يعّبر برونو كورتي، رئيس تحرير “لو فيغارو الأدبي” عن شغفه بالأدب الأميركي من خلال كتابه الصادر حديثاً في باريس عن منشورات بلون تحت عنوان “قاموس عشقي للأدب الأميركي” (2024، 624 صفحة). فيه يتوقف أمام أهم الإصدارات الروائية التي ظهرت على مدى قرنين من الزمن كالروايات والقصص البوليسية الدموية التي وقّعها كل من صامويل داشييل هاميت وجيمس إيلروي أو تلك التي صدرت عن “كتّاب مونتانا”، والتي تندرج تحت راية أدب المساحات الشاسعة ووصف الطبيعة والتي غالباً ما ترافقت مع استكشاف النفس وحيرتها كما في روايات رايموند كارفر وريتشارد فورد وتوماس ماكغوين وتوماس سافاج وجيم هاريسون، مروراً بأدباء “نيو إنغلند” القدامى والمعاصرين، الذين تمتعت كتاباتهم بنبرة ساخرة تشبه نبرة جون إيرفينغ. هذا من دون أن ننسى أدباء الغرب الأوسط وعلى رأسهم إرنست همنغواي، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1954.
أقبل القرّاء الفرنسيون على هذه الروايات وغيرها، والتي لا تزال ترجماتها إلى اللغة الفرنسية تتصدر واجهات المكتبات أكثر من أي وقت مضى. إذ لمعت في سماء باريس أسماء هيرمان ميلفيل وناثانيال هاوثورن ووالت ويتمن وإدغار آلان بو ومارك توين ووليم فولكنر وجيمس آرثر بالدوين وراسل بانكس وبول أوستر وريتشارد فورد، وتوني موريسون، إلخ، الذين عكست أعمالهم وضع الإنسان في القارّة الجديدة.
ومثله مثل كثير من الفرنسيين الذين وُلدوا في الستينيات من القرن الماضي، وقع كورتي في حب الثقافة والأدب الأميركي باكراً من خلال الموسيقى والسينما الهوليوودية التي قادته إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي وكتّابه المنتمين إلى “البيت جينيريشن”، بحسب تعبير جاك كيرواك في وصف أصدقائه الروائيين وعلى رأسهم هولمز، ثم نورمان ميلر وجاك لندن وغيرهم؛ أي الجيل الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية وكوّن في خمسينيات القرن الماضي حركة أدبية من أبرز سماتها طحن قيود المجتمع في شتّى أشكالها وكسر الحواجز بكاملها بين الكاتب والتراكيب اللغوية.
الشغف الأميركي
في “قاموسه” الجميل يشارك برونو كورتي قرّاءه، سواء كانوا من المطلعين على هذا الأدب أو من المبتدئين في التعرّف إليه، شغفه بالكتّاب والروائيين والشعراء الأميركيين. معه نكتشف أسماء كتّاب تعرّفنا على نصوصهم ونحن بعد على مقاعد الدراسة أو أسماء أولئك الذين شاهدنا بعضهم في البرنامج التلفزيوني الأدبي الشهير “أبوستروف”، يوم استضافهم برنار بيڤو في حلقاته وحواراته الفكرية كجون شتاينبك وشارلز بوكوفسكي وغيرهما. فيه يتوقف كورتي أيضاً أمام أعمال الأدباء الذين برزوا في التسعينيات من القرن العشرين، لا سيّما أولئك الذين أثارت كتاباتهم الجدل، أمثال بريت إيستون إيليس وروايته “السيكوباتي الأميركي” التي صدرت عام 1991 وأدانها النقّاد بشدة معتبرين إياها عنيفة ومسيئة للنساء بعد أن قُدمت عرائض شتّى لحظرها.
لا يهمل كورتي كذلك الكتّاب الأقل شهرة، أولئك الذين لم تحظ رواياتهم باهتمام هوليوود مع أنها برأيه تستحق الاكتشاف بعد أن عكست حياة مليئة بالصعاب، كتجارب السجن أو الحرب في فيتنام والعراق وأفغانستان. من هؤلاء الكتّاب إدوارد باكر الذي قضى خمس عشرة سنة خلف القضبان، أو تيم أوبراين الذي عاد حياً من سايغون.
يتيح لنا هذا القاموس في “أبجديته العاطفية” إذاً الترحال عبر الزمان والمكان للتعرّف إلى مختلف جوانب الأدب الأميركي وموضوعاته المتعددة وكتّابه الذين ألهموا وأدهشوا برونو كورتي وهزّوا مشاعره، كروايات دوس باسوس ووليم فولكنر وفرنسيس سكوت فيتزجيرالد وإرنست همنغواي وغيرهم. وقد كان برونو كورتي محظوظاً بالتعرّف شخصياً إلى بعض هؤلاء الكتّاب كنورمان ميلر وجون إيرفينغ وجيمس إيلروي ودون ديليلو وراسل بانكس وبول أوستر وريتشارد فورد وجيم هاريسون وجيمس سالتر وستيفن كينغ، الذين رووا قصص “الجيل الضائع” والحرب العالمية الثانية، وحملة ملاحقة الساحرات و”البيت جينيريشن”، وعصر كينيدي ومارلين مونرو، والصحافة الجديدة وجوائز نوبل ونيويورك ولوس أنجليس وسان فرانسيسكو ولويزيانا وجيم موريسون وباتي سميث وإيليا كازان ومايكل شيمينو… فمن “موبي ديك” إلى “الملاذ”، ومن “الحرف القرمزي” إلى “الحارس في حقل الشوفان”، من “غاتسبي العظيم” إلى “الزهرة السوداء”، ومن “مانهاتن ترانسفير” إلى “وداعاً للسلاح” يجول برونو كورتي في قاموسه الشامل في أرجاء أدب يهيمن على العالم بجماله واتساع موضوعاته، عاكساً كالمرآة العالم الأميركي في تنوعه وغناه وتعدديته وتعقيداته، والذي لا يوجد أفضل من الأدب للتعرّف إليه.
الكتّاب الكبار
إلى جانب إحاطته العلمية بالأدب الأميركي، لا بد من الإشارة إلى أن برونو كورتي في “قاموس عشقي للأدب الأميركي” يقدم تحية إجلال لأولئك الكتّاب الكبار الذين أثّروا فيه، مثيراً في الوقت عينه رغبة قرّائه للتعرّف إعلى الحركات الأدبية الأميركية، بدءاً من عصر الأميركيين الأصليين وصولاً إلى يومنا هذا. يتوقف القاموس مطولاً أمام روائع مارك توين “ذكريات الحياة على ضفاف الميسيسيبي” و”مغامرات التوت الفنلندي” وأسلوبه المتأثر بالصحافة وشخصياته التي تشبه إلى حدٍّ بعيد أشخاصاً أميركيين حقيقيين يتحدثون بلهجاتهم المحلية والإقليمية؛ وأمام قصص وروايات فرنسيس سكوت فيتزجيرالد، لا سيّما “غاتسبي العظيم” التي تناولت الحالة النفسية المضطربة للأميركيين في العشرينيات من القرن العشرين؛ وكتابات إرنست همنغواي وجمله البسيطة التي ركزت على الأحداث السياسية والاجتماعية؛ ووليم فولكنر الحائز على جائزة نوبل خمس سنوات قبل همنغواي؛ وقصص جون شتاينبيك عن الطبقة العاملة ونضالها من أجل الوصول إلى حياة كريمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا من دون أن ينسى واضعه هنري ميلر ورواياته التي تشبه السيرة الذاتية والتي منعت من التداول في الولايات المتحدة. وإن ينسى فلا ينسى الروائيين الأميركيين المعاصرين أو ما يعرف بأدب ما بعد الحداثة، وهو أكثر أنواع الأدب الأميركي شهرة والذي يتخذ من مطاعم الوجبات السريعة والأنفاق أو الأسواق التجارية والمدن الكبرى مكاناً لرواياته المتحدثة عن المخدرات وجراحات التجميل والإعلانات التلفزيونية وغيرها من الموضوعات الراهنة.
كلما قلّبنا صفحات هذا القاموس، تشوّقنا لقراءة أو إعادة قراءة مارك توين وسول بيلو وتوم وولف وجوان ديديون أو ستيفن كينغ، الذين يحتلون فيه مكانة بارزة. كما نتطلع إلى التعرف إلى ناثان إنغلاندر أو هارولد برودكي وغيرهم من الأدباء الذين لا نعرف عنهم الكثير.
باختصار “قاموس عشقي للأدب الأميركي” سيل من الحب الجارف لقارئ نهم شغوف بلقاء الكُتّاب الأميركيين، الذين يحكي لنا عنهم كأنهم أصدقاؤه القدامى. بعد قراءته نزداد معرفةً وغنىً بهذا الأدب الذي عرف كورتي أن يقدم عنه “بانوراما” تاريخية جميلة مع تركيزه على الفترة المعاصرة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية