تدور أحداث مسرحية “مونولوغ”  المأخوذة عن مسرحية “البخيل ” لموليير، كما بات معروفاً، حول شخصية أورباغون البرجوازي الفرنسي المغرق في شحِّه وتقتيره حتى على أفراد عائلته، الذي يسعى إلى تزويج ابنه وابنته من أثرياء طمعاً في زيادة ثروته. أشهر بخلاء المسرح ستقابله في النسخة السورية شخصية “موفق” (خالد مولوي)، وهو هنا، وكما قدمه العرض، أحد تجار دمشق المعروف عنهم ولعهم بالإدارة والحرص على ثروتهم من الضياع والتبذير، فيما يعمل لديه خادم يدعى “بسام” (أحمد الحميدي) ويتكلم لهجة محافظة دير الزور، وهذا الخادم يسوقه العرض تنميطاً هو الآخر عن شريحة واسعة من أبناء المنطقة الشرقية في سوريا، فيما تحضر شخصية “أبو زينة” (خوشناف ظاظا) بصفته أحد تجار الحرب، وهي شخصية تتكلم “الماردلية” لهجة أهالي الجزيرة السورية (شمالَ شرقِ سوريا) الرجاء عدم تغييرها).

على هذا المنوال تسوق رنا جمول أمثلتها الشعبية، فتصدر شخصية التاجر الدمشقي التي يعمل لديها خدم من دير الزور يتحملون الإهانات اليومية من ربِّ نعمتهم، فيما تتحالف شخصية البخيل الشامي مع شخصية كردية سورية تبدو أقرب إلى شخصية مراب وتاجر ممنوعات. طبعاً اختزلت مخرجة “البخيل” عدداً من الشخصيات من النص الأصلي، مثل الأخت إليز وحبيبها الوكيل فالير والطباخ والسائس، وأبقت على صراع الأب الستيني مع ابنه “وسيم” (علي حميدة) للفوز بقلب فتاة عشرينية تدعى “وصال” (زينة المصري)، وتقابلها في النص الأصلي الحسناء ماريان، التي يكشف نص موليير أنها وفالير أشقاء وهم من أبناء نبيل من نبلاء نبولي الذي غرقت سفينته وقام ربانها برعاية ولديه من بعده.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحضر في “البخيل” السورية أيضاً شخصية “وصال” (آلاء عفاش)، وهي تقابل شخصية فروزين في النص الأصلي، لكن العرض يقدمها بصفتها إحدى السيدات اللاتي كن يعملن قبل الحرب بتوفير ليالٍ حمراء في شقق مفروشة للسياح العرب، وقد انقلبت بعد الحرب على مهنتها القديمة تلك لتعمل منجمة أبراج ومتخصصة في الطب البديل، وها هي اليوم تلتقط رزقها من صفقات تزويج كبار السن الأثرياء من فتيات صغيرات في مقابل مبالغ مالية، وحين تفشل “زهرة” في الحصول على المال من البخيل “موفق” نظراً إلى شحِّه المعهود، تلجأ إلى تقمص دور سائحة أجنبية تغوي التاجر الدمشقي بثروتها وجاهها، وهذا ما يقابل شخصية الكونتيسة في نص موليير، فبعد أن تكتشف زهرة أن الفتاة التي ترغب في تزويجها من التاجر الشامي هي ذاتها الفتاة التي وقع ابنه في غرامها، تعدل عن الفكرة، وتجعل الأب ينفر من الحسناء الشابة التي زينتها له بكلامها المعسول، فتعود وتصورها على أنها فتاة مولعة بالموضة، مبذّرة وشرهة على شتى أنواع المأكل والمشرب، مما يجعل “موفق” يُعرض عن الزواج منها، وهو لا يلقي لذلك بالاً، بل نراه طيلة العرض (100 دقيقة) يتفقد صندوق نقوده الذي طمره في حديقة بيته.

الزلزال المفاجئ

ينتهي العرض (مديرية المسارح والموسيقى) بعودة الوفاق بين الحبيبين الشابين والاتفاق على الزواج، ولكن زلزالاً سوف يضرب المكان على حين غرّة، وحينها يهرب الجميع من الشقة المهتزة الجدران، إلا البخيل يحتضن صندوق أمواله رافضاً مغادرة منزله المزدحم بصناديق كرتونية خبّأ فيها كل أثاثه وتُحفه خوفاً عليها من التلف، ومفضّلاً الموت مع المال على الحياة من دونه، فيفشل كل من ابنه وخادمه و”زهرة” و”وصال” في إقناع التاجر الدمشقي وحمله على ترك ثروته التي جمعها بحرمان أقرب المقربين له من أبسط أسباب الحياة، فدفع ولده للعمل مع مكاتب القمار في مباريات كرة القدم، وجعل زوجته وابنته تفضلان الهجرة إلى هولندا على العيش معه تحت سقفٍ واحد.

وإذا كان موليير قد شن هجوماً على طبقة أثرياء بلاده في القرن الـ17 من خلال مسرحية “البخيل”، فإن العرض السوري يفعلها هو الآخر لكن من باب النمذجة والتنميط لشرائح بأكملها من البلاد، وهما هنا شخصيتا ابن محافظة دير الزور، والكردي السوري تاجر المفروشات المستعملة، وهذا ما لم يحسب الإعداد الجديد للنص الفرنسي حسابه، ففي سبيل توفير مواقف مضحكة تم تصدير صورة نمطية عن أبناء الهامش، وقدمت اللهجة باعتبارها عنصراً من عناصر الكوميديا، في وقت كان من الممكن الاعتماد على ما يسمى باللهجة البيضاء، وعدم الانجرار إلى المباشرة الفنية في هذا الموضع من العرض.

التنميط لشخصيات سورية آتية من الأطراف إلى أحياء العاصمة ليس جديداً في الدراما السورية، ففي التلفزيون كما هي الحال في السينما والمسرح قدم عدد من تلك النماذج التي حصرتها أعمال بعينها في إطار شخصيات الخدم واللصوص وتجار الحروب والزعران وبنات الهوى، إذ تفعل اللهجة فعلها في الإسقاط على شرائح واسعة من الأرياف السورية، ويكون من الخطر بمكان توظيف لهجات الريف من دون معادل إيجابي لها على المسرح، لكنها في “البخيل” أخذت بعداً مغايراً، وبدت تصفية حساب سكان المتن السوري مع أبناء الهامش، وسوقهم مجدداً ليكونوا ضحايا أخطر ما يفعله الفن بهم، وهو القدرة على وضع الشخصيات إياها في قالب من الهزل والتهكم.

معادلة صعبة خاضتها بطلة فيلم “رسائل شفهية” في أولى تجاربها الإخراجية للمسرح، فمع أنها وفرت معادلاً فنياً مغايراً لمسرحية كُتبت منذ قرابة أربعة قرون، فإن “بخيل” موليير الذي لبس حلته الدمشقية يطرح عدداً من الأسئلة حول مركزية غاشمة للمدن الكبرى في سوريا، وهذا ما ينسحب حتى على توزيع الأدوار في عرض مسرحي، فالسيد الدمشقي هنا يتحكم بالجميع، وعليه بنت مخرجة العرض تصورها وفق سينوغرافيا مسرح فقير (ريم الماغوط) كان قوامها صناديق كرتونية احتلت معظم الفضاء للإيحاء برتابة المكان وخلوه من أي مظهر من مظاهر الحياة، فالبخيل أجهز على كل ملمح من ملامح العيش الكريم، وقام بإخفاء كل قطع أثاث بيته داخل صناديق محكمة الإغلاق، فحتى الأريكة الوحيدة المتبقية من عفش البيت قام بتغليفها بالنايلون كي لا يأكلها العث والغبار، لكن ديكور شقة البخيل ظل جاثماً طوال الوقت، ولقد حاولت الإضاءة (محمد قطان) عزل البيت عن أماكن أخرى عمدت المخرجة إلى إظهارها على جانبي الخشبة، من مثل صالة القمار ومحل بيع المفروشات المستعملة، إلا أنها أبقت على منظر طبيعي يطل عبر نافذة في عمق الخشبة على حديقة منزل متواضعة، محاولةً إبراز الجانب الجمالي للمكان.

ويمكن الإشادة بأداء الممثلين الذين بذلوا جهداً على صعيد تقديم الشخصية النمطية بقالب درامي اقترب من نمط الفودفيل، وهو نمط من الأداء المتهكم الهزلي ربما انزلق في مواضع كثيرة من العرض إلى السخرية مما هو غير لائق أخلاقياً مثل خصال الشخص البخيل، وليتحول إلى السخرية مما هو غير لائق اجتماعياً من مثل زواج الرجل المُسن من فتاة شابة. كل هذا جرى بالاتكاء على مكياج لافت (منوّر عقاد) انسجمت الأزياء (يوسف النوري) معه، وسعت إلى إضفاء نوع من الأداء البراني عبر مبالغات في ألوان فاقعة للشخصيات، التي تنوعت بين الأحمر والأخضر والأصفر والأبيض في محاكاة لكوميديا الموقف، وإبراز نماذج من محدثي النعمة وأرباب غسيل الأموال.

نقلاً عن : اندبندنت عربية