عندما وصلت رواية “مداري” Orbital الفائزة بجائزة “بوكر” لعام 2024 للكاتبة سامنثا هارفي، والممتدة على 136 صفحة، إلى مكتبي، كان أول ما خطر ببالي هو صديق قديم، كاتب إنجليزي مشهور، يعيش الآن سنواته الأخيرة في عالم الأدب. يقال إن عدد كلمات روايته الأخيرة، التي لم تنشر بعد، يتجاوز نصف مليون كلمة.

من الغريب أن هذا الرقم الهائل يقابله إحساس مذهل عند فتح “مداري”. إنها خفيفة كالهواء، أقرب في حجمها إلى ديوان شعر (كما أنه تشبهه في طبيعتها أحياناً)، ويمكن اعتبارها التجسيد المثالي للروايات القصيرة. علاوة على ذلك، تمنح تجربة قراءتها، وهو شيء يمكنك فعله ببساطة وأنت تحاول الاسترخاء في فترة الظهيرة، شعوراً أشبه بتأثير دواء غريب، تجربة تشبه الخروج من الجسد. تدور الرواية حول ستة رواد فضاء يدورون حول كوكبنا، ويبدو أن السرد الذي قدمته هارفي يحلق في الكون بلا جاذبية، بنفس الخفة والارتفاع (يمكنك أن تضيف موسيقى تصويرية ملحمية مثل فالس الدانوب الأزرق لشتراوس، وستحصل على تجربة صوتية وبصرية مذهلة).

ومع ذلك عند الإمساك بـ”مداري”، لا يسعك إلا أن تشعر بقلق خفي من أن الرواية قد تكون قصيرة جداً أو مختزلة لدرجة قد لا تترك أثراً كافياً على قارئها. ليس من الصعب الاعتراف بأننا كقراء نعتاد على الروايات الإنجليزية التي تقف على النقيض التام من الحجم المختصر. تأملوا معي، إذا سمحتم لي بالتوقف عند جانب دقيق يشبه ولع عشاق تتبع القطارات بالتفاصيل الصغيرة، بعض الإحصاءات الأدبية.

في زمن ليس ببعيد كثيراً، عام 1993، كان كتاب “صبي مناسب” A Suitable Boy لفيكرام سيث مثالاً بارزاً على الروايات الطويلة في الأدب الإنجليزي. فقد كان النص الأصلي يتجاوز مليون كلمة، لكن بعد تقليصه من قبل المحررين، استقر عند 1504 صفحات. عندما نشر، أذهلت مواهب سيث النقاد، الذين استدعوا أوجه التشابه مع أعمال كلاسيكية مثل رواية “كلاريسا” Clarissa أو “تاريخ امرأة شابة” The History of a Young Lady لصمويل ريتشاردسون. هذه الرواية المكتوبة على هيئة رسائل، والتي صدرت عام 1748، وأشاد بها الناقد الإنجليزي العظيم الدكتور صموئيل جونسون بوصفها “الكتاب الأول في العالم لما يكشفه عن أعماق النفس البشرية”، بلغ حجمها 970 ألف كلمة موزعة على عدة مجلدات. إلى جانب “صبي مناسب”، لا تنافسها في الطول إلا أعمال مثل “هزل أبدي” Infinite Jest لديفيد فوستر والاس أو “من لا عزاء لهم” The Unconsoled، تحفة كازوو إيشيغورو.

قبل ظهور التلفزيون وسلاسل المسلسلات، كانت الرواية الإنجليزية تميل إلى الطول والتفصيل، وغالباً ما تقسم إلى ثلاث مجلدات أو أكثر، لتلبية متطلبات السوق. روايات مثل “تريستام شاندي” Tristram Shandy (عدد كلماتها 190 ألف كلمة موزعة على تسعة مجلدات)، “إيما” Emma، “جين آير” Jane Eyre، “المنزل الكئيب” Bleak House، و”ميدل مارش” Middlemarch (ذات الـ316 ألف كلمة) تمثل “قراءات طويلة”. مع ذلك من بين أعمال تلك الفترة الأكثر بساطة وراحة، قد تبرز فقط “فرانكشتاين” Frankenstein لماري شيلي ذات الـ 72 ألف كلمة وتبدو مألوفة في طولها اليوم.

كثيراً ما كان الارتباط بين الطول والعمق في الأدب مثل علاقة الخبز والزبدة، وظل هذا النمط مستمراً حتى بداية الألفية الجديدة. ولكن إذا ألقيتم نظرة على قائمة الفائزين بجائزة “بوكر” بين عامي 1980 و2000، فلن تجدوا أي عمل قريب من قصر “مداري”. على سبيل المثال، يبلغ متوسط طول أعمال مثل “أطفال منتصف الليل” Midnight’s Children، “أوسكار ولوسيندا” Oscar and Lucinda، “المريض الإنجليزي” The English Patient، و”تملك” Possession أكثر من 300 صفحة. ليست هذه الروايات طويلة فحسب، بل تتميز أيضاً بتعقيدها في الأسلوب ووجهة النظر والمناظر الطبيعية والشخصيات، والجمع بين الفكاهة والحزن. لقد كان الأدب الإنجليزي وما زال يحتفي بحرية الابتكار، إذ لا توجد قواعد ثابتة لما يمكن أن تكون عليه الرواية.

لا يحمل أي من هذه الروايات طابعاً متوقعاً أو محدوداً أو تقليدياً، بل إنها تتشارك في الحمض النووي الأدبي مع الكلاسيكيات التي سبق ذكرها، وتشكل جزءاً من مكتبة متنوعة تجمع بين الروايات الطويلة والقصيرة. وإلى جانب تقليد الطول والعمق، هناك تيار منافس يحتفي بالنقيض، أي الكتب التي تتسم بالإيجاز وإتقان التكثيف.

تعد رواية “قلب الظلام” Heart of Darkness لجوزيف كونراد مثالاً بارزاً على هذا النوع الأدبي. كما تأتي ضمن هذا السياق أيضاً “مزرعة الحيوانات” Animal Farm الرواية القصيرة أو النوفيلا التي كتبها جورج أورويل، وأضاف إليها عنواناً فرعياً “قصة خيالية”. ويمكن أن نجد أيضاً ضمن هذا النوع الأدبي أسماء مثل إيان ماكيوان، وجي أم كوتزي، وديمون غالغت. وفي أوائل القرن الـ20، برع كتاب مثل إيفلين وو وغراهام غرين في فن الرواية القصيرة. أما اليوم، فقليلون هم من يجرؤون على وصف رواية “المحبوب” The Loved One بأنها مجرد قصة قصيرة.

دعكم من المشككين، فحجة هذا القرار لا تشوبها شائبة. كيف يمكن لجائزة ما الادعاء بأنها أرفع جائزة للأدب الإنجليزي إذا كانت تستبعد الكتابات الجديدة التي تمثل أكثر تعبير حي ومعاصر لثقافة الكتب في العصر الحالي؟

 

في النهاية، كان تطور صناعة النشر هو الذي غير قواعد صناعة الأدب. في الثمانينيات، شهدت الصناعة عمليات دمج واستحواذ حولت تلك الصناعة الصغيرة إلى سوق عالمية لامعة، إذ أصبح كل جانب من جوانب الكلمة المطبوعة مدراً للربح بطرق لم تكن معروفة من قبل. تماماً كما تحول عالم كرة القدم بصورة من الصعب إدراكه بفضل الدوري الممتاز ورواتب اللاعبين التي تضاهي في أرقامها أرقام الهواتف، فإن نهاية “اتفاقية الكتب الثابتة” (Net Book Agreement) أدت إلى دخول عالم الكتب في سوق دولية مدفوعة بطفرة غير مسبوقة في اللغة الإنجليزية.

مع بداية الألفية، بدأ هذا التغيير الثقافي يؤتي ثماره الأدبية. بدأت الرواية، التي كثيراً ما كانت مرآة للمجتمع، تأخذ أشكالاً جديدة وأصواتاً جديدة. شهدنا طفرة في أدب المانغا الياباني، وأخيراً بدأت الكاتبات في جميع أنحاء العالم يحظين بالاعتراف الذي طال انتظاره. في الأراضي الواقعة ما وراء مقر الأدب التجاري في “غرب ستريت” في لندن بدأ كائن جديد يحبذه الناشرون، وهو “الرواية المعاصرة”، القريبة من تلك الطفرة الغريبة المسماة “الرواية الكلاسيكية الفورية”، يظهر من المستنقع متوجهاً نحو السوق، بينما تولت لتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي تمهيد طريقه.

في خضم هذا التحول، بدأ سؤال جديد ومقلق يظهر في مهرجانات الكتب والندوات الجامعية الاجتماعات التحريرية. هل أصبحت “التقاليد الكبرى”، أي مجموعة الأعمال الأدبية التي كان النقاد البريطانيون، بقيادة ف. ر. ليفيس يعتبرونها أساسية في الأدب الإنجليزي، غير ذات صلة أو غير ملائمة للزمن؟ ألم نصل إلى اللحظة التي طالما تم التنبؤ بها، والتي يمكننا فيها إعلان “موت الرواية” بكل جدية؟

لكن الأمر كان أكثر تطرفاً: هل أصبحت الكتابة الواقعية الآن هي الأدب الخيالي الجديد؟ جادل عديد من الكتاب البارعين بضرورة ترقية الأدب غير الروائي. ومع ذلك لا أحد، على حد علمي، قد نجح في التغلب على الاعتراض الأكثر وضوحاً. فعلى رغم كل المحاولات، لا يزال “أدب الخيال” نوعاً متميزاً ومعترفاً به، بينما تظل “الكتابة الواقعية” عبارة عن أرخبيل من الفئات المتفرقة مثل التاريخ والسير الذاتية والتقارير وما إلى ذلك. ومع ذلك من الواضح في هذا القرن الجديد، أن حياة الرواية الإنجليزية، مصيرها وهويتها، باتت مسألة غير محسومة بعد.

 

 

في الواقع، قدمت جائزة “بوكر” نفسها مساهمة حاسمة في هذا النقاش. فمنذ 10 أعوام، وتحديداً عام 2014، وسط صيحات الاحتجاج والتوقعات السوداوية حول انهيار الأدب، وسعت الجائزة نطاقها لتشمل الروايات المكتوبة باللغة الإنجليزية من جميع أنحاء العالم، بعدما كانت تقتصر على الروايات البريطانية والإيرلندية وروايات دول الكومنولث. والأكثر إثارة للجدل من ذلك، هو أن الجائزة فتحت أبوابها لقبول روايات جديدة من الولايات المتحدة الأميركية.

دعكم من المشككين، فحجة هذا القرار لا تشوبها شائبة. كيف يمكن لجائزة ما الادعاء بأنها أرفع جائزة للأدب الإنجليزي إذا كانت تستبعد الكتابات الجديدة التي تمثل أكثر تعبير حي ومعاصر لثقافة الكتب في العصر الحالي؟

إلى الآن، لم تصل الأمور إلى أسوأ حد لها ولم تفقد توازنها. جائزة “بوكر”، مثلها مثل سائر الجوائز الأدبية الكبرى حول العالم، تظهر كل دليل على أنها تحتفظ بمكانتها المرموقة في محكمة روايات الأدب الإنجليزي سنوياً. وهكذا بالنتيجة نجد أنفسنا نقف بكل سلاسة أمام فائز مثل “مداري”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سامنثا هارفي ورواد الفضاء الذين رسمتهم، يسبحون عالياً فوق الزلازل والأعاصير والفيضانات التي تعصف بكوكبنا الذي وصفه رائد الفضاء الذي كان ضمن فريق مهمة أبولو، مايكل كولينز بـ”الأرض الطيبة”. خلال 16 دورة حول هذا الكوكب الصامت، يقوم هؤلاء الرواد بما يفعله الكتاب عادة: يراقبون ويسجلون ويصفون الجمال الرائع للأرض خلال يوم واحد فقط.

في هذا السياق، ومن بعض الزوايا، يمكن اعتبار “مداري” انتصاراً للكتب غير الخيالية، عملاً صحافياً بديعاً. أبطال الرواية الستة، بييترو، شي، أنطون، شون، رومان، ونيل، هم شخصيات حقيقية بما يكفي، مجرد أفراد عاديين يدورون في الفضاء الخارجي داخل علبة معدنية، ولكن ليس لديهم، كيف يمكنهم؟ العمق أو التعقيد الذي تملكه شخصية كلاريسا هارلو بطلة رواية “كلاريسا” أو دوروثيا بروك بطلة رواية “ميدل مارش”، لكن هذا ليس الشاغل الأول لسامنثا هارفي. إنها تطرح الأسئلة التي طرحها بول غوغان في لوحته الشهيرة التي رسمها عام 1898: من أين أتينا؟ ولماذا نحن هنا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ وعلى متن محطة الفضاء الدولية، تتداخل هذه الأسئلة لتتحول إلى سؤال أكبر وراهن أكثر: ما معنى الحياة من دون الأرض؟

ليست “مداري” هي “قلب الظلام”، ولا تسعى لأن تكون كذلك. لكنها، مع ذلك ظاهرة من ظواهر عصرها، تماماً مثل تحفة كونراد، اختراع غريب ونادر، في بعض الأحيان جميل بطريقة غريبة، تجسيد خيالي للحظة فريدة من التعاطف، ورؤية استثنائية من هارفي لمعنى الحياة خارج كوكب الأرض. ربما يكون هذا هو ما سيبرر مطالبة “مداري” طويلاً بمكان لها في تقاليد الأدب الإنجليزي.

نقلاً عن : اندبندنت عربية