انتظرت فرنسا حتى مساء الخميس لمعرفة إن كان الرئيس إيمانويل ماكرون سيفصح عن اسم جديد لرئاسة الحكومة، بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه.
وبعكس ما تردد طوال النهار إنه قد يكون وجد الاسم المناسب، أعلن ماكرون أنه سيختار خلفاً لميشال بارنييه خلال الأيام المقبلة.
وكشف الرئيس الفرنسي عن عزمه تشكيل حكومة مصلحة عامة تضم أولئك الذين يلتزمون بالامتناع عن ممارسة حجب الثقة، والعمل، ووجه انتقاداته إلى “أولئك الذين لا يفكرون سوى بالانتخابات الرئاسية بسخرية، ويتوقون لزرع الفوضى.
وأكد ماكرون أنه سيمارس مهامه الرئاسية حتى نهاية ولايته في 2027، وأشار إلى أن ميشال بارنييه، الذي عمل بجد، كان على مستوى المسؤولية وأنه على رغم التنازلات التي قدمها، لكن المتطرفين من اليمين اليسار اتحدوا بجبهة معادية للجمهورية، وساعدهم في ذلك آخرون.
كما تطرق إلى القانون الخاص الذي يسمح للبلاد بالعمل بميزانية 2024 حتى بداية 2025 حيث تتمكن الحكومة بداية العام العمل على موازنة جديدة، وأكد انه لن يترشح لانتخابات 2027، وذكر أنه لن يكون هناك انتخابات برلمانية جديدة قبل 10 أشهر.
توزيع القوى
كلمة لن تغير من واقع توزيع القوى تحت قبة البرلمان، أي ثلاث مجموعات من دون غالبية، وبتوجيه اللوم بشكل مبطن إلى الاشتراكيين، يكون قد قضى، حسب تحليل كريستيان ماكاريان، على “أمل سلخ الاشتراكيين عن تجمع اليسار، ما يعني أن توجه الرئيس يبقى نحو اليمين”.
فما هي المراحل التي تسارعت من الأمس مع إعلان سقوط حكومة ميشال بارنييه الذي طرح الثقة بعد إعلانه النية بالاستعانة بالمادة 49.3 لتبني مشروع قانون تمويل الضمان الاجتماعي والموازنة للعام 2025.
فبعد حجب الثقة عن حكومة ميشال بارنييه، يوم الأربعاء 3 ديسمبر (كانون الأول) 2024 لم يترك الرئيس ماكرون الوقت يمر، حيث سارع بعد عودته من زيارة دولة إلى السعودية، إلى عقد مشاورات واستقبال وزراء وشخصيات سياسية للبحث عن اسم رئيس جديد للحكومة.
وأجمعت التقارير بأن ماكرون قد يستعجل إيجاد البديل قبل يوم السبت 7 ديسمبر موعد افتتاح كاتدرائية نوتردام، حيث يستقبل ما لا يقل عن 50 رئيس دولة من حول العالم من بينهم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.
وبعد قبول استقالة بارنييه، في لقاء استمر ساعة من الوقت، استقبل كل من رئيسة مجلس النواب يائيل براون بيفيه، وجيرار لارشيه، رئيس مجلس الشيوخ. اجتمع بعدها مع فرانسوا بايرو، زعيم الحزب الديمقراطي الوسط “موديم”، اسم تداولته وسائل الإعلام حتى قبل سقوط الحكومة، مما طرح التساؤل ان كان الرئيس توقع سقوط بارنييه وبدأ البحث عن البديل قبل حجب الثقة.
ميشال بارنييه الذي اتهمته أحزاب اليسار بأنه تفانى في استرضاء مارين لوبن، وتقديم التنازلات نزولاً عند شروطها، لم يتمكن وهو رجل المهمات الصعبة من تحقيق توازن في ظل برلمان تحكمه 3 مجموعات من دون غالبية.
وصوت 331 نائباً على حجب الثقة في حين أن الحد المطلوب هو 288 صوتاً. وتوزعت الأصوات كالتالي: 123 نائباً من التجمع الوطني (أقصى اليمين- مارين لوبن) من أصل 124، و71 من فرنسا الأبية (أقصى اليسار – حزب جان لوك ميلانشون) و65 من الاشتراكيين من أصل 66، و38 من الخضر، و16 من الشيوعيين، من أصل 17، و16 من اتحاد اليمين.
فكيف سيكون مصير الحكومة المقبلة بخاصة أن رئيسة مجموعة فرنسا الأبية في البرلمان هددت “بإسقاط كل حكومة لا يكون رئيسها من تحالف أحزاب اليسار، الجبهة الشعبية الجديدة”، وبدورها لوحت مارين لوبن بتكرار الخطوة ما لم يتم احترام الخطوط التي حددتها.
جان لوك ميلانشون كان صرح بعد سقوط الحكومة أن “ماكرون يمكنه أن يختار 3 ميشال بارنييه، لكنه سيسقط الحكومة كل 3 أشهر”، وكعادته طالب الرئيس بالاستقالة، ونشر على منصة إكس “ماكرون لن يتمكن من الصمود للسنوات الثلاث المتبقية أمامه حتى ولو عين ميشال بارنييه كل 3 أشهر”.
الرئيس الفرنسي اعتبر أن استقالته هي من باب المستحيل وأنه سيبقى بمنصبه حتى نهاية ولايته في 2027.
فما هي الأسباب التي دفعت مارين لوبن إلى التصويت لجانب أقصى اليسار والتصميم على إسقاط حكومة بارنييه؟
مارين لوبن أدلت بتصريحات متناقضة حول موقفها من استقالة إيمانويل ماكرون، في مقابلتها مع القناة الأولى أعلنت أنها لا تنضم إلى ما يطالب به حزب فرنسا الأبية، أي تنحي الرئيس.
وكانت أشارت في تصريح لصحيفة “لوموند”، بنبرة تحدٍ إلى أنها تريد “رؤية ماكرون بعد سقوط أول حكومة والثانية والثالثة”، وعند سؤالها إن كانت تفضل رحيل ماكرون قبل نهاية مدته الرئاسية أكدت أن ذلك “يكون من الأفضل”.
ميشال بارنييه لم ينجح بهذه المهمة الصعبة التي تطلبت منه تدوير الزوايا وسلخ الحزب الاشتراكي عن الجبهة الشعبية الجديدة، (تجمع أحزاب اليسار)، وبقي تحت سلطة الحزبين المتطرفين أقصى اليمين (التجمع الوطني) وأقصى اليسار (فرنسا الأبية)، على رغم أنه تنازل عند عدد من المطالب التي حددتها مارين لوبن كخفض أسعار الكهرباء وربط معاشات التقاعد بمستوى التضخم، وكذلك بعض الاشتراكيين.
الجدير بالذكر أن حل الحكومة لا يطيح بالحياة السياسية ولا يهدد البلاد بالشلل، إذ هناك آليات دستورية تسمح بمواصلة العمل أما عبر الإبقاء على ميزانية العام 2024، وعبر قانون خاص يسمح بجباية الضرائب وتسيير أمور البلاد إلى حين قانون موازنة جديد بداية 2025 أو حتى 21 ديسمبر.
إيجاد رئيس حكومة جديد
لائحة الأسماء المتداولة باتت معروفة، لكن الرئيس قد يفاجئ باختيار شخصية لم يتوقعها أحد، بداية حزب فرنسا الأبية ما زال يصر على تسمية لوسي كاستيه، وهي شخصية رفضها ماكرون سابقاً.
كما تم تداول باسم وزير الجيوش سيباستيان لوكورنو، لكنه يبقى مستبعدا، حسب وسائل إعلام، كون اليمين ينظر إليه كخائن ترك حزبه للحاق بماكرون، (حزب الجمهوريين)، كما أنه يصعب على ماكرون اختيار رئيس حكومة من حزبه كونه لم يفز بالانتخابات التشريعية.
كما أن مستشاري ماكرون يستبعدون أن تجد شخصية مقربة من خط ماكرون السياسي استحسان الفرنسيين الذين عبروا عن رفضهم لسياسة الرئيس من خلال الانتخابات البرلمانية.
فرانسوا بايرو زعيم حزب موديم، الديمقراطي الوسط وهو يمني النفس باحتلال المنصب. وهو حليف ماكرون منذ البداية يمكنه إقناع قسم من الاشتراكيين ولا يثير حنق اليمين المتطرف، لكنه أيضاً لا يتمتع بالشرعية الانتخابية.
أسماء أخرى مطروحة منها فرانسوا باروان، وهو رجل سياسي ويستطيع التواصل مع الجميع لكنه من نفس حزب بارنييه تنقصه الشرعية الانتخابية، وبرونو روتايو وزير الداخلية والاثنان لديهما نفس رؤية إيمانويل ماكرون الاقتصادية.
منح فرصة لليسار؟
ماكرون كان رفض أسماء برنار كازنوف رئيس الوزراء السابق عن الحزب الاشتراكي والاسم الذي شدد عليه فرنسا الأبية لوسي كاستيه، بخاصة على ضوء الاقتراح الذي يروج له بوريس فالو، رئيس مجموعة الاشتراكيين في البرلمان، وأوليفيه فور أمين عام الحزب الاشتراكي، ورئيس الوزراء السابق غبريال آتال، تقضي بعدم حجب الثقة مقابل اتباع سياسة التشاور والتوافق لإيجاد الحلول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيفة “لوموند” أشارت إلى أن أوليفيه فور نشر على منصة إكس “على الرئيس الإصغاء إلى نتائج الاقتراع وتعيين شخصية من اليسار حسب ما أدت إليه نتائج الانتخابات”، لكن الحاجز يتمثل بالخطوط السياسية غير مطابقة، ففي حين يطالب اليسار بفرض الضرائب على الثروات الضخمة والعودة عن قانون التقاعد، ترفض الماكرونية، سماع هذه النغمة في حين أن اليسار يشدد على ذلك.
نقطة الخلاف الأخرى هي اشتراط الماكرونية على كل من الاشتراكيين، والخضر والشيوعي قطع الروابط مع فرنسا الأبية، لكن زعيمة الخضر ترفض رفضاً قاطعاً أي نوع من تحالف حكومي مع الماكرونية، وقبول رئيس من فرنسا الأبية يعني بالنسبة لماكرون الإقرار بفوز هذا الحزب.
السيناريو المقبل
الجبهة الشعبية الجديدة بمكوناتها الأربع لديها وجهات نظر مختلفة، الحزب الاشتراكي يرفع شعار عدم الحجب، الذي يقضي، في حال وصول رئيس حكومة من اليسار، أن يقطع الوعد بعدم اللجوء إلى المادة 49/3 مقابل عدم لجوء النواب إلى حجب الثقة، والتعويل على التشاور والتفاوض، اتفاق يريد الحزب الاشتراكي اقتراحه على المجموعات الأخرى باستثناء التجمع الوطني. أقصى اليمين حزب مارين لوبن، وهو ما رفضته ماتيلد بانو، رئيسة مجموعة حزب فرنسا الأبية في البرلمان، معتبرة أنه يعني التحالف مع الماكرونية.
ويرى المراقبون أن تداعيات عدم الاستقرار السياسي، ستنال من شعبية مارين لوبن كون المجتمع الفرنسي يريد الاستقرار ووضوح الرؤية للتمكن استشفاف المستقبل.
مارين لوبن التي وعدت باعتماد تصرف لائق، لا يعيق عمل المؤسسات وتبنت منذ عامين نبرة على مسافة من الهجومية التي تميز فرنسا الأبية، تحولت إلى نبرة هجومية خرجت عن تحفظها وكشفت عن وجه آخر، منذ الحكم الذي صدر عن الادعاء ضدها في قضية استخدام الأموال في البرلمان الأوروبي لدفع أجور حزبها. وهي تواجه إمكانية عدم التمكن من الترشح للانتخابات لمدة خمس سنوات.
قاعدة مارين لوبن
مارين لوبن بموقفها تكون استجابت لمطالب شعبيتها بخفض الضرائب على الـقل على الفئات الفقيرة، وربط مستوى التقاعد بمستوى التضخم، لكن حيال قلق الأسواق ومجتمع الاقتصاد حذر العديد من المقربين منها ونصحها بالتريث وعدم المطالبة بإطاحة ماكرون قبل تحديد موعد انتخابات برلمانية جديدة في سبتمبر (أيلول) من العام 2025.
ما تخشاه مارين لوبن، في حال ضمت صوتها إلى صوت ميلانشون، للمطالبة باستقالة الرئيس، أن يأتي المفعول عكسياً ويعزز موقع إيمانويل ماكرون، لذا يرى أحد نواب التجمع الوطني، في تصريح لصحيفة “لوموند” أنه “من الأفضل ترك سُم استقالته يعطي مفعوله ببطء في كافة النواحي وترك الجدل حول الموضوع يأخذ مجراه”.
وفي ظل المحاولات لتشكيل محور يستبعد كل من فرنسا الأبية والتجمع الوطني، يقول النائب عن التجمع الوطني، (أقصى اليمين) كيفن بفايفر “عندها نصل إلى ذروة التأزم عندما نتأكد أن هؤلاء يريدون استبعادنا من الحكم”.
ويذكر بأن “التجمع الوطني” حاز على 11 مليون صوت في الانتخابات، في حين يرد الطرف الآخر تجمع اليسار بأنه حاز على 22 مليون صوت.
وبذلك يكون اليمين الجمهوري، فقد باستقالة ميشال بارنييه، العودة إلى الحكم بعد تفسخ حزبهم. الذي غادره اريك سيوتي وانضم إلى التجمع الوطني، يبقى لوران فوكيه الذي دافع عنه بحماس تحت قبة البرلمان، لكن حظوظه ضئيلة.
وأما الحزب الاشتراكي، الذي انتقده ماكرون في خطابه الليلة بشكل مبطن، يدافع عن موقفه بالقول إن بارنييه “استبعد اليسار وكان على الدوام يسعى لكسب رضى مارين لوبن وجعل منها من يحكم على الأسماء المرشحة لرئاسة الحكومة”.
الإطاحة بالحكومة والتهديد بمعاودة الكرة مع الحكومات التي ستتعاقب يضع فرنسا في ظرف حساس بخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية، وعودة الاضرابات في قطاعات مختلفة في النقل والتعليم، كما أنه يضع فرنسا في منظار مؤسسات التصنيف، إذ سرعان ما نشرت مؤسسة التصنيف العالمية موديز، بياناً صحافيا ًاعتبرت أن فرنسا في وضع حرج، بالإشارة إلى تداعيات هذا الوضع على الأسواق وسرعان ما أعلنت أن إسقاط الحكومة لن يساعد بتدعيم الميزانية العامة لا بل إنه يزيد من حدة المأزق السياسي، وهذا الوضع سيء بالنسبة للائتمان.
أهداف مشروع الموازنة
يذكر أن مشروع الموازنة كان يهدف تحقيق توفير بقيمة 60 مليار وعارضته نسبة 95 في المئة من الفرنسيين.
ونظرة على الإحصاءات التي تقدمت به مؤسسة أودوكسا – باك بون لصحيفة “لوفيغارو” كانت كافية لاستشراف مصير مشروع الموازنة ومشروع تمويل صندوق الضمان الاجتماعي.
المؤيدون لحزب النهضة حزب الماكرونية، يؤيدونه بنسبة 87 في المئة وكذلك 77 في المئة من مؤيدي الجمهوريين، في حين وصلت نسبة المعارضين بين مؤيدي التجمع الوطني حزب اليمين المتطرف 77 في المئة و82 في المئة بين مؤيدي فرنسا الأبية اليسار المتطرف، وهما اللذان قادا مشروع إسقاط الحكومة. وكان هدف الميزانية إبقاء العجز العام عند 5 في المئة من الناتج المحلي الخام.
مصير مشروع الميزانية
يمكن لفرنسا أن تعمل بمشروع الموازنة للعام 2024 حتى 21 ديسمبر والبحث عن مشروع موازنة جديد بداية العام 2025 هذا ما يضمنه الدستور وما أشار إليه الرئيس ماكرون في كلمته التي وجهها إلى الفرنسيين، لكن من دون حكومة ومن دون غالبية تحت البرلمان، تكون فرنسا دخلت مع هذه الإطاحة فترة غموض.
هل ظن لبارنييه عندما استعان بالمادة 49/3 أنه قادر على استخدام نفس الحيلة الدستورية في ظل عدم توفر أغلبية واضحة، والتي استعانت بها إليزابت بورن خلال فترة حكمها ما يزيد عن 23 مرة لكن الظروف الحالية اختلفت عما كانت عليه قبل عامين.
في ظل برلمان موزع على 3 مجموعات من دون غالبية لأي جهة فهل ينجح آتال بفصل الحزب الاشتراكي عن جبهة اليسار لتسهيل الحياة البرلمانية خلال الاشهر المتبقية، كون الدستور لا يسمح بانتخابات برلمانية جديدة قبل يوليو (تموز) المقبل؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية