الذي أيضا بقي في السلطة بشكل غير قانوني منذ مارس من العام الماضي، ومن ثم يقدم هؤلاء الأشخاص دروساً في الديمقراطية”.
من جانبه قال إلكسي بوشكوف عضو مجلس الاتحاد الروسي “إن تحول علاقات بروكسل مع تبليسي إلى مرحلة النزاع له دلالته. وفي أساسه… موقف الاتحاد الأوروبي الاستعماري الجديد تجاه عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، التي ترى بروكسل أنه من الممكن فرض قواعد السلوك عليها، وقواعد التصويت لصالح القوى السياسية التي يحتاج إليها الغرب”، وأضاف “الغرب يسعى لإيصال المعارضة إلى السلطة في جورجيا ليس فقط من أجل قيام دولة جديدة تديرها واشنطن وبروكسل، بل هدف هذه العملية السياسية فرض العزلة وتدمير العلاقات بين جورجيا وروسيا، وإجبارها على الانضمام إلى العقوبات الغربية خلافاً لمصالحها الاقتصادية، وربما تحويلها إلى حليف عسكري له ضد روسيا”.
مواقف واشنطن وبلدان الاتحاد الأوروبي
استهلت بلدان البلطيق (استونيا ولاتفيا وليتوانيا) تعليقها على ما يجري من أحداث في تبليسي بالإعلان عن تأييدها لتحركات فصائل المعارضة في جورجيا، وكشفت عن اتفاقها حول فرض العقوبات ضد من وصفتهم بالمتورطين في مواجهة وقمع الاحتجاجات الشعبية هناك. كما أعلنت الإدارة الاميركية عن قرارها بتجميد الشراكة الاستراتيجية مع جورجيا. وذلك في الوقت الذي بادر سفراء جورجيا في عدد من الدول الغربية بتقديم استقالاتهم من مناصبهم، ومنهم سفراء جورجيا في واشنطن وباريس وبلدان البلطيق الثلاثة. وكان إيراكلي كوباخيدزه رئيس حكومة جورجيا أكد تدخل القوى الأجنبية، وأشار الى دورها في تحريك المتظاهرين، مؤكداً رفضه التخلي عن منصبه، وأنه لن يدع حكومته تسقط، ولن يسمح بما وصفه بـ “أكرنة” الأوضاع في جورجيا، في إشارة صريحة إلى ما جرى بأوكرانيا منذ عشر سنوات.
ولم يستبعد كوباخيدزه أن تلجأ السلطات إلى المحكمة الدستورية لإعلان عدم شرعية الأحزاب السياسية المعارضةـ وقال “إنهم يعارضون علانية هذه الأيام النظام الدستوري لجورجيا، الأمر الذي يخلق أساساً مباشراً للاستئناف أمام المحكمة الدستورية وإعلان عدم دستورية أحزاب المعارضة، دعونا نرى وننتظر كيف ستتطور العمليات، كل شيء في أيدينا”، ومضى مؤكداً “نحن أمة فخورة، وتحترم نفسها، ذات تاريخ يعود إلى قرون، لذلك من غير المقبول بشكل قاطع بالنسبة لنا أن نعتبر الاندماج في الاتحاد الأوروبي نعمة يجب أن يوفرها لنا الاتحاد الأوروبي”.
كان السبب في ذلك هو القرار الخامس للبرلمان الأوروبي الموجه ضد “الحلم الجورجي”، الذي انتقد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الجمهورية، ونظرت المعارضة الجورجية إلى هذه الأخبار على أنها محاولة لانقلاب دستوري، لأن القانون الأساسي للبلاد يكرس الرغبة في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وعلى وجه الخصوص، ناشدت الجيش ووكالات إنفاذ القانون. ومع ذلك، لم تستمع إليها قوات الأمن.
ماذا عن موقف موسكو؟
في تعليقه حول المظاهرات والاحتجاجات التي تتواصل في جورجيا للأسبوع الثاني على التوالي، قال ديميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين “إن الاحتجاجات في جورجيا هي محاولة واضحة لزعزعة الوضع في البلاد. إن كل المؤشرات تشير إلى محاولة القيام بـ”ثورة برتقالية”. هناك محاولة لزعزعة الوضع. لقد شهدنا أحداثاً مماثلة في عدد من البلدان. والتشابه الأكثر مباشرة الذي يمكن استخلاصه هو أحداث الميدان في أوكرانيا”.
ذلك ما أشار إليه كذلك ديميتري مدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، الذي أعلن عن تحذيره من مغبة توجه جورجيا نحو الهاوية، حال تكرار ما وصفه بالسيناريو الأوكراني، مشيراً إلى أن تطورات الأوضاع يمكن أن تغرق البلاد في الاشتباكات.
من جانبه قال ميخائيل غالوزين نائب وزير الخارجية الروسية، “إن موسكو لها موقف سلبي تجاه أي محاولات للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة”، وأضاف أن “خطوة بلدان البلطيق تظهر مناخاً غربياً من التعصب تجاه رغبة الدول في اتباع سياسات مستقلة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما انضم فيدور لوكيانوف المدير التنفيذي لمنتدى “فالداي” المعروف بعلاقته الوثيقة مع الكرملين، بما كتبه في قناته على “تيليغرام” “روسيا في الشؤون العالمية”، حول انزلاق حزب “الحلم الجورجي” إلى مواجهة لا يمكن التوفيق بينها وبين الغرب السياسي. وأشار إلى أن سلوك السلطات الجورجية كان واضحاً بشكل ملفت، وأنها لا تحاول حتى إظهار المرونة في العلاقات مع الدول الغربية”.
وأكد السياسي الروسي على أن “الغرب لا يتنازل في مثل هذه المواقف، بل ويعدّ أي محاولات للخروج عن احتكاره لفهم الديمقراطية بمثابة تمرد. وفي حين تعاني أوروبا وأميركا من مشاكل أخرى كثيرة، فقد أصبحت منطقة جنوب القوقاز أيضاً في محور اهتمامهما. وعلى الرغم من ذلك، ما زالت السلطات الجورجية متمسكة بموقفها، ولم تظهر أي رغبة في الخضوع للضغوط الغربية”. وذلك ما قد يعني ضرورة أن يتمسك “الحلم الجورجي” بمواقفه، ويتجنب قدر الإمكان الاستفزازات، التي سوف تتضاعف في المستقبل القريب.
دعوة رئيسة الجمهورية إلى الأطفال
ما أن أعلن رئيس الحكومة الجورجية إيراكلي كوباخيدزه بعد إعادة تعيينه عن قراره بتجميد مباحثات جورجيا مع الاتحاد الأوروبي بشأن بدء المفاوضات حول الانضمام إلى الاتحاد حتى عام 2028، رداً على ما وصفه “بسماح الاتحاد الأوروبي لنفسه بالكثير من الإهانات ضد جورجيا”، حتى أعلنت سالومي زورابيشفيلي عن رفضها الاستقالة من منصبها. كما أعلنت عن انضمامها الى المتظاهرين، ووجهت الدعوة إلى الصغار من أطفال المدارس بالخروج إلى الشارع والانضمام إلى المتظاهرين.
وكتبت زورابيشفيللي الفرنسية الأصل على منصة “إكس” تدعوهم إلى دعم التحركات المناهضة للحكومة الجورجية “بعد الجامعات، جاء دور المدارس للتعبير عن تضامنها مع الاحتجاجات في جميع أنحاء جورجيا”. وقد أثار ذلك ردود فعل سلبية في معظمها، حيث أعلن كثيرون عن رفضهم لجوئها إلى استخدام الأطفال في العملية السياسية الجارية في البلاد. وتأكيداً لمواقفها المناهضة لقرارات البرلمان والحكومة، أعلنت عن رفضها الاستقالة من منصبها بعد انتهاء صلاحياتها وانتخاب رئيس دولة جديد، وفي خطابها إلى المتظاهرين قالت “سوف أظل رئيساً لكم، لا يوجد برلمان شرعي. وبناء على ذلك، لن يتمكن برلمان غير شرعي من انتخاب رئيس جديد. وبالتالي، لن يتم التنصيب”، ووجهت الدعوة “إلى جميع أولئك الذين ليسوا غير مبالين إلى الانضمام إلى الاحتجاجات للإطاحة بحكومة الحلم الجورجي”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية