بدأت السلطات السودانية في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، ولمدة 13 يوماً عملية استبدال عملتها المحلية (الجنيه) من فئتي الألف (1000) والخمسمئة (500) جنيه عن طريق الإيداع البنكي، على ألا يتجاوز سقف السحب اليومي الـ200 ألف جنيه. وتشمل عملية الاستبدال ثماني ولايات من أصل 18 ولاية هي البحر الأحمر، ونهر النيل، والشمالية، وكسلا، والقضارف، والنيل الأزرق، وولاية سنار، والنيل الأبيض.
وبحسب بنك السودان المركزي، فإن عملية استبدال العملة تأتي في إطار تصحيح الأوضاع التي فرضتها الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” منذ 20 شهراً، في حين تستهدف نحو 200 تريليون جنيه من الكتلة النقدية الموجودة خارج النظام المصرفي والتي تصل نسبتها إلى 90 في المئة من إجمالي حجمها البالغ 900 تريليون جنيه، مما أدى إلى فقدان الحكومة السيطرة عليه. فإلى أي مدى يمكن أن تسهم هذه العملية في ضبط الأموال المنهوبة من البنوك خلال الحرب التي تقدر بالمليارات، فضلاً عن العملات مجهولة المصدر (المزورة) غير المطابقة للمواصفات الفنية؟

تأخر العملية

ورأى الباحث الاقتصادي عمر محجوب الحسن أن “قرار تبديل العملة لن يسهم في ضبط الأموال المنهوبة بصورة كبيرة، نظراً لتأخر هذه العملية كثيراً، مما أتاح التصرف في تلك الأموال سواء من خلال شراء الدولار، أو شراء سيارات أو عقارات أو مزاولة أعمال تجارية، إضافة إلى أن معظم تلك الأموال انتقلت إلى أماكن سيطرة الدعم السريع”.
وتابع الحسن “كذلك لن تسهم هذه العملية في تصحيح مسار الاقتصاد الذى يعانى من مشكلات كبيرة على مستوى الإنتاج والناتج المحلي الإجمالي، بخاصة وأن الوضع تفاقم بعد الحرب، إلى جانب تراجع إيرادات الدولة بأكثر من نسبة 80 في المئة وانخفضت الصادرات بأكثر من 70 في المئة، وتأثر إنتاج النفط وتراجع من 55 ألف برميل يومياً قبل الحرب إلى 18 ألفاً مع توقف الخط الناقل للبترول القادم من جنوب السودان، في ظل حاجة البلاد إلى عدد كبير من السلع لتعويض النقص الذي حدث في السلع الأساسية نتيجة توقف المصانع عن العمل”.
ويُعتقد أن استبدال العملة يفيد في حال تم فتح حسابات للعملاء وإرجاع جزء كبير من الكتلة النقدية إلى الجهاز المصرفي، وبالتالي الحد من ارتفاع مستويات التضخم، ورفع نسبة الشمول المالي.
واستبعد الباحث الاقتصادي توقف عمليات التزوير، لكنه أعرب عن ثقته في إمكانية الحد منها مستقبلاً إذا توافرت سبل الكشف عن العملات المزورة، من أجهزة ومعدات، فضلاً عن الانتقال إلى إجراء كل العمليات المالية إلكترونياً واتساع دائرة الشمول المالي، وبات التداول النقدي في أدنى المستويات، وهذا يتطلب بنية تحتية قوية للاتصالات وديمومة التيار الكهربائي، وربط إلكتروني في ما بين البنوك.

مصاعب ومعوقات

​في السياق، أوضح المتخصص في المجال المصرفي، إبراهيم أحمد جبريل أنه “عادةً ما يكون تغيير العملة عموماً لأي دولة، له دوافع وأهداف مثل إيجاد عملة أكثر جودة وتقنية واستبدال القديم التالف من الناحية الشكلية، أما الدوافع الأخرى فأهمها عودة الأموال المتداولة خارج القطاع المصرفي إلى المصارف، وتوفير السيولة في المصارف، وطبعاً هذه خطوة مهمة جداً ضمن إطار محاربة غسيل الأموال إذا طُبقت بموجب ضوابط ومتطلبات الأمم المتحدة، فضلاً عن ضبط العملات المزورة إذا توافرت أدوات الكشف، وبالتالي ينخفض التضخم والتجارة الشكلية غير الإنتاجية، إضافة إلى أهداف أخرى. لكن من الصعب ضبط الأموال التي نهبتها قوات ‘الدعم السريع’ من البنوك مع اندلاع الحرب لأنه قد يكون تم إدخالها في تجارة السلع أو تحويلها إلى أصول ثابتة أو متحركة أو عملات صعبة”. وأضاف أن “عملية تغيير العملة تأخرت كثيراً، إذ كانت ضرورة ملحة خلال فترة النظام السابق، وكذلك خلال الفترة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، إذ كان يمكن أن تسهم بشكل كبير في محاربة التضخم، ونأمل في أن يكون هذا التغيير الأخير”.
ولفت جبريل إلى أن “الخطوات المتبعة حالياً لاستبدال العملة تعترضها معوقات كبيرة، فضلاً عن أنها تمت في ظروف معقدة، وأول المصاعب الظروف الأمنية المعقدة والانتشار المصرفي في ربوع البلاد، إضافة إلى الملزمات التقنية التي تعوض التداول النقدي، إذ إن بعض البنوك تقدمت لدرجة كبيرة في الخدمات التقنية حتى أصبح فتح الحساب إلكترونياً، لكن ذلك لا يكفي فلا بد من توفير متطلبات التجارة الإلكترونية”.
وبيّن أن “التجربة الهندية في تغيير العملة نجحت قبل سنوات قليلة نظراً لاستباب الأمن والتقدم التكنولوجي فبلغت فترة التغيير شهراً واحداً فقط عبر القطاع المصرفي ولم تحتج لأي تمديد، لكن نجاحها في بلادنا يتطلب اتباع حزمة إجراءات اقتصادية وسياسية مثل معالجة الأموال التي تقع في مناطق ليست بها مصارف، فضلاً عن صعوبة نقل الأموال، فيما أتوقع أن تتحول العملة نفسها إلى سلعة أو يلجأ أهل تلك المناطق إلى شراء العملات الأجنبية بأعلى الأسعار”.
ورأى المتخصص في المجال المصرفي أنه “بإمكان تغيير العملة أن يحدث تقدماً إذا رافقته نهاية للحرب وضوابط أخرى وإيجاد حلول للتصدير والاستيراد وإلغاء الموارد الذاتية، وبحسب توقعاتي فإن عملية التغيير قد تمتد حتى نهاية الحرب مما ينتج منه إرباكاً شديداً، وبشكل عام إن أي اقتصاد لا يفكر بالحلول الإنتاجية واستثمار موارده بصورة مثلى وإدارة عائداته سيظل فاشلاً”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استقرار سياسي

من جانبه، أفاد أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور بأن “الإصلاح النقدي هو عملية حيوية تهدف إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي عبر مجموعة من التدابير المالية والسياسات النقدية، كما يعد ضرورة بخاصة في الدول التي تعاني من التضخم المفرط، وتدهور قيمة العملة، وانخفاض القدرة الشرائية. ولكن تحقيقه يتطلب توافر شروط اقتصادية ومالية محددة، من بينها استقرار الوضع السياسي، وتوفير احتياطيات كافية من النقد الأجنبي، وسيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية، ومن البديهي أن تغيير الفئات النقدية للوحدة النقدية يتم ضمن حزم الإصلاح النقدي وليس كأجراء معزول”.
وأكد محمد نور أن “طباعة عملة جديدة بخاصة بفئات نقدية كبيرة مثل فئتي خمسمئة وألف جنيه سوداني خلال فترة الحرب، يعد خطوة محفوفة بالأخطار، فالإقدام عليها من دون تغطية مالية كافية يؤدي إلى التضخم الجامح، فضلاً عن تراجع قيمة العملة بشكل سريع، مما قد يفاقم الأزمة الاقتصادية الحادة أصلاً، كما تؤدي هذه الإجراءات إلى زيادة الكتلة النقدية في الاقتصاد من دون دعم حقيقي من الإنتاج أو التصدير، مما يعزز فوضى السوق النقدية ويزيد الطلب على العملات الأجنبية”.

وزاد أنه “يضاف إلى ذلك الخطورة السياسية التي تؤدي إلى عزل مناطق واسعة من البلاد عن تداول الفئات الجديدة، كونها تقع تحت سيطرة ‘الدعم السريع’، إضافة إلى عدم وجود مصارف عاملة في تلك المناطق. ومن البديهي أن ملايين السودانيين يعيشون تحت سيطرة ميليشيات ‘الدعم السريع’، لكنهم يستخدمون تطبيقات مصرفية سيلحق بها الضرر نتيجة صعوبة السحب والإيداع بين الفئات القديمة والجديدة”.
وأشار أستاذ الاقتصاد السياسي إلى أن “ضبط الأموال التي تم نهبها من البنوك في بداية الحرب عن طريق عملية الاستبدال الجارية الآن، أمر مستحيل. وليس بإمكان أحد معرفة حجم العملات المزورة المتداولة في ظل الفوضى التي تشهدها البلاد، لكن من الممكن تزوير أي عملية إذا توافرت الإمكانات المادية والتقنية العالية”، مبيناً أن “أحد أهداف استبدال العملة هو إخراج العملات الموجودة في مناطق سيطرة ‘الدعم السريع’ من التداول”.

صراع داخلي

وكان بنك السودان المركزي قال إن قرار تبديل العملة جاء لحماية العملة الوطنية، وضبط الانفلات في أسعار الصرف في السوق الموازية، إضافة إلى معالجة الآثار السلبية للحرب الدائرة بالبلاد منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، وانتشار كميات كبيرة من العملات مجهولة المصدر غير المطابقة للمواصفات الفنية، الأمر الذي أدى إلى زيادة مستوى السيولة النقدية بشكل واضح، وكان له أثر سلبي على استقرار المستوى العام للأسعار.
لكن هذا القرار لقي رفضاً من قبل “قوات الدعم السريع” التي رأت في بيان أن “السلطة القائمة في بورتسودان لجأت إلى طرح العملة النقدية الجديدة لتغطية العجز في الإيرادات، وتمويل كلفة الحرب”، وبالتالي فإنها لن تسمح بتمرير أجندات ما سمتها “الدولة القديمة”، ودعت السودانيين إلى رفض القرار وعدم إيداع أموالهم، وعدم التعامل بالعملة الجديدة، ووصفت الخطوة بأنها “مشروع لتقسيم السودان”. وأضافت أن “هذه الخطوة لا تستند إلى مسوغ قانوني، وتبطله نظم الحماية المالية للأفراد في ظل الكوارث والحروب، وتبقى محض تهور اقتصادي لتحقيق أهداف سياسية معلومة”.
ومنذ اندلاع الحرب وتمددها إلى 12 ولاية، تعرضت المصارف السودانية في مناطق الاقتتال لعمليات نهب وتدمير واسعة بجانب عمليات تزوير العملة النقدية، فضلاً عن تراجع قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، حيث بلغ سعر صرف الدولار الواحد 2300 جنيه سوداني في السوق الموازية، أي نحو أربعة أضعاف تداوله قبل اندلاع الحرب.
ويواجه الاقتصاد السوداني مستويات عالية من التضخم تجاوزت نسبة 300 في المئة بحسب أحدث التقديرات، في ظل تداول 90 في المئة من الكتلة النقدية خارج دائرة القطاع المصرفي.

نقلاً عن : اندبندنت عربية