في تاريخ السياسة الأميركية، غالباً ما واجهت النساء تحديات مزدوجة تتعلق بالجنس والأيديولوجيا. ومن بين الشخصيات التي وقفت في وجه هذه الصعوبات، تأتي هيلاري كلينتون وكامالا هاريس، وهما اثنتان من أبرز النساء في السياسة الأميركية المعاصرة. كلينتون، المرأة الأولى التي ترشحت للرئاسة عن حزب سياسي رئيس، وهاريس، نائبة أول رئيس أميركي من أصول أفريقية وآسيوية، تمثلان تطوراً مهماً في دور المرأة في القيادة السياسية، بينما تشترك الشخصيتان في عديد من الجوانب، ومن المهم استكشاف ما يميّز كل منهما؟ وكيف أثّرت تجاربهما المختلفة في المشهد السياسي الأميركي؟

بدايات مختلفة ومسارات متشابهة

تتشابه الخلفية الشخصية والسياسية لكل من كلينتون وهاريس في نواحٍ عدة، لكنها أيضاً تحمل فروقات تسلط الضوء على مساريهما المختلفين نحو القمة السياسية. هيلاري كلينتون، المولودة في شيكاغو عام 1947، نشأت في بيئة محافظة نسبياً، ودرست القانون في جامعة “ييل”، حيث التقت بيل كلينتون، الذي أصبح في ما بعد رئيس الولايات المتحدة، وبدأت كلينتون مسيرتها المهنية كمحامية، ومن ثم دخلت إلى السياسة بصفة السيدة الأولى للولايات المتحدة، ولعبت دوراً نشطاً في القضايا الوطنية مثل إصلاح نظام الرعاية الصحية، وتدرّجت كلينتون في المناصب السياسية لتصبح سيناتوراً عن ولاية نيويورك ثم وزيرة للخارجية الأميركية قبل ترشحها للرئاسة في 2016، ما جعلها واحدة من أكثر النساء نفوذاً في التاريخ السياسي الأميركي.

أما كامالا هاريس، المولودة في أوكلاند بولاية كاليفورنيا عام 1964 لأبوين مهاجرين، تحمل في خلفيتها تنوعاً عرقياً وثقافياً واضحاً، درست هاريس العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة “هوارد”، ثم حصلت على شهادة في القانون من جامعة “كاليفورنيا” – هيستينغز. وبدأت مسيرتها المهنية كمدعية عامة في سان فرانسيسكو حيث اكتسبت سمعة كمدافعة قوية عن العدالة. وفي عام 2010، انتُخبت كأول امرأة وأول شخص من أصول أفريقية وجنوب آسيوية يتولى منصب المدعي العام لولاية كاليفورنيا، ما جعلها تبرز على الساحة الوطنية. وفي عام 2016، انتُخبت عضواً في مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا، ما وضعها على المسار نحو ترشحها لمنصب نائب الرئيس في 2020 مع جو بايدن.

وفي حين اعتمدت كلينتون على خبرتها الطويلة في الأروقة السياسية والدبلوماسية، ركزت هاريس أكثر على خلفيتها كمدعية عامة وكسيناتور حديثة، ما أتاح لها جلب منظور جديد ومتنوع إلى المشهد السياسي الأميركي.

السباق إلى البيت الأبيض

وفي سعيهما للوصول إلى البيت الأبيض، أدارت كل من كلينتون وهاريس حملتيهما بطرق تعكس شخصيتيهما ونهجيهما المختلفين في السياسة. في حملتها عام 2016، ركزت كلينتون بشدة على هويتها كأول امرأة تسعى للرئاسة من حزب رئيس، ما جعل مسألة كسر “السقف الزجاجي” محوراً أساسياً لحملتها. واستُخدمت شعارات مثل “أنا معها” وصور رمزية مثل “روزي المبرشمة” Rosie the Riveter التي تمثل النساء اللواتي عملن في المصانع وأماكن العمل المختلفة الشاقة خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كان الرجال غائبين بسبب التجنيد في القوات المسلحة، لتعزيز فكرة ترشحها كخطوة تاريخية للنساء في الولايات المتحدة. وعلى رغم دعمها الواسع في استطلاعات الرأي، واجهت كلينتون تحديات كبيرة، بما في ذلك الهجمات المستمرة على شخصيتها، واتهامات حول ماضيها السياسي، وتراجع التأييد في الولايات المتأرجحة.

وعلى النقيض من ذلك، تبنّت هاريس نهجاً أكثر حذراً تجاه قضايا الهوية في حملتها، ومستفيدة من تجربة كلينتون، قررت هاريس عدم التركيز على كونها أول امرأة سمراء وآسيوية تُرشّح للرئاسة، وبدلاً من ذلك ركّزت على القضايا المعيشية مثل الاقتصاد والتعليم والرعاية الصحية والتي تهمّ الناخبين على مستوى القاعدة. وعملت هاريس على تقديم نفسها كمدعية عامة سابقة ومحامية للعدالة، وابتعدت عن تسليط الضوء على كونها رمزاً للتنوع، ما جنّبها كثيراً من الانتقادات التي طاولت كلينتون بشأن “اللعب على ورقة الهوية”.

ومن خلال دراسة التحديات التي واجهتها كلينتون، تجنّبت هاريس تكرار بعض الأخطاء، بما في ذلك الإفراط في التركيز على الرمزية الشخصية، وتعلّمت أهمية معالجة القضايا التي تؤثر بشكل مباشر في حياة الناخبين اليومية. وساعد هذا النهج المدروس هاريس على كسب تأييد أوسع بين الناخبين، بخاصة النساء اللواتي شعرن بتقارب أكبر معها بعيداً من التفرقة الصارخة المبنية على الهوية.

رؤى متقاطعة وسياسات متباينة

من حيث المواقف والسياسات، نجد أن هاريس وكلينتون تشتركان في عديد من القضايا، لكن كلاً منهما تتبع نهجاً وتوجهاً خاصين في التعامل معها. على صعيد الرعاية الصحية، دعمت كلينتون توسيع قانون الرعاية الميسرة “أوباما كير” وتقديم خيار تأمين صحي عام في حملتها لعام 2016. وهاريس من جهتها، أيدت في البداية “الرعاية الطبية للجميع” لكنها اتبعت لاحقاً نهجاً أكثر اعتدالاً بتقديم خيار للرعاية الطبية يشمل الجميع، ما يعكس ميلاً لتبني سياسات تقدمية مع الحفاظ على مرونة في الاستجابة للرأي العام.

وفي مجال التعليم، ركّزت كلينتون على جعل التعليم الجامعي مجانياً للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، بينما تبنت هاريس نهجاً ينصبّ أكثر على دعم التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة وتوسيع نطاق التعليم قبل المدرسة. كما دعمت كلاهما سياسات تخفيف ديون الطلاب، مع اختلاف في تفاصيل التنفيذ.

أما في السياسة الخارجية، فقد كانت كلينتون مدافعة عن التدخل العسكري في بعض الحالات، مثل دعمها للحرب في العراق، وهو ما عرّضها لانتقادات كبيرة. هاريس، على الجانب الآخر، اتخذت مواقف أكثر تحفظاً، داعية إلى توخي الحذر في التدخلات العسكرية والاعتماد على الدبلوماسية أولاً، متبنية نهجاً يميل أكثر نحو تقليل التورط العسكري الأميركي في الخارج.

وعلى رغم هذه التباينات، تشترك كل من هاريس وكلينتون في التزامهما بقضايا مثل حقوق المرأة والمساواة العرقية والاجتماعية، لكن الاختلاف في أسلوب عرض ودعم هذه السياسات كان واضحاً، إذ تعلّمت هاريس من تجربة كلينتون وحاولت تجنّب الظهور كمرشحة تسعى فقط لتحقيق أجندة تقدمية، بل ركّزت على القضايا الأساسية التي تهم الطبقة المتوسطة والنساء بشكل خاص، ما أضاف إلى جاذبيتها السياسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيدتان في مواجهة العواصف

كنساء في السياسة، واجهت كلينتون وهاريس سلسلة من التحديات التي كانت متجذرة في التمييز والتحيّز الجنسي، وقد أثّرت هذه التحديات بشكل كبير في مسيرتيهما وأدائهما السياسي.

وتحدّت هيلاري كلينتون عديداً من العقبات المبنية على جنسها، وعانت من التمييز والتحيّز منذ بداية مسيرتها، سواء كزوجة الرئيس في التسعينيات أو كمرشحة للرئاسة في 2016. والانتقادات التي طاولتها بسبب شخصيتها الجادة والسلطوية، إضافة إلى تعليقات سلبية عن مظهرها وحالتها الصحية، كانت جزءاً من حملة أكبر للتقليل من شأنها. وفي حملتها الانتخابية، كانت هناك أيضاً تساؤلات حول قدرتها على القيادة، وأثّرت هذه الأسئلة في ثقة بعض الناخبين بها. وعلى رغم ذلك، تعاملت كلينتون مع هذه التحديات بعزم، مظهرة قدرة فائقة على الصمود والرد على الانتقادات بتفاؤل وقوة، معتمدة على خبرتها الطويلة في السياسة وخدمة المجتمع.

والآن تواجه هاريس أيضاً مجموعة من التحديات الخاصة بها، فصحيح أنها تمثل رمزية قوية للتنوع والشمولية، لكن هذا يأتي مع حصة كبيرة من التمييز والتحيّز. وفي فترة توليها منصب نائب الرئيس، واجهت هاريس انتقادات تتعلق بمواقفها كامرأة ملونة في منصب رفيع، كجزء من التحديات المستمرة التي تواجهها النساء ذوات الخلفيات المتنوعة في السياسة. كما تتعرض لهجمات تتعلق بصحتها العقلية وجديتها، إضافة إلى استراتيجيات لتقليل أهمية إنجازاتها. وفي مواجهة هذه التحديات، سعت هاريس إلى التركيز على سياساتها وخططها العملية، وتجنّب الخوض في الجدالات الجانبية. وتعد قدرتها على التعامل مع هذه الضغوطات وإدارتها بحنكة جزءاً من استراتيجيتها للتركيز على القضايا التي تهم الناخبين بدلاً من الرد على الهجمات.

الإعلام والجمهور: بين التأثّر والتأثير

وهناك اختلاف كبير في التغطية الإعلامية لكلينتون وهاريس، وعكست كل مرحلة من مسيرتيهما السياسية ملامح مختلفة من الاستقبال العام والإعلامي.

فمنذ بدايات كلينتون السياسية، كان الإعلام جزءاً حاسماً من مسيرتها. فقد كانت تتلقى تغطية مكثفة خلال فترة عملها كسيدة أولى، ووزيرة خارجية، ثم كمرشحة رئاسية في عام 2016. وكانت حملتها تتعرض لانتقادات مستمرة، كما كانت مسألة جنسها محط جدل واسع. وعلى رغم ذلك، لعبت كلينتون دوراً بارزاً كنموذج للنساء في السياسة، ما جعلها رمزاً لكثيرات من النساء والفتيات الطامحات في التغيير. ولا يمكن إنكار تأثيرها في الحزب الديمقراطي، إذ أسهمت في تشكيل سياسته بشكل كبير.

أما هاريس فتتلقى تغطية إعلامية مختلفة، تتميز بتنوعها وتعاملها مع قضايا سياسية تتعلق بالتنوع والشمولية، ولكونها أول نائبة رئيس امرأة، فإن تسليط الضوء على هويتها كأول امرأة سمراء ومن أصول جنوب آسيوية في هذا المنصب، كان له تأثير ثقافي كبير، بينما تتعرّض هاريس لانتقادات وملاحظات تركّز على جنسها وأصولها، إلا أنها أصبحت أيضاً رمزاً للتنوع والإمكانية، ما يعزز صورتها كمثال يحتذى به في عالم السياسة. ويحمل مستقبلها كمرشحة محتملة للرئاسة الكثير من التوقعات، ويعكس الاهتمام المستمر بدورها وتأثيرها في المشهد السياسي الأميركي.

وعلى رغم الاختلاف بينهما، إلا أن كلاً من كلينتون وهاريس قد أثرتا بشكل ملحوظ في تصور المرأة في السياسة. وبالنسبة لكلينتون، فقد كانت نموذجاً للمرأة التي تتحدى القيود التقليدية وتخوض معركة سياسية على أعلى مستوى، ما أوجد جيلاً من النساء والفتيات اللواتي رأين فيها مصدر إلهام. أما هاريس، فتعتبر تجسيداً للتنوع والشمولية، وتدعم تصورات جديدة حول قدرة النساء من خلفيات متنوعة على القيادة في أعلى المناصب السياسية. ويعكس تأثيرهما في النساء في الولايات المتحدة تطوراً تدريجياً نحو مزيد من المساواة والتنوع في السياسة.

إرث مستمر وتطلعات جديدة

وكانت تجربة ترشح كلينتون للرئاسة عام 2016 وما تلاها من مسيرة سياسية نموذجاً مهماً للتحديات التي يمكن أن تواجهها النساء في السياسة. وأظهر إرث كلينتون أن الطريق إلى القيادة العليا يمكن أن يكون مليئاً بالعقبات، لكنه أيضاً مليء بالفرص، كما أسهمت تجربتها في فتح الأبواب أمام النساء الأخريات في السياسة، محطمة بعض الحواجز التقليدية التي كانت قائمة.

أما هاريس، فتظل واحدة من أبرز الأسماء في السياسة الأميركية، مع مستقبل يبدو واعداً على رغم التحديات التي تواجهها. وبفضل تجربتها كأول نائبة رئيس أميركية، تحظى هاريس بمكانة قوية يمكن أن تمهّد الطريق لوصولها إلى الرئاسة قريباً، حيث تعزز خبرتها في القضايا الاجتماعية والعدالة الجنائية، إلى جانب استراتيجيتها في إدارة الحملات، فرصها في ترك بصمة دائمة على الساحة السياسية الأميركية.

وبغض النظر عن نتيجة سباق هاريس الحالي، فإن تجربتها وتجربة كلينتون ستبقيان علامتين فارقتين في تاريخ السياسة الأميركية، مؤكدتين أن النساء قادرات على إحداث تغيير جوهري وإلهام الأجيال المقبلة لتحقيق مزيد من التقدم والتمكين في المجال السياسي.

نقلاً عن : اندبندنت عربية